يعتقد دولوز بوجود سياسةٍ للفن، وللعلم، وسياسةٍ للفلسفة. ولكنه، إذا أمكن لي القول، لا يعتقد بوجود سياسةٍ للسياسة. فبالنسبة له، السياسة مبدأ للخلق، وليست خلقًا بحد ذاتها. عندما لا تكون السياسة مبدأً للفن أو العلم أو الفلسفة، فلن تكون شيئًا آخر غير تحليلٍ للرأسمالية.

مقال آلان باديو: «هل ثمة شيء كسياسة دولوزية؟»

ترجمه عن الفرنسية: وليم العوطة


جيل دولوز بعدسة جيرار أوفيرا

في السياسة الدولوزية

سؤالي هو: «هل من الممكن التعرف إلى شيء ما بوصفه سياسةً دولوزية؟». وهو سؤال بمنتهى الصعوبة. لا شك أن العديد من المناضلين السياسيين يشيرون إلى مفاهيم دولوزية مثل «الصيرورة»، و«الرغبة»، و«الأقليات» إلخ، ولكن ذلك لا يكفي لكي نتحدث عن «سياسة دولوزية». في الواقع، يطرح السؤالُ مشكلاتٍ عدة.

المشكلة الأولى أن دولوز لا يعزل السياسة بما هي شيء يجب التفكير فيه كما هو، وبحد ذاته، أي كفكرٍ محدَد. وكما نعلم، ففي [كتابهما] ما الفلسفة؟، يعدد دولوز وجاتاري ثلاثة أنماط من الفكر: العلم والفن والفلسفة. يفكر العلم بالدَّالات (functions)، والفن بالمُدرَكَات (percepts) والانفعالات (affects)، والفلسفة هي خلق المفاهيم. للوهلة الأولى، لا يوجد، في هذا التصنيف، مطرحٌ للسياسة.

المشكلة الثانية من طبيعة ذاتية. لا نستطيع القول إن دولوز منهمكٌ جدًا بالسياسة. لا ريب أنه كتب نصوصًا كثيرة مع جاتاري تحتوي على «مفهومات سياسية»، ولكن حين يكتب دولوز لوحده لا يقول بالمرة إن نتاجه الفلسفي يظهر وفق شروط السياسة. يمكن لسارتر، وألتوسير، وأحيانًا دريدا أو ليوتار أو نانسي، أن يقولوا بأن للفلسفة وجهةً سياسية. ولكن دولوز لا يفعل ذلك، فهو يكتب، على سبيل المثال، في المفاوضات (Pourparlers): «ما يهمني هي العلاقات بين الفنون والعلوم والفلسفة»، ولكنه لم يكتب يومًا أن ما يهمه هو العلاقات بين السياسة والفلسفة.

ومع ذلك، نعلمُ أن دولوز يتحدث عن السياسة. إذًا، ما هي هذه «السياسة» التي يتحدث أو يكتب عنها دولوز؟ في المفاوضات مثلًا، توجد خمسة أقسام: الأول عن الضد- أوديب والألف هضبة؛ والثاني عن السينما؛ والثالث عن فوكو؛ والرابع عن الفلسفة؛ والخامس عن السياسة.

ولكن هنا نقع على المشكلة الثالثة. هل نجد، في القسم المكرَّس للسياسة، اعتبارات عينية بخصوص التوجهات السياسية؟ لا. نجد، تحت مسمى السياسة، نوعين من الأشياء. أولًا، نظرية، أو فلسفة، في التاريخ تقترح ثلاث مراحل في التاريخ الكوني: في البدء، «مجتمعات السيادة»، وتليها، بعد الثورة الفرنسية، «مجتمعات الانضباط»، وفي الختام، «مجتمعات التحكم» التي تتطور في أيامنا هذه. هذه بالفعل خطاطة تاريخية كبيرة، ونوع من إعادة بناء بعد-هيجيلية للصيرورة العامة للمجتمعات البشرية. ولكن هنا، وهذه هي النقطة الثانية، لا يُظهر دولوز همًا حقيقيًا كمؤرخ. يوجد في فلسفته، كما عند نيتشه، ضد-تاريخانية عنيفة.

يمر التمييز الحاسم بين «التاريخ» و«الصيرورة». بالنسبة لي، هذا النص أساسي: «ليست الصيرورة جزءًا من التاريخ [...] إنها تنطوي على خلق شيء جديد». بعد ذلك، نجد المثل النموذجي عند دولوز: مايو 68 كان إبداءً ومداهمةً للصيرورة في حالتها المحضة. ومن ثمَّ، فالصيرورة في حالتها المحضة لم تكن جزءًا من التاريخ.

إذا لم تكن السياسة شيئًا آخر سوى الإدارة التنفيذية للقضايا، وحكم المدينة، فهي، إذًا، من التاريخ، وتكون جزءًا من التاريخ. يجب أن نقول: السياسة، ما عدا في فترةٍ مثل مايو 68، ليست من التاريخ، لأن السياسة كان عليها أن تخلقَ شيئًا جديدًا.

ومع ذلك، تبقى الصعوبة كبيرة جدًا. يوجد، أولاً، نصوصٌ يؤكد فيها دولوز العكس، وفيها يؤيد أن السياسة ليست خلقًا عمليًا، بل تحليلاً نظريًا. مثلاً، حين يعلن بأن «على الفلسفة السياسية أن تتحول إلى تحليلٍ للرأسمالية والأدوات التي تتطور بها». من وجهة النظر هذه تكون السياسة تحليل الرأسمالية، وليست بالمرة خلق شيء جديد. ولكن، أيوجد رابط بين هذين التعريفين؟ هنا لب المشكلة. إذا كانت الفلسفة السياسية تحليلاً للرأسمالية، ستكون الفلسفة السياسية جزءًا من فلسفة التاريخ. ولكن السياسة بما هي خلقٌ ليست جزءًا من التاريخ. نقع هنا على توترٍ شديد بين الشرطِ المسبق للسياسة (الرأسمالية، التمييز بين الأنماط المختلفة من المجتمعات المذكورة أعلاه) من ناحية، وبين الصيرورة في حالتها المحضة، كما في مايو 68، من ناحية ثانية. على الرغم من ذلك، أعتقد بإمكانية تفسير كامل لهذه الصعوبة.

يُعلن «المبدأ السياسي» عند دولوز أن «الصيرورة أكثر اهمية من التاريخ». عليكم أن تخلقوا شيئًا جديدًا. مجتمع التحكم هو، فقط، تنظيمٌ لحظر هذه الصيرورة. وهكذا، فالسياسة، السياسة الصحيحة، هي تحرير الرغبة والصيرورة. غير أن الخلق نفسه ليس هو السياسة. الخلق هو فنٌ (خلق مُدرَكَات)، وعلمٌ (خلق دالَّات)، وفلسفة (خلق مفاهيم). يمكننا إذًا أن نقول إنه إذا كانت السياسة، مفهومةً كمبدإٍ سياسي (الصيرورة التي تمر قبل التاريخ)، ليست شكلاً منفصلاً للفكر، فلأن السياسة مبدأ، لا للسياسة، بل للفن، والعلم، أو الفلسفة. 

يعتقد دولوز بوجود سياسةٍ للفن، وللعلم، وسياسةٍ للفلسفة. ولكنه، إذا أمكن لي القول، لا يعتقد بوجود سياسةٍ للسياسة. فبالنسبة له، السياسة مبدأ للخلق، وليست خلقًا بحد ذاتها. عندما لا تكون السياسة مبدأً للفن أو العلم أو الفلسفة، فلن تكون شيئًا آخر غير تحليلٍ للرأسمالية.

ها نحن نرى تعريفين للسياسة: الأول أنها «خلقٌ لشيءٍ جديدٍ»، أي أن خلقَ شيءٍ جديدٍ هو التجربة العامة للسلوك البشري. والثاني أن «السياسة هي تحليلٌ للأشكال الجديدة من الرأسمالية». وهذا تعريفٌ محدد، ولكنه ليس مبدأً للفعل. إن تحليل الرأسمالية ضربٌ من نظرية التاريخ، وليس مداهمةً محضة، أو خلقًا لشيء جديد.

إذًا، حين نتكلم عن «سياسةٍ دولوزية» فنحن نتكلم عن شيئين مختلفين. هذه هي الإشكالية وحلها في الوقت نفسه. أولاً، المبدأ النيتشوي للخلق، والنقد الجذري للتاريخ: ولكن هذا الضرب من السياسة ليس فكرًا محدَّدًا، بل هو بالأحرى سياسة الفن والعلم والفلسفة –سياسةُ الفكر بحد ذاته– بوصفها خلقًا حيويًّا لشيء جديد. ثانيًا، السياسة تحليلٌ لأشكالٍ جديدةٍ من الرأسمالية، وللمجتمعات، ونظريةٌ للتاريخ. هنا، السياسة محددة لأن الفلسفة السياسية فقط هي تحليل الرأسمالية الحديثة. ولكنها ليست فكرًا خلاقًا. الآن: إما أن السياسة توجد في أي مكان، ولنقل، كما حصل في مايو 68 في فرنسا، إن التجربة البشرية بأكملها جزءٌ من السياسية، ويوجد سياسةٌ في الجنسانية، وفي الفن، والحياة الجارية؛ أو أن السياسة محددة، وهي تحليلٌ فلسفي للتاريخ وللأشكال الجديدة في التاريخ، وليست أكثر من ذلك.

ولكن ما هو المبدأ السياسي للفعل الذي يغلفه الخلق البشري مأخوذًا في كليته؟ ما هو المبدأ السياسي إذا كان المبدأ في الفن، والجنسانية، وفي صيرورة الكائن البشري؟ أعتقد بأنه، في الواقع، هو مبدأٌ إيتيقي أكثر مما هو سياسي. يقول دولوز: «أكثر ما ينقصنا هو الإيمان بالعالم. أوشكنا أن نفقد العالم. لقد انتُزِع منا. إذا آمنتم بالعالم، ستعجلون الأحداث على نحوٍ يفلتُ من التحكم». بالنسبة لي، من الواضح أن الإيمان بالعالم، وتعجيل الأحداث، والإفلات من التحكم، هي مبادىء دولوز الايتيقية. بمقدورنا تمييز المبدأ السلبي («الافلات من التحكم»)، والمبدأ الذاتي («الإيمان بالعالم»)، والمبدأ الخلاق («تعجيل الأحداث»). يجب على الإيتيقا، كما تبدو لي، أن تضم هذه المبادئ الثلاثة. يوجد في السياسة الدولوزية تحليلاً لامعًا للرأسمالية، كانت مشاركة جاتاري فيه حاسمة.

ولكن توجد أيضًا إيتيقا دولوزية تحت مسمى «سياسة»، لأنه يوجد، عند دولوز، عقدةٌ (nœud) جديدة للثورة، وللإثبات والذاتية. ثورةٌ ضد مجتمع التحكم، أي ضد الاتصال. وإثباتٌ للحدَث. أي خلقُ شيءٍ جديد، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا، ولكنه جديد. وإيمان بالعالم بما هو ذاتيةٌ جديدة. ويبدو لي بأن ارتباط هذه الثلاثية يكون بالكامل إيتيقا دولوز.

الحدث والموت

منذ بضعة أسابيع، تعرضنا جميعنا لإثباتٍ مرعبٍ للموت، لسلطان الموت. والآن، السؤال، بالنسبة لنا، هو أن نعرف إن كان بالإمكان معارضة الموت بشيء جديد؟ شيء لا يكون موتًا آخر، وليس الموت مقابل الموت. حسنًا، تقول لنا الإيتيقا الدولوزية: يجب أن نخلق شيئًا جديدًا لا يكون موتًا أمام موتٍ آخر. يجب أن نخلق روابط جديدة للحياة: نفياناتٌ [جمع نفي] جديدة، وإثباتاتٌ جديدة، وذاتياتٌ جديدة. نجرب كلنا الضرورة المطلقة لخلق شيء لا يكون صراعًا بين ضربين من الموت. وبعد كل شيء، نعم، لدينا هنا مسألة إيتيقية، ولكن أيضًا مسألة سياسية.

هل كان حدث 11 سبتمبر حدثًا بالمعنى الدولوزي؟ الحدث هو خلق شيء جديد. فما هو الخلق في هذا الحدث؟ هو خلقٌ للموت. والموت ليس خلقًا. الخلق يغلف الحياة بأكملها، تحديدًا بالنسبة لدولوز، لأن «الحياة» عنده اسمٌ للـ«كائن» نفسه. ومن ثمَّ، فإن الحادي عشر من سبتمبر واقعٌ، واقعٌ مخيف، ولكنه ليس حدثًا. والسؤال هنا هو التالي: بعد الموت، ماذا تكون الصيرورة؟ إنني لا أعتقد أن مصطلح «حدث» ينطبق على الموت.

نجد عند دولوز شكلين للموت، وليس شكلاً واحدًا. يوجد موتٌ فوق خط التاريخ، وموتٌ فوق خط الصيرورة. هو ليس الموت عينه. الموت فوق خط التاريخ هو موت الصيرورة نفسها. هو استحالة الصيرورة. ولكن الموت فوق خط الصيرورة هو الموت المحايث للحياة، هو، بلا شكٍ، موتٌ (للـ)حياة، ولكن بمعنى أن الموت هو جزءٌ من الحياة. أوافق على صعوبة هذا التمييز. في الواقع، تماهي الصيرورة المحضة يثير مشكلة. يقول دولوز إن الصيرورة تأخذ شكلَ مداهمة، وقطع لخط التاريخ. وهكذا، نرى، في فترات مثل مايو 1968، مداهمةً، مداهمة الصيرورة. تُستأصل الصيرورة من التاريخ، ولا تكون، بصريح العبارة، في الوقت. هي قطعةٌ من الأبدية. دولوز هو سبينوزي حقيقي، ويوجد لديه شيءٌ من الأبدية في الحياة. وأبدية الحياة هي الصيرورة نفسها. ولكن الصيرورة نفسها، مع أبديتها، لها موتها الخاص، والذي يكون محايثًا لها. وهكذا، يُطرح السؤال دومًا عن التمييز بين شكلين من الموت، أولهما الموت بما هو كذلك، فوق خط التاريخ، وثانيهما موت «الحياة»، على نحوٍ مفارق، «موتٌ محايثٌ للحياة». والتحليلات التي يقوم بها دولوز لملفيل أو بيكيت هي تحليلاتٌ للشكل الثاني من الموت.

بارتلبي («أفضل ألا») هو صيرورة محضة، أكثر صيرورةٍ محضوية، لا تحتوي على شيءٍ آخر سوى الصيرورة نفسها. وهي شكلٌ من الموت بلا شك، ولكنه موتٌ يحايث الرغبة، في تبادلية بين الموت والرغبة. وبالنسبة لدولوز، من المستحب أن نرى في بارتلبي الشكل الأكثر محضويةً من الرغبة، أكثر محضويةً من كل الأشكال السياسية للرغبة. أبطال دولوز الحقيقيون هم بارتلبي، ومولوي.. إلخ.

أين هي إمكانية «إيتيقا» الحياة؟

توجد هنا صعوبةٌ كبيرة، صعوبة من طبيعة سبينوزية. ماذا تكون الإيتيقا عندما نكون جزءًا من كل؟ من «حيوانٍ كبير»؟ يقول دولوز إن العالم حيوانٌ كبير. ونحنُ، نوعًا ما، قطعةٌ من هذا الحيوان الكبير، ولهذه القطعة إيتيقا. أعتقد بأن الإيتيقا هي اللحظة التي تكون فيها قطعة من الحيوان هي الحيوان بكليته؛ كما لدى سبينوزا عندما نُعرَّف بأننا نحن أنفسنا الإله. نحنُ جزءٌ من الإله، ولكننا جزءٌ هو الإله نفسه. عند دولوز، هو الأمر عينه. الحياة هي الصيرورة المحضة. والحياة المحضة هي الكل، الواحد. ونحنُ هذا الواحد حين نصير صيرورةً محضة. هو نوعٌ من الخلاص.

يقول دولوز إن سبينوزا مسيح الفلاسفة. لماذا يقول هذا؟ لأنه عندما تكون الصيرورة المحضة إمكانيةً لنا، إمكانيةً محضة ولا-شخصية، وليست إمكانية من أجل ذات، بل إمكانية بذاتها، سنختبرُ الأبدية، أبدية الاستطاعة الخلاقة للحياة.

وهكذا، لا تكون الإيتيقا مسألة «احترام» للآخرين أو ما شابه. فعند دولوز، الآخر أيضًا جزءٌ من الكل. ومن هنا، فالنقاشات والجدالات هي دومًا أشياءٌ خاطئة، ولا تعني شيئًا. ومع ذلك، نستمر. والاستمرار هو أيضًا جزءٌ من الحياة.


الترجمة خاصة بـBoring Books.

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.