ممكن نرجع كل التصورات المتحيزة للرجالة لواقع إن اﻵباء (الرجالة) دايما غايبين عن حياة العيال في حين إن اﻷمهات (الستات) بتحتل وجودهم كله.

البز الطيب والبز الشرير

مقال حسين الحاج


ميلاني كلاين (على اليمين) ودوروثي دينرستين (على اليسار)

إشمعنى اﻷم اللي مدرسة؟ وهل لو اﻷم مدرسة يبقى اﻷب هو ناظرها؟ يا سلام على التشبيهات! بس لو كان دور الست الوالدة مقدس قوي كدا، مظاهر احتقار الستات اللي بنشوفها ونسمعها كل يوم جاية منين؟ مش غريبة شوية الطريقة اللي ثقافتنا بتبص بيها على اﻷمهات من جهة والستات من ناحية تانية وكأنهم مش نفس الناس! أوضح مثال في بالي دلوقتي إفيه محمد هنيدي الشهير في فيلم صعيدي في الجامعة اﻷمريكية لما قال، "يا على، ما تآمنش لحرمة غير أمك، ولو أبوك طلقها ما تآمنلهاش".

عالمة النفس والناشطة النسوية البيئية دوروثي دينرستين Dorothy Dinnerstein في كتابها المنسي "عروس البحر والمينوتور: الترتيبات الجنسية والاعتلال اﻹنساني" بتقدم تفسير مش بس لاحتقار الستات، لكن كمان للعنف في العالم، باعتبارهم نتايج حتمية لتحميل اﻷمهات مسؤولية تربية العيال بالكامل. دوروثي شايفة إن حقد العيال على قدرة أمهاتهم في رعايتهم مع انعدام قدرتهم على رعاية أنفسهم بيربي جواهم رغبة في تدمير "البز الشرير".

البز الشرير Bad Breast مصطلح للمحللة النفسية النمساوية ميلاني كلاين Melanie Klein، اللي كانت من أشهر مؤسسي علم نفس الطفل واشتهرت بتحليلها النفسي للأطفال من خلال النظرية الفرويدية باستعمال اﻷلعاب، ومن هنا اتقال إن فرويد لقى الطفل جوه الشخص الناضج وميلاني كلاين لقت الرضيع اللي جوه الطفل. كلاين طورت نظرية "العلاقات الشيئية" اللي بتركز فيها على العلاقات بين اﻷشياء في العالم الخارجي وانعكاسها جوه نفوس الناس، وفكرت إن أول شيء ممكن ينعكس جوه نفس اﻹنسان هو صدر أمه.

صدر اﻷم بالنسبة للعيل هو مصدر الحياة كلها في الشعور بالشبع المادي والوجداني وغيابه عنه معناه اﻷلم من الجوع والحرمان العاطفي، ولما اﻷم بتغيب عن العيل أو بترفض إنها تلبي احتياجاته، مشاعر العيل بتتطور ناحية أمه وصدرها بشكل متناقض ومتضارب. كلاين شايفة إن حاجة العيل لأمه بيزيد من تعلقه بيها من ناحية لكن كمان بيزود قلقه وتوتره من غيابها، ومن هنا العيل بيشوف إن نفس الصدر اللي بيشبعه (بز طيب) قادر إنه يجوعه (بز شرير). وما بيبقاش فيه حل للتناقض دا في نفسية العيل غير إنه يقتل أمه في خياله ويدمر البز الشرير، وبعد كدا يكتشف إنه قتل مصدر الحب وموضوعه المتمثل في أمه فيحس بالذنب والذنب يدفعه للإكتئاب، ومن هنا الرضيع بيختبر دافع الموت أو النزعة التدميرية ﻷول مرة في حياته.

في سنة 1957، قدمت ميلاني كلاين آخر أهم إسهاماتها في نظرية التحليل النفسي في ورقة بعنوان "الحقد والامتنان: دراسة في مصادر اللاوعي" حوالين المشاعر اﻷولى للعيل ناحية أمه، وكانت شايفة إن اعتمادية العيل على أمه في إنها ترضعه (الشبع المادي) وتهننه (الشبع الوجداني) بتربي جواه مشاعر سلبية ناحيتها في أوقات الحرمان، ببساطة ﻹن العيل لما كان في بطن أمه ما كانش يعرف معنى الحرمان. بناءً على نظرية "العلاقات الشيئية" اللي شايفة إن صدر اﻷم بينعكس في خيال العيل بعد الولادة، كلاين لخصت المشاعر السلبية اﻷولى اللي العيل بيحس بيها في شعوره بالحقد على صدر أمه، ﻹن الحقد بيخلي الطفل يخلط بين البز الطيب والبز الشرير ويبقى عايز يدمرهم سوا بما إنهم سبب اضطرابه الوجودي. 

بالاستعانة بعناصر من التحليل النفسي الفرويدي اللي طورته ميلاني كلاين وتحديدًا دراستها "الحقد والامتنان"، دينرستين كانت شايفة إن الستات بيتلاموا على مصايب الدنيا بسبب تصور الطفولة المبكرة اللي بيشوف إن اﻷم هي اللي بتاخد بالها من كل حاجة، فلو فيه مشكلة ما، يبقى الحق على اﻷم إنها ما صلحتهاش، وعشان كدا الستات بتصبح مصب الحقد الطفولي تجاه نماذج السلطة ﻹنهم كانوا نماذج السلطة المتحكمة خلال فترة الطفولة، وكل ما الفترة بتطول الحقد بيكون أكبر، والرجالة لما بتكبر بتستعمل الذكورية واﻷبوية عشان ينتقموا من نماذج السلطة اﻷولى دي. أطروحة دينرستين قايمة إننا ممكن نرجع كل التصورات المتحيزة للرجالة لواقع إن اﻵباء (الرجالة) دايما غايبين عن حياة العيال في حين إن اﻷمهات (الستات) بتحتل وجودهم كله. دينرستين كانت مشغولة بالطرق اللي العصابيات دي بتظهر في العلاقة التدميرية الاستغلالية الكارثية مع الطبيعة اﻷم تحت العبادة الصنمية للتكنولوجيا المتقدمة. ومن اﻵخر، كوننا "تربية ستات" بيشجع الناس تقدر الصفات المرتبطة بالذكر بزيادة، واللي بتضم النزعة للقسوة والسيطرة، واللي تجلت في أيام دينرستين في صناعة اﻷسلحة النووية. 

طبعًا فيه رجالة بيشاركوا في التربية، لكن ما نقدرش ننكر إن في كل حتة في العالم تعب العيال بيقع على كتاف الستات أكتر من الرجالة، لو ما كانتش اﻷم الوالدة موجودة، فيه الجدة أو العمة أو الخالة أو اﻷخت أو المرضعة والمربية عشان تحل محلها. إحنا مسلّمين إن الوحيدين اللي يقدروا على مهمة تنشئة اﻷطفال لازم تكون أمهاتهم أو اللي متعلقين بيهم عادة، يعني حد في بزه لبن، ولو مفيش لبن يبقى عنده بز وخلاص. بس دي مش حتمية بيولوجية، اﻷفكار دي مش بتتكون لما العيال بيتعلموا إن فيه واحدة ست خلفتهم، لكن من خلال التجربة اللي بتقولهم إن الستات بس اللي بيعرفوا يشيلوا تعبهم. لو العيال شافت من وقت الولادة إن مشاركة الستات والرجالة بتكمل بعضها عشان يربوهم، فكرة إن فيه نوع اجتماعي واحد عنده سيطرة على الحياة مش هيبقى ليها مكان في راسهم. إحنا بس بنفضل مصدقين إن فيه علاقة خاصة وحصرية بين الستات والعيال في حين إن علاقة العيل بأبوه بتبان هشة ومش مهمة للدرجة، والاعتقاد دا مكمل معانا كتير ﻹنه بيعيد نفسه في كل مرة اﻷب بيرمي واجبات الرعاية على كتاف اﻷم.

دينرستين اقترحت في آخر كتابها "عروس البحر والمينوتور" إن الرجالة والستات لازم يتشاركوا مسؤوليات رعاية الرضع واﻷطفال، واعترفت إن فيه أسر كتير بدأت تتحول ناحية التربية المشتركة لكن ﻷسباب مالهاش علاقة بعواقب تربية الستات، عشان كدا قالت إنها عايزة تربية مشتركة واعية بالكامل بكل الاعتبارات دي، وإن لازم المجهودات دي تكون مدعومة بالمساواة في المجالات السياسية والاقتصادية والقانونية. 

كتاب دينرستين يعتبر علامة من علامات الموجة النسوية التانية في السبعينيات. كمان نقدر نعتبر دوروثي دينرستين منتمية لتيار اليسار الفرويدي اللي بيضم أسماء منظرين زي فيلهلم رايش وإيريك فروم وهربرت ماركوزه ونورمان أو. براون. اليسار الفرويدي شايف إن الحضارة الرأسمالية هي السبب الرئيسي في الكبت وبقية العصابيات واﻷمراض النفسية اللي نفوس الناس بتعاني منها. دوروثي دينرستين شايفة إن تيار اليسار الفرويدي صح في أفكاره الاجتماعية النفسية، لكنه بيغفل جانب مهم في تحليلاته، وهو إن كل ملاحظاتهم واستنتاجاتهم ناتجة عن مجتمعات وبيوت فيها اﻷمهات لوحدها اللي بتربي العيال، وهما بيتعاملوا مع الواقع دا باعتباره شيء حتمي و"طبيعي" وما تعبوش نفسهم في مراجعة الطرق اللي الجانب دا بيأثر بيها على أفكارهم، وإلى أي مدى مجرد تغيير في الطريقة اللي العيال بيتربوا بيها مش بس ممكن يخلق علاقات مختلفة بين الجنسين، لكن نفوس جديدة وطريقة جديدة في التعامل مع العالم وفهمه.


* المقال خاص بـ Boring Books

** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه