موسوعة الملل | الطاعون العاطفي 

مقال لحسين الحاج

إهداء لروح سارة حجازي

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


فلهلم رايش، عن bodypsychotherapy

راجل شاف ولد وبنت بيبوسوا بعض في جنب الشارع بالليل، جري بسرعة عشان ينده عسكري يقبض عليهم بتهمة ارتكاب فعل فاضح في الطريق العام. لما نوقف المشهد ونرجعه ورا للأول تاني، نلاقيه مواطن نموذجي (شريف وصالح) ما يعرفش لا الولد ولا البنت، لكن وهو كان مروح في طريقه للبيت، فجأة شافهم بيبوسوا بعض. لما نسرَّع المشهد ﻵخره ونشوف العسكري ماسك الولد والبنت وهو بيحاول يجرهم على القسم عشان يعمل لهم محضر، هنلاقي المواطن واقف بيبص عليهم من بعيد بتشفي رهيب وانتصار عظيم. الشعور دا بالتشفي المحلل النفسي فيلهلم رايش (Wilhelm Reich) بيسميه الطاعون العاطفي (emotional plague).

السؤال المهم مش إيه هو الطاعون العاطفي قد ما هو إيه علاقة الراجل اللي بيشوف اتنين أغراب بيبوسوا بعض باستدعاء الشرطة ليهم؟ في تفسير رايش العلاقة واقعة في تطور الكبت الجنسي عند المواطن إياه إلى شعور بالحقد والعداء تجاه ممارسة الولد والبنت الحب في المجال العام. الشعور ده بيدفعه لاستدعاء السلطة إنها تيجي تحرمهم عشان يحسوا بنفس الحرمان اللي بيعاني منه ويستمتع برؤية حرمانهم من الحب. الميزة اللي ميزت فكر رايش دونًا عن بقية تلامذة سيجموند فرويد التانيين إنه قدر يمد أفكار فرويد في التحليل النفسي بره العلاقات اﻷسرية النووية إلى إنها تشمل المجتمع اﻷوروبي كله في لحظة صعود الفاشية في تلاتينيات القرن الماضي. سبب كده إن رايش طور تحليلاته لنظرية فرويد عن الليبيدو (حافز اللذة ودافع الحياة) تدريجيًا من بعد الحرب العالمية اﻷولى بعيدًا عن بقية مدرسة فرويد. في كتابه «وظيفة هزة الجماع»، اتكلم عن مركزية الليبيدو في حياة البشر وضرورة إشباعه في الفرد من الطفولة للكبر، وإن ده اللي بيمثل العامل اﻷهم في عملية نضوج اﻹنسان السوي، وإن الفشل في الشعور باﻹشباع بيأدي مع اﻹحساس بالحرمان لوجود دافع تاني نقيض للدافع اﻷول اللي بيسميه فرويد بالثاناتوس (دافع الموت وحافز التدمير)، وكمان اتكلم عن اﻹعاقات النفسية الناتجة عن عدم التعامل مع الدافع اﻷول بطريقة صحية وإزاي ممكن نعالجها من خلال الوصول المستمر لهزة الجماع في الجنسين.

من هنا مصطلح الطاعون العاطفي بيوصف النزعة التدميرية عند بعض الأفراد نحو حرمان ناس آخرين مالهمش صلة قرابة بيهم من إشباع دافع اللذة عندهم. التأكيد على عدم وجود صلة القرابة مهم، ﻹن التحليل النفسي الفرويدي وقت ظهور أفكار رايش كان موضع شغله الرئيسي هو علاقات القرابة (اﻷسرة) والعلاقات الغيبية (اﻷديان)، لكن رايش قدر يوسّع التحليل الفرويدي ﻹنه يشمل العلاقات الاجتماعية السياسية من خلال تبني منهج المادية التاريخية الماركسي، وده خلاه رائد تيار اليسار الفرويدي اللي بيضم كمان منظرين مدرسة فرانكفورت زي إريش فروم (Erich Fromm) وهربرت ماركوزه ( (Herbert Marcuse). في كل اﻷحوال، فرويد نفسه كان مدرك الشمولية لما ألّف كتاب زي «قلق في الحضارة». فكرة الكتاب بتقوم على إن دايمًا في اضطراب في أي حضارة ناتج عن أي حضارة مش ممكن تقوم من غير كبت غرايز اﻹنسان من خلال تحسيس اﻹنسان بالذنب وزرعه فيه طول الوقت، ومن غير الشعور دا مفيش حضارة هتقوم، بس من ناحية تانية الشعور دا بيتعس اﻹنسان وبيولد جواه النزعة اللي بتخليه يدمر الحضارة دي نفسها.

صفة الطاعون بتشير للطبيعة المُعدية للنزعة التدميرية دي، بمعنى قدرة انتقالها من الفرد المطعون عاطفيًا لغيره السليم بمجرد المخالطة الاجتماعية عن طريق تحفيز تصرفاته العصابية ضد الغرباء. تفشي العدوى النفسية دي من وجهة نظر رايش هو السبب في دعم جماهير اﻷنظمة الشمولية للدولة السلطوية، رغم إنها واقفة بوضوح ضد مصلحتهم. في كتاب «تحليل علم النفس الجماهيري للفاشية»، رايش بيبص على اﻷسرة النووية باعتبارها واحدة من أهم مؤسسات الدولة السلطوية، ﻷنها أصلح مكان ﻹعادة إنتاج الشخص المحافظ الرجعي اللي فيه السلطة اﻷبوية حاضرة بقوة، منبع كل التصرفات العصابية.

رايش استخدم معرفته الطبية في محاولاته لتشخيص آثار الكبت الجنسي جسديًا، وابتكر مصطلح «درع الشخصية» عشان يعبر عن الحالة المرضية للشخص المطعون عاطفيًا. طبقًا لرايش، فآليات الدفاع النفسية اللي اﻷفراد بيعملوها عشان يتجنبوا مواجهة عصابياتهم المسيطرة على نفوسهم بتأثر على تصرفاتهم الجسدية وسلوكهم البدني عمومًا كمان كأنهم لابسين دروع وماشيين زي اﻵلات، ومن هنا رايش بدأ يدرس بدقة الاستجابات الجسدية للمحفزات (الجنسية بالتحديد)، ويطور معالجة نفسية قادرة على اختراق الدروع العضلية دي. الممارسة العلاجية دي اتطورت بعد كده في علاجات نفسية تانية زي العلاج الجشطالتي (gestalt therapy) والسوما ثيرابي somatherapy وتقنيات العلاج بالرقص والحركة.

تشخيص رايش للفاشية ما كانش استثنائي تمامًا، حتى وإن كان سابق على دراسات تانية زي دراسة الشخصية السلطوية اللي شارك فيها المنظر اﻷلماني ثيودور أدورنو في جامعة كاليفورنيا بعد الحرب العالمية التانية مباشرة، لكنه كان أكتر اﻹسهامات الفكرية المتنازع عليها. في النهاية رايش كان مكروه من تيار التحليل النفسي الفرويدي ﻹنه كان شيوعي أكتر من اللازم. كان مكروه من الشيوعيين الستالينيين ﻹنه كان تحرري أكتر من اللازم، وكان مكروه من بقية مدارس العلوم الاجتماعية ﻹنه كان مادي وعلموي أكتر من اللازم. ورغم إن رايش ما كانش أول واحد يوصل للاستنتاجات المادية النفسية والشخصية الاجتماعية دي، ﻹن تلميذ فرويد اﻷسبق في الراديكالية أوتو جروس (Otto Gross) كان قدم تحليلات مشابهة للمجتمعات البرجوازية قبل ما يموت بإدمان الكوكايين اللي فرويد نفسه وصفهوله كعلاج، إلا إن وصول كتابات رايش للتيار المناهض للطب النفسي أثبتت أهمية تحليلاته بعد كدا.

بالعودة للمواطن المحرض على الولد والبنت، اللي رايش مرة سماه «الرجل الضئيل»، بنلاقي إن تصرفه ما كانش مجرد تصرف أخلاقي لكن تصرف سياسي، ﻹنه بيستدعي السلطة في المكان اللي هي غايبة عنه، في المكان اللي بتغيب عنه القوة المنظمة للحضارة واللي بتقمع غرايز الناس عشان تفرض النظام. في المقابل، رايش من خلال كتابه «الثورة الجنسية» كان هيبقى شايف إن التأكيد على دافع الحياة عند الولد والبنت من خلال حبهم لبعض في الشارع بيخلي مقاومتهم أكبر للسلطة ﻹنهم في النهاية بيقدروا يفلتوا من العسكري ويزوغوا منه في الشوارع الضلمة.