من بين جميع مسرحيات شكسبير، تاجر البندقية هي الوحيدة المنغرسة، على نحو مدهش، في اللحظة التاريخية التي تبرعمت فيها الرأسمالية، لحظة ميلاد الحداثة

إن الرحمة لا تُنتزَع كرهًا

(أو دفاعًا عن قضية شايلوك الخاسرة)[1]

مقال: مِلادن دولار

ترجمة: طارق عثمان

شيلوك، عن caseantique

1.

أشهر دَيْن على الإطلاق في تاريخ الديون—الذي يعود إلى خمسة آلاف سنة خلت، لو اتبعنا ديفيد جريبر[2]—هو الثلاثة آلاف دوقية التي أقرضها شايلوك إلى أنطونيو، تاجر البندقية، إلى أجَل ثلاثة أشهر. وهو الدَين الذي إن لم يُقض قبل انقضاء الأجَل، كما أضاف شايلوك مستدركًا، «على سبيل المزاح»، ستكون الغرامة «رطلًا من لحمك البضّ، أقتطعه من الموضع الذي يحلو لي من جسدك» (1: 3: 145-148).[3] بادئ ذي بدء، يشترط هذا الاستدراك المرح الشهير معاوضة تمضي بنا رأسًا إلى جوهر الدَين: يستدين المرء بلحمه، عندما يستدين المرء فإنه يكون دومًا مدينًا بلحمه. فالدَين ليس مجرد علاقة مالية، حيث يتعين، احترامًا للعقد المضمن في الاستدانة، سداد المال المُقترَض في أَجَل محدد، سواء بفائدة أو بغير فائدة—وهنا ينبغي للمرء أن يضيف أن شايلوك، المرابي ذائع الصيت، المرابي الذي يُضرب به المثل (الذي بلغ به الأمر أن يستدل على جواز الربا بشاهد كتابي ملتوٍ من قصة يعقوب ولابان)،[4] قد أقرض هذا الدين تحديدًا على نحو منافٍ تمامًا لطبعه كمرابٍ لا يرحم؛ إذ لم يطلب أية فوائد على الإطلاق، وإنما كل ما طلبه هو أن تُنفَّذ العقوبة في حال لم يُقض الدَين في الأجل المتفق عليه. ولقد تفضل شايلوك بذلك إحسانًا منه، معاملة خاصة منذورة لقرينه، لأناه الأخرى، لعدوه المفضل، لصديقه اللدود. وبواسطة هذا البند المخصوص الموجه على نحو شخصي إلى أنطونيو، التاجر المسيحي الممتاز، كأن شايلوك قد كشف، من دون قصد، الحجاب عن شرط عام موجود في كل عقود الدَين، لكنه مخفي ومعمّى عليه تحت غطاء المعاملة المالية المحضة: يرهن المرء دومًا رطلًا من لحمه عندما يقترض دَينًا. لكن ليس المقصود أن شايلوك قد كشف سرًا خفيًا مظلمًا لم يطلع عليه أحد من قبله. ففي نهاية المطاف، هذا الشرط موجود، بشكل ضمني، منذ وضْع أسس القانون الروماني، منذ الألواح الإثني عشر (التي كانت عشرة في الأصل)، أول وثيقة قانونية رومانية (والتي تعود إلى سنة 450 قبل الميلاد)، حيث نجد في إحدى نسخها التراثية منصوصًا على التالي: "Qui non habet in aere, luat in corpore"، «ومن لا يملك نقدًا يدفع من لحمه».

ولقد علّق ماركس على ذلك بإيجاز في حاشية من كتاب رأس المال، قائلًا إن النبلاء الرومان الذين كانوا يقرضون عوام الناس، كانوا يعتبرون "لحم المدينين ودمهم"كـ"أموالهم": «ومن هنا نفهم وجود هذا القانون الخليق بشايلوك، هذا القانون الشايلوكي، في الألواح العشر. إن فرضية لونجيه، القائلة بأن المقرضين النبلاء كانوا يعقدون، بين الفينة والأخرى، على الضفة الأخرى من نهر التيبر، ولائم من لحم المديونين، قد تظل صحتها غير مبتوت فيها، تمامًا كما هو حال أطروحة دومر عن طقس التناول المسيحي».[5] وعليه، فشايلوك موجود منذ البداية، مقيّد سلفًا في الألواح العشر، للدرجة التي خولت للدائنين، على ما يفترض، أن يعقدوا ولائم كانيباليّة يؤكل فيها لحم المدينين، حرفيًا—ويترك ماركس، بحذر، المسألة معلقة: هل هذا الافتراض مبني على واقع حقيقي، أم أنه يرقى إلى رتبة "إشاعة ضرورية بنيويًا" أو استيهام (fantasy) لا بد منه، استيهام ضروري حول كانيباليّة القانون التي تتلبسه منذ نشأته الأولى.[6] بعد مصادرة جميع ما يملك، إن لم يستطع المدين أن يقضي دينه يصبح جسده، باعتباره رهن الدَين النهائي، إذن، تحت رحمة دائنه، الذي يحق له أن يفعل به كل ما يحلو له—أن يستعبده أو ينتهكه جنسيًا أو يعذّبه أو يقطعه إلى شرائح ويأكله في النهاية لو شاء. وقد طرح نيتشه افتراضًا مفاده أن الدائن يُعوض حينها، على الأقل، بمتعة رؤية المدين في معاناة، وبكونه تحت رحمته بالكلية. إن المدين العاجز عن قضاء دينه هو homo sacer،  إنسان مستباح، أي شخص يمكن تعذيبه وقتله دونما عقاب. إن المرء يستدين بلحمه، عندما يستدين المرء فإنه يكون دومًا مدينًا بلحمه، في نهاية المطاف.[7]

في هذه الحاشية المذهلة والموجزة على نحو مدوخ، يجمع ماركس، في نفس الجملة، بين لونجيه[8] وأطروحته عن أكل لحم المدينين الرومان ودومر[9] وأطروحته عن أن طقس التناول المسيحي لم يكن في الأصل طقسًا كانيباليًّا على نحو مجازي وإنما على نحو حرفي. وبذلك نجد رطل اللحم في موضع القلب من العهد المسيحي (الجديد). لكن هذه الملاحظة العابرة تقتضي قلبًا صاعقًا؛ فما يؤكل في طقس التناول ليس لحم المدينين وإنما لحم الدائن، إذا جاز القول—في انزلاقة سريعة من شايلوك إلى المسيح (هل هذه هي الانزلاقة من الربا إلى الرحمة؟). ملاحظة ماركس، المُرحّلة إلى الحواشي، ملاحظة عابرة و"مترددة"، فهو لا يريد أن "ينسب فضلًا"[10] لا إلى لونجيه ولا إلى دومر، ومع ذلك، يظهر لنا في هذه الأسطر القليلة شبح رطل اللحم مخيمًا على أساس القانون (الألواح الإثني عشر) وأساس الدين (طقس التناول)، ومتلبس بهما على نحو يتعذر فصمه، في حين أننا، في ظاهر الأمر، ندرس طبيعة معاملة مالية أولية وبسيطة للغاية، الدَين. إن كلا من الدِين والقانون والاقتصاد يتضمن رطلًا من اللحم ينبغي رهنه، ومبني على حق ضمني في استخلاصه—فبرهننا لهذا الرطل من لحمنا نصير متدينين، ونصير خاضعين للقانون، ونصير ذوات اقتصادية (أو خاضعين tout court، محض خاضعين؟).[11] إن الدَين مبني على اقتصاد للزمن،[12] زمن التأخير والإرجاء، اقتصاد مبني على وعد يتعين على المرء أن يوفي به، توفية يتعين على المرء أن يضمنها بكينونته، بلحمه "في نهاية التحليل". «نهاية التحليل التي لا تحين ساعتها البعيدة أبدًا»، حتى نستحضر عبارة ألتوسير الشهيرة.[13] لكن على الرغم من ذلك، شبح نهاية التحليل، شبح رطل اللحم، حاضر على الدوام، وتكمن قوة صك شايلوك النموذجية والصادمة في أن هذا الشبح قد تجسد فيه، قد صار لحمًا. فصك شايلوك أشبه "بتجسد للتجسد"، فهو إفصاح عن تجسد الشبح لحمًا، إفصاح فاضح عن التهديد المستتر المُضمّن في القانون منذ نشأته (الأوروبية) الأولى. إنه أشبه بإعادة تمثيل للأصل، الأصل الروماني للقانون بألواحه الإثني عشر حيث أول تأطير قانوني بحق للدَين، عند فجر الحداثة (موعد كتابة الصك والمسرحية، سنة 1596)، أشبه بمُذَكِر جسدي بالأصل في لحظة ظهور هذا الكيان عديم الجسد وبعيد الغور—رأس المال.

«ساعة نهاية التحليل البعيدة لا تحين أبدًا»، يقول ألتوسير في معرض مناقشته للحتمية الاقتصادية في النظرية الماركسية، ويمكن للمرء أن يبين المقصود من هذه المقولة كالتالي: "لا يوجد أبدًا اقتصاد يمكن عزله كشيء منفصل وقائم بذاته"، اقتصاد يمكن فصله عن ركائزه الاجتماعية والقانونية والدينية. ومسرحية تاجر البندقية تدور حول ذلك: كيفية انغراس المعاملة الاقتصادية التي تحتل موضع القلب من المسرحية (اقتراض أنطونيو من شايلوك) في سلسلة من المعاملات الاجتماعية والدينية والعاطفية والجنسية، حيث تعكس اقتصاديات مختلفة—اقتصاديات النقود والثروة والرغبة والحب—بعضها بعضًا كما لو كان كل منها مرآة للآخر، بينما هي، في الوقت عينه، مجدولة معًا في عقدة يستحيل حلها. ويمكن للاقتصاد، بهذا المعنى الواسع، أن يكون دليلًا هاديًا من شأنه أن يتيح لنا وضع سلسلة من المقارنات، وضع معادلات وأقيسة، بين نطاقات لا يبدو لنا بادئ الرأي أن بينها أي أرضية مشتركة، أي قاسم مشترك. فبداية، لا يوجد اقتصاد، لا يوجد إقراض، لا يوجد دَين، لا يوجد سيولة نقدية، من دون افتراضات دينية شاملة حول طبيعة الاقتصاد، وبكلمة، لا يوجد اقتصاد من دون لاهوت. وبالتالي جميع الاقتصاد الموجود في المسرحية مضمن داخل إطار المسيحية في مقابل اليهودية.—لكن هاكم لُبّ المسألة: بمجرد ما أضحى الاقتصاد نطاق منفصل في المجتمع البرجوازي المتطور، الذي كان ماركس مشغولًا بدراسته، أي بمجرد ما أضحى الاقتصاد محررًا من عباءة اللاهوت—وهذا هو جوهر الحداثة—أضحى، بمقتضى معاوضة كارثية، لاهوتًا عمليًا وميتافيزيقا عملية لكن في هيئة مضللة، في هيئة علمانية بالكامل («كل ما هو مقدس يغدو علمانيًا»، كما نقرأ في البيان الشيوعي). ولذلك أمكن لماركس أن يكتب، في واحدة من أشهر عبارات رأس المال، قائلًا: «تبدو السلعة، للوهلة الأولى، شيء في غاية التفاهة، وفي غاية الوضوح. لكن تحليلها يبين أنها شيء عجيب للغاية، شيء زاخر باللطائف الميتافيزيقية والدقائق اللاهوتية».[14] بمجرد ما تحرر من اللاهوت، أضحى الاقتصاد لاهوتًا عمليًا معممًا ومستترًا، أضحى ميتافيزيقا يومية—والكشف عن هذه المفارقة كان أحد مشاغل ماركس الأساسية. لقد أصبح اللاهوت، في هيئته المضللة، هيئته الخاوية، هيئته المعلمنة بالكامل،كلي الوجود، موجود في كل مكان، لكنه خفي ومستتر عن الأعين. وهنا على المرء أن يستحضر شذرة فالتر بنيامين الهامة عن "الرأسمالية كدين".[15] 

2.

اقتصاد البندقية، كما هو حال الاقتصاد عامة في أكثر أجزاء العالم الغربي (حتى الحرب الأهلية الأمريكية)، كان قائمًا في الأساس على عمل العبيد.

من بين جميع مسرحيات شكسبير، تاجر البندقية هي الوحيدة المنغرسة، على نحو مدهش، في اللحظة التاريخية التي تبرعمت فيها الرأسمالية، لحظة ميلاد الحداثة، في المِفصل الزمني الذي يربط بين ما قبل الحديث والحديث، وذلك على الرغم من مظهر القصص الخرافية اللازمنية البادي عليها، بسبب موتيف (ثيمة أو فكرة) الصناديق الثلاثة،[16] وموتيف الجزاء من جنس العمل أو من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.[17] فأولًا، نجد في المسرحية واقع ما يدعوه ماركس بالمراكمة الأولية لرأس المال، أو بالأحرى، "المراكمة الأولية المزعومة لرأس المال". وذلك لأنه لا توجد مراكمة أولية بمعنى أن يوفر العامل المكدّ المقتصد ما يفيض عن حاجته، ليعد استثماره، بعرق جبينه.[18] وإنما كان الواقع التاريخي تمامًا كما صورته المسرحية. ففي هذا الزمن كانت العولمة في أوجها، فسفن أنطونيو التجارية كانت منتشرة في شتى بقاع العالم، في طرابلس والمكسيك[19] والهند وإنجلترا. وبالتالي، فهذا التاجر المسيحي الممتاز، رجل الأعمال الخيّر، الذي لم يُقرض بفائدة قط، والذي يدير تجارته كما لو كانت عملًا خيريًا، قد أثرى، في الأساس، عن طريق الاستعمار، التجارة الأكثر ازدهارًا في ذلك الزمن، أي أن ثروته تعود، في نهاية المطاف، إلى السلب والنهب. وإليكم المزيد: للدفاع عن قضيته في مشهد المحكمة، عقد شايلوك، من باب القياس، مقارنة بين حاله مع رطل لحم أنطونيو وحال أهل البندقية مع عبيدهم، قائلًا: «أنتم تملكون الكثير من العبيد المشترين، الذين تستخدمونهم، كما تستخدمون حميركم وكلابكم وبغالكم، في أرذل الأعمال وأحقرها، بذريعة أنكم قد اشتريتموها». (4: 1: 89-92). وبناءً عليه، بما أنكم تمتلكون الكثير من أرطال اللحم تحت تصرفكم، وتستخدمونها كما يحلو لكم، فلا يحق لكم إذن أن تمنعوني هذا الرطل من اللحم الذي امتلكته على نحو لا يقل قانونية أبدًا عن النحو الذي امتلكتم به (أرطال لحم) عبيدكم.[20] تلقي هذه المقارنة الضوء على حقيقة أن اقتصاد البندقية، كما هو حال الاقتصاد عامة في أكثر أجزاء العالم الغربي (حتى الحرب الأهلية الأمريكية)، كان قائمًا في الأساس على عمل العبيد. وبذلك أفصحت المسرحية بوضوح تام عن حقيقة المراكمة الأولية المزعومة لرأس المال: الاستعمار والعبودية. فالمرء لا يرى في المسرحية أي وجود للمنتجين، ولا المستثمرين، ولا رواد الأعمال، أبطال أسطورة المراكمة الأولية لرأس المال، المختلَقة بأثر رجعي.

وثانيًا، نجد في المسرحية نوعين متقابلين من الرأسمال: الأول، ويمثله أنطونيو، هو الرأسمال التجاري، المبني، في الأساس، على الاستعمار والنهب، لكنه يتباهى واصفًا نفسه بأنه التجارة المسيحية المحترمة والمشروعة، المبنية على التبادل الحقاني، من دون استغلال أو ابتزاز. وهذا رأسمال "من دون فائدة"، بالمعنى المزدوج لكلمة فائدة هنا، أي من دون فرض فوائد ربوية من أجل التربح المالي، ومن دون السعي إلى تحقيق أغراض شخصية. والثاني، ويمثله شايلوك، هو الرأسمال النقدي، المبني على "توليد النقود للنقود"، أي المبني، في الأساس، على الائتمان والدَين والفوائد والمعاملات المصرفية. هذه هو المخلوق ذو الوجهين، وجه الرأسمالي الطيب ووجه الرأسمالي الخبيث—هل ينبغي للمرء أن يعتبر أنطونيو وشايلوك مخلوقًا واحدًا، بشخصيتين، رأسمالي أولي بوجهين كيانوس؟[21] لكن حتى في هذه القسمة، أنطونيو نصير مشكوك في أمره، إلى حدٍ ما، للاقتصاد العادل، المبني على مجرد تلبية الحاجات—فاقتصاد أنطونيو اقتصاد عالي الخطورة، ضرب من إدارة المخاطر، بنشرها (مع سفنه) في شتى بقاع العالم طمعًا في جني عوائد ضخمة.[22] لكن المسرحية لا تقدمه لنا على هذا النحو، وإنما تقدمه لنا باعتباره الرجل ذو اليسار والكرم، ذو التصنيف الائتماني العالي (على عكس بَسَانيو الغارق في الديون، ومن ثمّ لا يريد أحد أن يقرضه). باعتباره الرأسمالي السخي، المستعد دومًا للمخاطرة بثروته من أجل الصداقة والحب، من دون أن ينتظر أي عوض. وتقدم المسرحية هذا السخاء المسيحي، الذي لا يبتغي أي ربح، كمقابل للاقتصاد اليهودي (الربوي)، الذي لا يبتغي إلا الربح، بتوليد المال من المال، من دون أية مراعاة للروابط الإنسانية الأخرى، حاشا الرابطة التي يقوم عليها الدَين، أي رابطة الحسابات والغرامات غير الإنسانية. لكن هذا التقابل (الأشبه بصدع فرويدي يشطر جسد الاقتصاد إلى شطرين، أحدهما طيب والآخر خبيث)،[23] يتشابك مع اقتصاد آخر لا يمكن فصمه عنه، اقتصاد الرغبة، الاقتصاد الجنسي. فأنطونيو لم يقترض هذا الدَين الخطير من شايلوك بدافع الصداقة فحسب، وإنما بدافع تعلقه العاطفي المشطّ ببَسَانيو، حبه غير المتبادل، وهو تعلق جنسي مِثلي، دونما شك.[24] لقد كان مستعدًا لرهن رطل من لحمه لا من أجل الدَين وإنما من أجل الحب، في اقتصاد لا ينتظر أي شيء في المقابل؛ لقد كان مستعدًا لرهن قلبه ولقضاء الدَين بقلبه حرفيًا، يقول: «فلو تعمق اليهودي وهو يقطع بما يكفي، لقضيت الدَين بقلبي على الفور» (4: 1: 277-278).[25] إن انتزاع رطل اللحم—عديل الفائض المُضمن على الدوام في الدَين بصفته ما يربو على مجرد المعاوضة—هو عربون الحب ودليله، العطيّة التي لا يُبتغى من ورائها، ولا يمكن أن يُحصّل من ورائها، أي عوض، نظرًا للطبيعة "المنحرفة" لهذه الرغبة المثلية—ومن هنا افتتاحية المسرحية الكئيبة، حيث يقول أنطونيو لرفاقه في أول بيت: «صدقًا، لا أعرف لماذا أنا حزين كل هذا الحزن،» وخاتمتها الكئيبة، حيث تُرك أنطونيو وحيدًا في قصر بورشا ببِلمونت بينما يلهو الأحبة أزواجًا (بَسَانيو وبورشا، لورينزو وجَسيكا، جراتسيانو ونِريسا) في حبور معمم.

من المعروف، أن دانتي قد وضع المثليين جنسيًا إلى جانب المرابين في الدائرة السابعة من دوائر الجحيم التسع، إذ ثمة تشابه بنيوي بين خطيئة كل منهما، وكذلك نجد أنطونيو إلى جانب شايلوك في نهاية المسرحية السعيدة، كلاهما مطرود من الحب ومستثنى من السعادة المعممة، كملعونيّن. إنهما أشبه بزوج مستحيل، لا لأنه زوج يتألف من مسيحي ويهودي، رأسمالي طيب ورأسمالي خبيث فحسب، وإنما لأنه يتألف أيضًا، في الوقت عينه، من مثلي الجنس ومرابٍ، من ممثليّن لخطيئتين متشابهتين. فالربا امتداد للجشع، أي مراكمة المرء للثروة وتكثيرها لنفسه ولنفسه فقط، رافضا التبادلية والتداول، وقاطعًا الروابط الاجتماعية المبنية على الهبة والتبادل؛ الربا أشبه بجشع متطور، جشع اجتماعي، أشبه بجعل الأنانية المحضة شأنًا اجتماعيًّا، عن طريق خلق رابطة اجتماعية منحرفة، قائمة على أساس ضد-اجتماعي، بما أنها قائمة على المصلحة الشخصية والمراكمة، على انتزاع غير شرعي لفائض (للفائدة) من الآخر، ناتج عن مجرد توالد النقود، إذا جاز القول. فالنقود تجامع نفسها لتلد المزيد من النقود في الفترة الزمنية الممتدة بين الاقتراض والسداد، من دون أي شغل أو جهد من طرف الدائن، الذي لا يعمل ولا ينتج أي شيء. فالزمن هو الذي يعمل لديه بينما هو عاطل (بل وبينما هو نائم حتى)، ومن هنا الفكرة القروسطية القائلة بأن المرابي لص، يسرق الزمن، المملوك لله وحده.[26] المرابون هم ‘Time Bandits’،[27] لصوص الزمن. فـ Nummus non parit Nummus، النقود لا تلد نقودًا، كما يقول المثل القروسطي، في ترجمة توما الإكويني الفضفاضة لواحد من إرشادات أرسطو في الكتاب الأول من السياسة. نجد في أساس الربا إذن، استيهام ممارسة النقود للجنس، مجامعتها لنفسها، لتلِد المزيد من النقود، من دون أن تنتج أي شيء آخر. وهذا هو تحديدًا ما يسوغ وضعه الربا على قدم المساواة مع المثلية الجنسية، التي تحيل على نفسها، التي تعفي نفسها من التبادلية الجنسية (أي من الزواج الخارجي، من تبادل النساء كزوجات باعتباره أساس الاجتماع، كما يرى ليفي شتراوس). فدليل انحرافها هو أنها غير منتجة، عقيمة، لا تلد أطفالًا، وبالتالي الغرض منها هو "المتعة من أجل مجرد المتعة"، مراكمة المتعة كمقابل لمراكمة الثروة. إن إدانة الربا وإدانة الجنس المثلي يدعمان بعضهما البعض: فلا بد للحب أن يكون منتجًا (ومن هنا الجنس الغيري)، ولا بد للنقود أن تكون عقيمة (ومن هنا تحريم الربا)، هذا هو النظام الطبيعي المفترض: ينبغي للحب أن يلد ولا ينبغي للنقود أن تلد. إن تحريم الفوائد الربوية يمضي يدًا بيد مع تحريم المثلية الجنسية. 

وينبغي للمرء أن يضيف هنا أن مسألة الفوائد الربوية مرتبطة ارتباطًا عميقًا بقدوم الحداثة. لقد كان مارتن لوثر هو المحارب الأخير في معركة العصر الوسيط الطويلة والضارية ضد الربا،[28] بينما كان جون كالفن أول مفكر حديث يقول بجواز الربا باعتباره غير مختلف عن التجارة (ثم تبعه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون). فخمس سنوات فحسب تفصل بين رسالة لوثر التي تدافع عن حرمة الربا المنشورة في سنة 1540 ورسالة كالفن التي تدافع عن جواز الربا المنشورة في سنة 1545.[29] وبالتالي علينا أن نموضع النشأة الأولى لاقتصاد الدَين الحديث، الاقتصاد الذي مهد السبيل لصعود الرأسمالية، المبنية على القروض والديون والربا والفوائد والمراكمة، في هذه الفترة، أي فيما بين سنتي 1540 و1545.[30] وبالرغم من أن مسرحية تاجر البندقية مكتوبة في سنتي 1595-1596، أي بعد نصف قرن من هذا التاريخ، إلا أنها لا تزال تعرض المنظور الاقتصادي ما قبل-الحديث (الرحمة، ورفض الربا)، لكن مع طبعه بطابع غاية في الالتباس، التباس يمكن للمرء أن يعرب عنه على النحو التالي: الرحمة المسيحية ليست، في نهاية المطاف، أفضل حالًا من الجشع والربا اليهوديين. بل في واقع الأمر، وفي ضرب من القلب التاريخي، لو أن هذه المسرحية تدور حول الرأسمالية، فهي تكشف عن أن الرحمة المسيحية قد تكون أشد سوءً منهما حتى. فما يبدو ما قبل-حديث في هذه المسرحية قد يتبين أنه إفصاح عن الطرائق ما بعد-الحديثة التي يعمل بها الرأسمال (كما سنبين لاحقًا).

3.

بَسَانيو لم  يمنح كل ما يملك فحسب، وإنما منح ما لا يملكه فوق ذلك (مال أنطونيو، بل لحمه وقلبه)، في ضرب من المحاكاة الساخرة لتعريف جاك لاكان للحب: الحب هو أن تعطي ما لا تملك.

تاجر البندقية مسرحية عن التثنية، عن سلسلة من الأزواج، كل زوج منها يتألف من طرفين موضوعين في مقابل بعضهما، باعتبار أن أحدهما طيب والآخر خبيث، لكن يتبين، في نهاية المطاف، أن كلا الطرفان ملتبس، أي لا هو طيب طيبة محضة ولا هو خبيث خبثًا محضًا، وأن بينهما ضرب عجيب من التواطؤ والتعاون، وبالتالي يتبين أنهما موضوعان على شريط موبيوس وليسا متقابلين تقابلًا صارمًا لا لبس فيه. فباتباعه لمنطق أحدهما إلى آخره، يجد المرء نفسه، بلا قصد، في الطرف المقابل.

مسألة الدَين ورطل اللحم متشابكة تمامًا، في المسرحية، مع قصة حب، وبمقدور المرء أن يرى هذا الترابط المتين بينهما في التوضيح المكتوب على صفحة عنوان الطبعة الأولى الصادرة في سنة 1600، والذي يقول: «قصة تاجر البندقية الممتازة. والقسوة الفظيعة التي أبداها شايلوك اليهودي حيال التاجر المذكور، بإصراره على قطع رطل من لحمه؛ والزواج من بورشا عن طريق الاختيار بين الصناديق الثلاثة». وبالتالي، إذا كان أنطونيو وشايلوك يؤلفان الزوج الأول في المسرحية، الزوج الذي يقف، وكما بينا آنفًا، في مركز الرأسمالية الوليدة واستيهاماتها التأسيسية، فإن الزوج الأهم على الإطلاق فيها، وكما سنبين لاحقًا، هو ذلك الذي يتألف من شايلوك وبورشا. فأنطونيو مستعد لتحمل الدَين بدافع من حبه لصديقه بَسَانيو، الغارق في الديون، والذي يخطط لتذليل عثراته المالية عن طريق الزواج من بورشا، إذ قال صراحة: «… لكن همي الأساسي هو قضاء الديون الضخمة التي تثقل كاهلي» (1: 1: 126-127)، قبل أن يأتي على ذِكر بورشا: «في بِلمونت سيدة ورثت مالًا كثيرًا...» (1: 1: 161)، وهكذا وضِعت السيدة المحبوبة، وعلى نحو لا لبس فيه، تحت لافتة قضاء الديون. لكن لكي يفعل بَسَانيو ذلك، يتعين عليه أولًا أن يكون ثريًّا، حتى يستطيع تقديم نفسه كخاطب لائق، قادر على منافسة خُطّاب بورشا الأثرياء، ومن هنا حاجته إلى اقتراض المزيد من الديون.

وهنا نجد البداية الشاعرية لاقتصاد الديون الممتد إلى ما وراء حسابات الربح والعوائد. فعندما أراد بَسَانيو أن يقترض دينًا جديدًا من أنطونيو، حتى يتسنى له خِطبة بورشا، سوّغ له ذلك قائلًا: «في الأيام الخوالي، عندما كنت تلميذًا في المدرسة، كلما صادف وضيعت سهمًا أطلقته، لكي أعثر عليه، كنت أطلق سهمًا آخر في نفس الاتجاه الذي أطلقت فيه الأول، وأراقب السهم الثاني بعناية مزيدة، فأجد السهم الأول بجواره، وهكذا بمخاطرتي بالسهم الثاني أستعيد السهمين معًا. وأنا أسوق لك هذه القصة الطفولية لغرض بريء تمامًا» (1: 1: 140-145).[31] هكذا قدّم بَسَانيو التماسه إلى أنطونيو كي يقرضه، في هيئة براءة طفولية: أنا مدين لك بديون كثيرة، وبالتالي أريد أن أستدين منك المزيد من الديون لكي أقضي هذه الديون القائمة، على أمل طفولي في أن تستعيد (تقضي) الديون الجديدة الديون القديمة، تمامًا كما يستعيد السهم الثاني، في ضرب من السحر، السهم الأول الضائع. هنا نجد الاقتصاد والسحر الطفولي يتصافحان الأيادي، نجد الاعتقاد الخرافي في أن الخسارة ستؤتي أكلها بضربة حظ، في أن المرء بمقدوره أن يداوي الخسارة التي تكبدها بسبب مخاطرته عن طريق الإقدام على المزيد من المخاطرة، في أن المثيل سيجد مثيله في ضرب من الانجذاب السحري، في أن دَينًا سيجد دَينًا آخر أي سيقضيه، في أن الخسارة المضاعفة ستثمر مكسبًا مضاعفًا. ثمة إذن اقتصاد سحري في صُلب الاقتصاد المالي، متجاوز تمامًا لحسابات المجازفة والمخاطرة، متجاوز تمامًا للافتراض القائل بأن اللعبة الاقتصادية تُلعب من طرف لاعبين عقلانيين يتخذون قرارات عقلانية. فعن طريق المزيد من الإقدام، ستنقلب الأمور، في ضرب من السحر، منقلبًا طيبًا، ومن ثمّ ستُبرّأ ساحة التهور وسيُشهد على حسن عواقبه. هنا نجد سيكولوجيا المقامر السحرية، اعتقاده الراسخ في أن معجزة ستحدث، في أنه سيربح في نهاية المطاف رغمًا عن كل شيء. فكل مقامر يعتقد أنه المصطفى المحظوظ. هذه حسابات فيما وراء فكرة الحساب نفسها، حساب ما لا يقبل الحساب أصلًا.

وهذه هي الطريقة التي سعى بها بَسَانيو إلى الفوز ببورشا، بل لقد فعل ما هو أنكى من ذلك، لقد تفادى تحمل المخاطر والديون بنفسه، فلديه أنطونيو الذي سيتجشم عناء ذلك نيابة عنه، راهنًا حبه، رطلًا من لحمه، قلبه، بمقتضى هذا الاقتصاد. وهكذا تمكن بَسَانيو من إنجاز مأثرة كبرى: لقد قاول على الدَين والمخاطرة. ويمكن للمرء أن يرى في هذه الأبيات ما يشبه "مولد النيوليبرالية من روح بَسَانيو"، النيوليبرالية مُعَبّر عنها كبراءة محضة، إن جذور الأزمات الاقتصادية الحاضرة تعود إلى هذه الإستراتيجية الصبيانية، إلى بَسَانيو وتوم سوير. بَسَانيو بمنطقه الأرستقراطي: Va banque، إلى البنك[32]—هنا يلتقي الأرستقراطي، أي المضارب المالي ما قبل-الحديث، بموجب قفزة مختصرة، بالرأسمالي النقدي الحديث. اتباع إستراتيجية الـ Va banque في شؤون المال والحب: هكذا سيفوز بَسَانيو ببورشا، باختياره الصندوق الصحيح، الصندوق الرصاصي غير الجذاب، المنقوش عليه: «من يختارني يتعين عليه أن يمنح كل ما يملك ويخاطر به» (1: 9: 20)—وبَسَانيو لم  يمنح كل ما يملك فحسب، وإنما منح ما لا يملكه فوق ذلك (مال أنطونيو، بل لحمه وقلبه)، في ضرب من المحاكاة الساخرة لتعريف جاك لاكان للحب: الحب هو أن تعطي ما لا تملك.[33]

وفي مقابل بَسَانيو الأرستقراطي، نجد شايلوك البرجوازي الجديد، البرجوازي القاسي (الكامن في البرجوازي اللين الهين، أنطونيو)، رجل الحسابات الصارمة والشيكات والأرصدة، الحاذق في تقييم المكسب والخسارة، محصّل الديون، جاني الأرباح، المستخلِص عديم القلب. ومع ذلك، قلبه هو ما أورده التهلكة في نهاية المطاف. فإقراض أنطونيو، هو المعاملة المالية الوحيدة التي وضع فيها شايلوك قلبه، معتقدًا بسذاجة في أنه قد يتمكن من شفاء غليله تحت غطاء القانون والتعاقد، في أنه قد يتمكن لا من استخلاص الثلاثة آلاف دوقية ورطل اللحم فحسب وإنما من استخلاص الدَين الذي تدين به المسيحية لليهودية فوق ذلك، أن ينتقم لمعاناة اليهود وذِلتهم السرمدية في ظل المسيحية، أن ينتقم من تنكّر المسيحية لجذورها اليهودية، الذي لم ينفك يعبّر عن نفسه في طرد اليهود وإقصائهم بلا انقطاع. كيف له وهو اليهودي، الضليع في القانون (الشريعة)، في الحرف (التوراة)، في العقد (العهد، الميثاق)، أن يتوقع، بهذه السذاجة، أن بمقدوره أن يهتبل هذه الفرصة لإخفاء رغبته في شفاء غليله تحت غطاء قانون الآخرين، وأن يستخدمه لمصلحته الخاصة؟! كيف له أن يترك غيره يبَزّه في اليهودية (في الخبرة بالقانون)؟!

وتنطوي أبيات بَسَانيو هذه على طريقة للنظر إلى مسألة الرحمة، وهي: الاعتقاد الخرافي في القدر الرحيم، في أن المرء سيقضي الديون من خلال المخاطرة الجريئة، في أنه سينجح لا عن طريق المقدرة والحسابات المالية الحصيفة (دراسات الجدوى)، ولا عن طريق يد السوق الخفية التي تكافئ بعدل على الحصافة والاجتهاد، ولا عن طريق "قوانين السوق"، وإنما عن طريق رحمة الآخر الكبير [أي السلطة أو المرجعية الاجتماعية والرمزية] القائم فيما وراء قوانين الاقتصاد، الذي سيكافئه، بطريقة إعجازية، على جرأته. وهذا المنظور إلى الرحمة يكمن في قلب المضاربة الاقتصادية. فالتطيّر، الاعتقاد الخرافي، يعمل عمله داخل الاقتصاد، بحيث يغدو دومًا من المستحيل سبر الرأسمال النقدي وسوق الأسهم على أساس الاختيار العقلاني، ولهذا السبب لن يكون الاقتصاد عِلمًا قط (بمفرده، من دون تضمين التطيّر البنيوي، ما لا يُحسب، في الحسابات الاقتصادية). فثمة دومًا تعويل على الرحمة، ثمة دومًا حساب للرحمة. هذه هي الرحمة كما يراها الأقوياء، هذه هي نظريتهم الضمنية: الثراء آية على رحمة الله وفضله،[34] وبالتالي يستحق الثري الرحمة—فالله نفسه قد رحمه فكيف للبشر ألا يرحموه—وبموجب عَطْف (تويست) إضافي، لا يستحق الثري الرحمة عندما يكون لديه ثروة فحسب وإنما يستحقها أيضًا بنفس القدر عندما يكون لديه عجز مالي ومثقل بالديون، وذلك نظرًا لموقع القوة الذي يشغله في الأصل (وهذا ما يخول له جرأته الاقتصادية). فالقوة موجودة بفضل الرحمة، وتجعل المرء جديرًا بالرحمة. وبموجب عطف إضافي، إن كنت تعول على الرحمة، وتفترض أنك جدير بالرحمة، فأنت لم تعد، في واقع الأمر، بحاجة إلى الرحمة.[35]

4.

لكن مسألة الرحمة، المركزية للغاية في هذه المسرحية، تدخل بوضوح إلى نطاق مختلف عن هذا النطاق الاقتصادي.[36] عندما وصلت قضية شايلوك إلى المحكمة، وعندما بدا أنه قد يفوز، عرضوا عليه أن يدفعوا ثلاثة أضعاف قيمة الدَين، لكنه رفض، وأصر على أخذ الغرامة المنصوص عليها في الصك. وبعدما سلّموا له بأن من حقه فعلًا أن يقطع رطل اللحم، توسلوا إليه أن يكون رحيمًا. فبمقدور شايلوك أن ينال مراده بالعدالة وحدها، لكن العدالة ليست كافية، وما يفوق العدالة هو الرحمة. هذا هو التقابل الأساسي: العقد يعقد، يُلزم ويقيد، والحرف يوجب، لكن الرحمة هي ما لا يمكن تعيينه عن طريق أي عقد، إنها لا تلتزم بالقانون، إنها ما يربو على القانون، وعندما تصير مسألة تعاقد لا تعود رحمة. فالرحمة لا تُمنح إلا طوعًا، لا تُفرض ولا تُنتزع، وإنما تُنشر بسخاء بمعزل عن أي التزام، أو كما قالت بورشا: «إن الرحمة لا تُنتزع كرها، وإنما تنهمر من المرء كما تنهمر قطرات المطر الرقيقة من السماء على الأرض. إنها نعمة مزدوجة: نعمة على الراحم ونعمة على المرحوم» (4: 1: 181-184).[37] هذه هي النعمة المزدوجة: أولًا، النعمة على من تلقى الرحمة، بما أنه قد تلقاها من دون استحقاق، فلو كان يستحقها لما كانت رحمة وإنما مجرد تعويض عادل. وبالتالي عليه أن يرد على هذه الهبة السخية بحب لا حد له. حب لا حد له في مقابل الرحمة التي لا حد لها؛ وثانيًا النعمة على من منح الرحمة، بما أنه سيكافئ على رحمته بالجزيل، ليس بامتنان من تلقى رحمته وبحبه فحسب، وإنما في المقام الأول بالسمعة التي ستخلع عليه كرجل ذو وجاهة وسخاء، بما أنه قد فعل ما يربو على ما يجب عليه فعله، وبذلك يستحق منزلته العالية التي تمكنه من أن ينشر رحمته على الآخرين الأدنى منه منزلة.

تحتوي خطبة بورشا هذه على نظرية مُصغّرة للسلطة: تتألف السلطة من صولجان ورحمة/حب. فالصولجان «يعبّر عن قوة السلطة الدنيوية، فهو رمز الهيبة والجلال، ومصدر الخوف من الملوك ورهبتهم» (4: 1: 187-189). الصولجان يبعث على الهيبة والخوف والرهبة. «لكن الرحمة أسمى من الصولجان وسلطانه... إنها صفة من صفات الله نفسه. وبالتالي تغدو سلطة الملوك أشبه بسلطة الله عندما يُطيبون العدل بالرحمة» (190-194). على النقيض من الصولجان وقسره، تبعث الرحمة على الحب والانصياع الطوعي والإخلاص. الصولجان يرمز إلى السلطة الدنيوية، ويعبّر عن القوة والقهر، لكن الرحمة هي المكون الإلهي في السلطة: فالله هو الذي أنعم برحمته على الملك بالسلطة، ولا يمكن للملك أن يكون حقيقًا بهذه النعمة إلا عندما ينعم هو الآخر برحمته على الرعية فيما وراء القانون والعدالة، وبذلك يثبت أنه يشغل موقع السلطة عن جدارة، أي أنه جدير برحمة الله التي وضعته في هذا الموضع ابتداءً. بالطبع بمقدور الملك أن يحكم بالقانون وحده، بالقوة وحدها، بالعدالة وحدها، لكنه لا يُثبت أنه جدير بسلطته إلا بمنحه ما يربو على القانون والقوة والعدالة، أي الرحمة، طوعًا، من دون أي إلزام. وهنا تضفي الرحمة—المُطيبة للعدالة—الشرعية على سلطته فيما وراء الشرعية القانونية. هنا نجد مصدري شرعية السلطة: القانون والحب.

بورشا ألتوسيرية بالسليقة: فحاصل خطبتها هو الإشارة إلى القسمة الألتوسيرية بين أجهزة الدولة القمعية وأجهزتها الأيديولوجية. الأولى مبنية على «الخوف من الملوك ورهبتهم»، والثانية تبعث على الانصياع الطوعي وعلى—ولنقُلها—الحب. ليس الـ interpellation الألتوسيري[38]—الذي يتعرف من خلاله الشخص على نفسه كذات لها هوية اجتماعية معينة، أي كمستقل وكخاضع في الوقت عينه، فالخضوع  يتخذ هنا هيئة الاستقلال—موطنًا للتعرف على هوية اجتماعية معينة والتلبس بها فحسب، وإنما هو موطن للرحمة أيضًا. فالفرد يُستدعى، يُصطفى لشغل هوية اجتماعية معينة، وكأن الآخر الكبير قد وهب الفرد، بهذا الاستدعاء، رحمته. وبتعرف الفرد على نفسه كمتلقٍ لهذه الرحمة يصير ذاتًا. وكأن الذات لا تكون ذاتًا إذن إلا بفضل رحمة الآخر الكبير، وبذلك يكون الفرد مدينًا له بهذه النعمة، دَينًا لا يمكن قضاءه قط، وإنما كل ما يمكن للمرء فعله هو أن يقابل هذه النعمة بالحب، لكن حتى أكمل أشكال الحب وأقلها تحفظًا يظل غير كافٍ. على خلفية القسر والقمع إذن، تشغل الرحمة موضع القلب من الأيديولوجيا.[39]

ومع ذلك، يمكن لألتوسيرية بورشا أن تلقي بظلال من الشك على نظرية ألتوسير، على رؤيته لمشكلة السلطة في هذه القسمة: القمع/الأيديولوجيا، القسر/الرحمة، البراني/الجواني (لم يعتبر واحد مثل فوكو ذلك مشكلة على الإطلاق، فعنده ثمة دومًا حقل من القوى القسرية والأيديولوجية المتداخلة على نحو يتعذر معه تمييزها عن بعضها البعض، حتى نوجز القول). فالشيء المفقود من هذه القسمة هو قوة الرمزي (the symbolic)، التي تعمل عملها تحديدًا في نقطة تقاطع طرفي القسمة، هو "العنف الرمزي" الذي يشغل موضع القلب من هذه القسمة لكنه مستتر بداخلها. ومن المثير للاهتمام، أن يضع ماوريتزيو لازاراتو، في كتابه عن الإنسان المدين، الدَين عند نقطة التقاطع هذه تحديدًا، يقول: «قوة الدَين لا تُمارس عن طريق القمع ولا عن طريق الأيديولوجيا. فالمدين (حر)، لكن أفعاله وسلوكياته لا بد أن تكون مقيدة ضمن الحدود التي يفرضها الدَين الذي يثقل كاهله».[40] وبذلك يطابق لازاراتو بين الدَين الاقتصادي والدَين الرمزي الذي يجعل الذات «مدينة سلفًا وعلى الدوام» (عائدًا إلى ربط نيتشه الجوهري بين الـ Schuld  والـ Schulden، بين الذنب والدَين).

بورشا أجامبينية بالسليقة أيضًا: فأجامبين يرى السيادة على النحو التالي تحديدًا: السيّد (صاحب السيادة) «موجود داخل النظام القانوني وخارجه في الوقت عينه... فلأن بمقدوره أن يعطّل القانون، يكون قد وضِع بالقانون خارج القانون».[41] تنبني السيادة على الاستثناء، فوحده السيّد بمقدوره أن يعطل القانون، والرحمة هي استثناء من القانون، تعطيل له، فهي متجاوزة للقانون، متجاوزة للعقد، باعتبارها فائضًا، فضلًا، مرهونًا بهوى السيّد، الذي يمكنه منحه أو منعه وفق هواه بمعزل عن أي إلزام. الرحمة هي حالة الاستثناء في أنقى أحوالها. فبمقدور السيد أن يعطّل القانون لينزل بالأفراد عنفًا تعسفيًا، غير ملطّف بأية قيود قانونية، لكن بمقدوره أيضًا أن يعطل القانون ليهب الرحمة المتجاوزة لحكم القانون، لمحض العدالة، كفضل يجب أن يُرد عليه بالحب، الحب بوصفه العملة الوحيدة التي يمكن بها قضاء دَين الرحمة (كما سنبين لاحقًا). وعليه، يمكن القول إن كل من العنف والسلطة والرحمة والحب عبارة عن مناحٍ مختلفة من نفس الشيء. ومن وجهة النظر هذه، ليست الرحمة موضع الحب المتجاوز للقانون والقمع والعقد والتبادل والعدالة إلخ، وإنما تفتح الرحمة أيضًا الباب للعنف المحض منفلت العقال، لحالة الاستثناء. وكذلك يمكن للمرء أن يقول إن مشهد المحكمة في الفصل الرابع من المسرحية هو، في الأساس، مشهد "الحياة العارية" (المجردة، المحضة)، حياة أنطونيو العارية أولًا، التي رُهنت في مقابل دَينه، كما يتماشى مع القانون الروماني، وحياة شايلوك العارية ثانيًا، التي عفى عنها الدوق، سيّد البندقية، برحمته، في نهاية المطاف، كمقابل لافتقار شايلوك إلى الرحمة وتمسكه بحرفية العقد. وهكذا يمكن القول إن السيادة هي مزيج غير متمايز من العنف والرحمة.   

5.

لو قدّر للبروليتاريا أن تتكلم، ماذا عساها أن تقول؟ ستستشهد بشايلوك، ستتكلم بصوت شايلوك (قائلة: «أنت تسلبني حياتي عندما تسلبني وسائل عيشي»).

على خطبة بورشا عن الرحمة، ردّ شايلوك قائلًا: «إن مغبة أفعالي على رأسي وحدي! أنا أستمسك بالقانون، أريد الغرامة المنصوص عليها في العقد» (4: 1: 203-204).[42] وهذه هي الأبيات التي استشهد بها ماركس في معرض مناقشته لقانون سنة 1844 الإنجليزي الذي سعى إلى تنظيم ساعات العمل وفرض قيود على عمل النساء والأطفال، لكن وجد الرأسماليون طرقًا للالتفاف عليه عن طريق الاستمساك بحرفيته على نحو بالغ الدقة: «احتج العمّال ومفتشو المصانع لأسباب صحية وأخلاقية، فردّ عليهم الرأسمال بالقول: "إن مغبة أفعالي على رأسي وحدي! أنا أستمسك بالقانون"».[43] وهاكم المزيد: بموجب حرفية هذا القانون، «لم يتمتع الرأسمالي بكدح الأطفال ذوي الثماني سنوات بلا انقطاع من الساعة الثانية ظهرًا إلى الساعة الثامنة والنصف مساءً فحسب، وإنما بتجويعهم أيضًا أثناء هذه الفترة: "أجل، صدره، هكذا ينص العقد"،[44] سيقول الرأسمالي مستمسكًا على نحو شايلوكي بحرفية قانون 1844».[45] في موضع شهير من الفصل الأول من كتاب رأس المال، شخصن ماركس السلعة وجعلها تتكلم: «لو قدّر للسلع أن تتكلم، لقالت: ...»[46] وعلى نفس المنوال، نجد في هذا الموضع، الذي يناقش قانون 1844، شخصنة لرأس المال نفسه: Moi, le capital, je parle، أنا، رأس المال، أتكلم.[47] لو قدر لرأس المال أن يتكلم، ماذا عساه أن يقول؟ سيستشهد بشايلوك، سيتكلم بصوت شايلوك (قائلًا: «أنا أستمسك بالقانون»، «أجل، صدره، هكذا ينص العقد»).

لكن في موضع آخر لاحق من رأس المال، يناقش تناقضات التقدم التقني في الصناعة الكبرى، قال ماركس ما يلي: «ولقد رأينا فيما سبق كيف يبدد هذا التناقض المطلق كل اطمئنان واستقرار وأمان من حياة العامل؛ الذي يكون مهددًا على الدوام بسلب وسائل عيشه من بين يديه، عن طريق سلب وسائل العمل منه».[48] وهنا وضع ماركس حاشية يستشهد فيها بشايلوك من دون أي تعقيب منه: «أنت تسلبني حياتي عندما تسلبني وسائل عيشي» (4: 1: 372-373). هذا ما قاله شايلوك بعدما خسر قضيته وقرر الدوق برحمته أن يتركه حيًا لكن مع مصادرة جميع أملاكه. وهذا حاشية مدهشة حقًا، فنحن هنا أمام شخصنة للبروليتاريا: أنا، العامل، أتكلم. لو قدّر للبروليتاريا أن تتكلم، ماذا عساها أن تقول؟ ستستشهد بشايلوك، ستتكلم بصوت شايلوك (قائلة: «أنت تسلبني حياتي عندما تسلبني وسائل عيشي»).

وهكذا يتبين لنا أن شايلوك شخص ملتبس التباسًا مطلقًا، فهو المرابي النموذجي، الرأسمالي (النقدي) النموذجي، المستخلص النموذجي لرطل اللحم بصفته المعادل الجسدي لفائض القيمة،[49] لكنه في الوقت عينه أيضًا المسلوب النموذجي، ففي نهاية قصته نجده شخصًا مهانًا إهانة مطلقة، مجُرّد من كل ما يملك، حتى من مذهبه الديني، فلم يُترك له إلا حياته العارية، وبذلك يشغل موضع البروليتاريا. إنه الرأسمالي عديم الرحمة والبروليتاري عديم الحيلة، الظالم النموذجي والمظلوم النموذجي، المضطهِد بامتياز والمضطهَد بامتياز.[50] 

6.

إن الرحمة لا تريد منك شيئًا، فهي تهب بالمجان، إنها لا تريد أي شيء، سوى روحك، سوى كل شيء—تمامًا كمحكمة كافكا التي «لا تريد منك شيئًا، إنها تستقبلك عندما تأتي إليها وتصرفك عندما ترحل عنها»

 يرمي الإقراض الربوي إلى تحصيل فائض أو فضل، فالمرء يُقرض لكي يسترد أكثر مما أعطى. وتكمن القوة الرمزية (المجازية) لقرض شايلوك في أنه يبرز الآلية الدقيقة المضمنة في الإقراض—يُستخلص هذا الفائض من لحمنا، إن مصدره هو سرقة متعتنا ونهبها، هو انتزاع فائض المتعة.[51] وفي مقابل ذلك، نجد الرحمة كهبة مجانية لا تنتظر أي عوض و"لا تُنتزع كرهًا"، ضمن سلسلة التقابلات التي تقوم عليها المسرحية برمتها: الجشع في مقابل الإحسان (الخطيئة المهلكة والفضيلة المنجية المقابلة لها)، العهد القديم في مقابل العهد الجديد، حرفية القانون في مقابل روحه، القصاص في مقابل العفو، عقود الاقتصاد (ممثلة في صك شايلوك) وأواصره في مقابل عقود الحب وأواصره. عقود الاقتصاد التي لا ترمي إلى تحصيل عائد مماثل، إلى تبادل "عادل" فحسب وإنما إلى تحصيل فائض متجاوز لمجرد المعادلة، إلى الربح (M’ فوق M بمصطلحات ماركس)، بينما يُفترض للرحمة أن تُعطى بلا مقابل، أن تتجاوز العقد.

لكن لُبّ المسألة هو أن الرحمة مبنية هي الأخرى، لكن متخفية تحت عباءة الكرم، على الفائض وعلى انتزاع عوض. العَدل معادلة، الثواب والعقاب طبقًا للاستحقاق، طبقا للحرف.[52] أما الرحمة فهي ما يربو على الحرف، على القانون والعدل، ما لا يؤخذ كرهًا وإنما يُعطى طوعًا. ومع ذلك، الهبة تُدين، تجعل متلقيها مدينًا لواهبها، والأنكى أن شروطها غير معينة، ولو عُينت لكفت عن أن تكون هبة، رحمة. ولذلك دَينها مفتوح وغير متعين، دَين بلا حد، دَين بلا نهاية. فالمرء لا يمكن قط أن يكون جديرًا بالرحمة (وإلا لما كانت رحمة وإنما حق)، ولا يمكن قط لما يعطيه المرء في مقابلها أن يكون كافيًا، أن يكون معادلًا لها كهبة مجانية، فلا يوجد عِدْل للرحمة فيما يملكه المرء. ومن هنا عليه أن يعطي، لقائها، ما لا يملكه، وهذا هو التعريف اللاكاني للحب كما أسلفنا.[53] إن الرحمة تطلب عِدلها من الحب غير المحدود ولا شيء غيره. الرحمة مرابية تفتح دَينًا مطلقًا على المدين تحديدًا عن طريق عدم طلب فائدة معينة منه. إنها لا تطلب في مقابلها "رطلًا من اللحم" وإنما "رطلًا من الروح"—ولذلك كان شرط العفو عن شايلوك، رحمته، هو أن يترك اليهودية ويتحول إلى المسيحية، دِين الحب.[54] رطل من الروح في مقابل رطل من اللحم. رطل اللحم هو معادل الربح، فائض القيمة، ورطل الروح هو معادل الحب، قيمة الحب الفائضة.[55] هذا هو "ربا الحب" في مقابل ربا المال. إن الرحمة لا تريد منك شيئًا، فهي تهب بالمجان، إنها لا تريد أي شيء، سوى روحك، سوى كل شيء—تمامًا كمحكمة كافكا التي «لا تريد منك شيئًا، إنها تستقبلك عندما تأتي إليها وتصرفك عندما ترحل عنها»،[56] ومع ذلك، أخذت روح ك، أعدمته بيديه.

الرحمة متعدية، فهي تتخطى حرفية القانون، وذلك باعتبارها هبة مجانية، نزوة، هوى (ومن ثمّ "لا تُنتزع كرها")، وبهذا التعدي تجعل متلقيها مدينًا، تنتظر منه أكثر من مجرد طاعة القوانين والانصياع للقواعد. الفائض الذي طلبه شايلوك، مجسدًا في رطل اللحم، منصوص عليه في صك الدَين، وبذلك يكشف هذا الصك عن طبيعة العقد الرأسمالي، عن البند غير المفصح عنه في التبادل التعاقدي القانوني بين الرأسمالي والعامل: يدفع الرأسمالي أجرًا عادلًا في مقابل عمل العامل. فهذا التبادل التعاقدي القانوني تمامًا، بين فاعلين متمتعين بالحرية، يخفي تحته إنتاج فائض القيمة (وكأنه صادف فقط أن تنتج قوة العمل قيمة أكبر من التي تستحقها أجرًا لها). هذا هو انحراف القانونية، التعدي ضمن حدود القانون نفسه، مجسدًا، في صك شايلوك، في هيئة رطل لحم. أما الرحمة، على الناحية الأخرى، فهي تعدٍ فيما وراء حدود القانون، وذلك بفتحها  على المرحوم دَينًا لا يمكن قضاءه أبدًا. يتعدى القانون ويطلب رطلًا من اللحم، تتعدى الرحمة وتطلب (رطلًا من) الروح.

تعرض مسرحية تاجر البندقية تحققًا تاريخيًا لـ dispositive الرحمة،[57] التي تُعدّ رمزًا لثقافتنا واقتصادنا وروابطنا الاجتماعية. فالمسرحية تبين الطريقة التي تعمل بها الرحمة كأنا أعلى (super ego)—أي كلما أعطينا في مقابلها كلما زاد دَيننا لها، وشعرنا بالذنب، وصرنا تحت رحمة الآخر الكبير أكثر.[58] إن بورشا، بشير الرحمة (التي يمكن اعتبارها أفاتار/تجسيدًا جديدًا لمريم العذراء، وذلك بالنظر إلى المصدر القروسطي لمشهد المحكمة: Processus Belial، قضية إبليس[59] تخفي تحت وجه الرحمة الجليل، وجه الأنا الأعلى الفاحش. فلقد ألقت خطبتها عن الرحمة وهي متخفية في زِيّ رجل، الأنا الأعلى "الأنثوي" في لِباس قاضٍ، الرحمة إذ تترجّل. والأنكى: تبين عاجلًا في مشهد المحكمة، أن خطبة بورشا عن الرحمة لم تكن برمتها سوى خدعة بلاغية، رحمة منحرفة انحرافًا مضاعفًا. فلقد كان بمقدور بورشا أن تبدأ المحاكمة بما تعلمه من اللحظة الأولى، وهو أن شايلوك "أجنبي"، "غريب" طبقًا لقانون البندقية، وبالتالي لا يحق له أن يحاكم أحد مواطنيها في محكمتها، أي أن قضيته باطلة منذ البداية. لقد كان شايلوك  تحت رحمة المحكمة، منذ أن دخلها، لكن من دون أن يدرك ذلك. وكل الحديث عن الرحمة التي توسلوا إليه أن يظهرها لم يكن سوى حيلة، بما أن قضيته كانت خاسرة مقدمًا.

7.

«إن الرحمة لا تُنتزع كرهًا»، إن الرحمة لا يُكرَه عليها، لا يُرغم عليها، إنها ما يَنزع كرها، ما يُكرِه، ما يُرغِم بأنجع ما يكون.               

يتطابق فائض الجشع والربا، مجسدًا في اليهودي، تمامًا مع نقيضه، فائض الرحمة، مجسدًا في المرأة الحسناء، الثرية، فائقة الذكاء، التي تتبختر في ثوب رجل مزين بشارة السلطة (زيّ القاضي). قد يبدو للوهلة الأولى أن شايلوك هو رمز الرأسمالية، الذي يجسد كلا من طبيعتها المغالية والمفرطة، المراكمة، الربح، الفائض، الانتزاع والغصب، كلفتها الجسدية، بداية الرأسمال النقدي، الفوائد، الديون. وبالتالي تكون بورشا هي رمز الرحمة ما قبل-الحديثة، التي تنبني عليها السيادة، فالملوك يهبون رحمتهم ليبينوا أنهم ليسوا الآخر الكبير ممثًلا في القانون فحسب وإنما هم أيضا الآخر الكبير لهذا الآخر الكبير نفسه، هم الاستثناء السيادي، الذي بمقدوره أن يعطل القانون، ليهب رحمته، هم الجانب الرحيم لهذا الاستثناء متخفيًا ومتطابقًا مع جانبه القاسي والفاحش. لكن أليس العكس هو الصحيح؟ ألا يمثل انتاج الإنسان المدين إلى الأبد، الذي وصفه ماوريتزيو لازاراتو باستفاضه، الانتصار التاريخي للرحمة ودَينها اللانهائي، للوجود تحت الرحمة، على اقتصاد شايلوك القائم على القرض والفائدة؟

في دراستهما المرجعية، حاجج سايمون كريتشلي وتوم مَكارثي عن أننا نعيش، وكما ينص عنوان الدراسة، في ظل "شايلوكانيّة كونيّة". فمقتفين لأثر ماركس، يقولان:

لقد أصبح العالم البرجوازي، عالم الرأسمالية المسيحية الأنطونيوني، عالمًا شايلوكيًّا. أي أن العالم المسيحي قد أضحى مهيمنًا عليه من قِبل السمت (الاقتصادي) اليهودي، من قِبل ما يسميه ماركس بـ"اليهودية العملية" ... لقد أضحى المسيحيون يهود عمليين... الرأسمالية هي نظام قائم على الشايلوكانية الكونية، حيث مُزقت كل حدود الاقتصاد الأنطونيوني، حدود الـ oikos، البيت، السكن، الـ Heimat ، الوطن الأم، والإنسان، بفعل قوة التبادل المالي وفائضه. لقد تحول الإقراض الربوي من ممارسة هامشية متروكة لليهود... إلى ممارسة تغدو عالمية على نحو لا ينفك يتزايد، ممارسة تتشكل من خلالها الهوية... أنا مدين، إذن أنا موجود... أن تكون يعني أن تكون مدينًا، الصلاح هو صلاح الإئتمان.[60]     

  لكن ما أود أن أحاجج عنه، في ختام هذه الدراسة، وعلى خلاف كريتشلي ومَكارثي، هو أننا لو أعدنا النظر في اقتصاد شايلوك المفرط والمغالي، سيتبين لنا أنه مثال على ما يدعوه جورج باطاي بالاقتصاد المحدود أو المقيّد.[61] ولو أعدنا النظر في بورشا، مجسِدة الرحمة، التي تهبّ إلى نجدة أنطونيو واقتصاده المسيحي، سيتبين لنا أنها تجسد مستقبل اقتصاد الدَين، تخطيه إلى "ما وراء مبدأ شايلوك"، طبيعته غير المقيدة، غير المحدودة، "غير الإكراهية"، بما أن الرحمة "لا تُنتزع كرهًا".[62]   

من منظور "الشايلوكانية الكونية"، حقق شايلوك انتصارًا مظفّرًا، في نهاية المطاف، على الرغم من هزيمته القانونية الساحقة، عن طريق تهويد الرأسمالية على نحو معمم. يهودية الرأسمالية باعتبارها الواقع الاقتصادي القاسي المستتر تحت عباءة المسيحية الرحيمة. لكن ألسنا نعيش، عوضًا عن ذلك، في ظل "بورشانيّة كونية"، حيث أضحت اليد الطولى للرحمة كواقع اقتصادي (دَين لا نهائي) ونفسي (دَين لا يمكن قضاءه، تمامًا كدَين الأنا الأعلى)، لا باعتبارها مجرد قناع خادع يخفي تحته يهودية اقتصادية قاسية، وإنما باعتبارها مبدأ لا ينفك يوجه الاقتصاد ويقوده؟ مقتفيًا لأثر دولوز، يضع لازاراتو لانهائية الدَين، التي ظهرت مع المسيحية والرأسمالية، في مقابل محدودية الدَين في المجتمعات العتيقة. لكن يسوغ لنا أن نصف ما شهدناه حديثًا، تحديدًا مع المنعطف النيوليبرالي في الثلاثين سنة المنصرمة، مع الآليات الجديدة للنيوليبرالية المظفّرة، بأنه جعْل لانهائية الدَين نفسها أكثر لانهائية، بأنه درجة جديدة من اللانهائية، لانهائية مضاعفة.

يسوغ لنا أن ندرج شايلوك في ألبوم البخلاء الطويل، الذي يبدأ بإيكليونس، بطل مسرحية وعاء الذهب للمسرحي الروماني بلاوتوس (سنة 195 قبل الميلاد تقريبًا)، البخيل ما قبل-الحديث، الذي يكنز الذهب، بلا إقراض وبلا فوائد. ثم هاربَجون بطل مسرحية البخيل لموليير (سنة 1688)، التي تعد إعادة كتابة لمسرحية بلاوتوس على عتبة الحداثة. ثم جوبسك بطل رواية جوبسك لبلزاك (سنة 1830-1835)، المرابي المكتمل، الملك السري، الذي يحكم بيد خفية من غرفته المظلمة في القبو، والذي أضحى عندما خرج إلى العلن، في الخاتمة الأولى الكاشفة للغاية التي كتبها بلزاك للرواية، مصرفي كبير، واحد من آل روتشيلد، في القرن التاسع عشر حيث غدت الرأسمالية وضعًا طبيعيًا. لينتهي بسكروج بطل رواية ترنيمة الكريسماس لديكنز (سنة 1843)، البخيل الأخير، الذي يتحول، في خاتمة الرواية الأشد كشفًا من خاتمة رواية بلزاك حتى، من الشح إلى الرحمة. وبذلك أضحى الجشع خفيًّا، فكل البخلاء أصبحوا رحماء، وأضحى الاقتصاد، في العموم، تدبيرًا (إدارة) للرحمة. وبتحول آخر بخيل إلى الرحمة، هلكنا حقًا، فهذا هو المنعطف الذي ينبغي علينا أن نشعر عنده بالفزع، عوضًا عن أن نتأثر عاطفيًا بهذا الإحسان، بهذه الطيبة المفاجئة. 

"رائد أعمال الذات" الذي يصفه لازاراتو في كتابه،[63] هو شخص عليه أن يعوّل على رحمة الآخر الكبير، شخص واقع تحت رحمة الآخر الكبير على الدوام، شخص عليه أن يبرر وجوده في عين الآخر الكبير، لكنه لا يستطع أن يفعل ذلك قط، إنه نُفاية، لا يستحق أبدًا رحمة أن يكون حيًّا، وعليه أن يكون ممتنًا على مجرد عيش الكفاف الذي يحظى به، فهو مذنب ومدين إلى الأبد بوجوده البئيس المثير للشفقة. ها هو تدبير النفاية، ومن ضمنها الناس، يتطابق مع تدبير الرحمة. أما نقيضه، قرينه المقلوب، فهو المستثمر، المضارب، الذي يستحق الرحمة تلقائيًا بغض النظر عن مخاطراته الكارثية وخسائرة الهائلة، والذي لا يتحمل الدَين ذاتيًّا قط (فمن يستدين أضخم الديون هو أكبر الدول وأضخم البنوك، وليس "الإنسان المدين"، النموذج الأولي للذات النيوليبرالية عند لازاراتو)، وإنما يوزع الرحمة على حساب الجميع.  

«إن الرحمة لا تُنتزع كرهًا»، إن الرحمة لا يُكرَه عليها، لا يُرغم عليها، إنها ما يَنزع كرها، ما يُكرِه، ما يُرغِم بأنجع ما يكون.               


[1]  Dolar, Mladen. "The Quality of Mercy Is Not Strained." The Yearbook of Comparative Literature 60 (2014): 9-26.

[العنوان مقتبس من خطبة بورشا في مشهد المحكمة من مسرحية تاجر البندقية، موضوع هذه الدراسة. أما العنوان الفرعي، فيما بين القوسين، فهو من وضع المترجم، وكذلك هو من رقّم أقسام الدراسة ].

[2]  Graeber, David. Debt: The First 5,000 Years. New York: Melville House, 2011.

[3]  Shakespeare, William. The Merchant of Venice. Ed. Jay L. Halio. Oxford: Oxford University Press (Oxford World’s Classics), 1993.

]جميع النقول المستشهد بها من المسرحية من ترجمتي. وتُعزى إلى مصدرها في المتن كالتالي: (رقم الفصل: رقم المشهد: رقم الأبيات) [.

[4]  في جدال طويل مع أنطونيو (1: 3: 70-95). ولابان هو خال يعقوب ووالد زوجتيه ليئة (ليا) وراحيل (ريتشل). والقصة المقصودة هي اتفاق لابان ويعقوب على أن يكون ليعقوب من ضأن لابان كل أسوَد من الحملان وكل أبيض وأرقط من الماعز. وهذه ألوان نادرة، فالغالب على النعاج أن تكون بيضاء والغالب على الماعز أن تكون سوداء. لكن متوسلًا بإستراتجيات رعوية جنسية معقدة، استطاع يعقوب أن يجعل النعاج تلد الكثير من الحملان السوداء وأن يجعل الماعز تلد الكثير من العنزات البيضاء والرقطاء (انظر، التكوين 30: 31-43). ويقيس شايلوك نفسه،كمرابٍ حصيف، على يعقوب كراعٍ خبير (أو ملهم)، فعن طريق الإقراض بفائدة يجعل شايلوك النقود تتكاثر بنفس السرعة والوفرة التي جعل يعقوب الضأن تتكاثر بها. ] المترجم[ 

[5]  Marx, Karl. Capital: A Critique of Political Economy, Trans. Ben Fowkes. Harmondsworth: Penguin Books, 1976. Vol. 1, p. 400.

[6] يقول شايلوك في أحد المواضع [في مونولوج عن كرهه لأنطونيو]: «سأطعم ضغينتي القديمة من شحمه حتى تشبع» (1: 3: 44)، ثم يقول لاحقًا [مخاطبًا ابنته جَسيكا مبررًا ذهابه إلى العشاء عند أنطونيو]: «لكني سأذهب بدافع من البغض، حتى أتغذى على هذا المسيحي المضياع» (2: 5: 14-15). هنا نجد الكانيباليّة (أكل لحم البشر) مُفصَح عنها بصراحة مذهلة. ولذلك طرح روبرت فليس (ابن فيلهلم فليس صديق فرويد الحميم) الفرضية القائلة بأن علينا أن نصنف شايلوك في خانة "النوع الفموي" (oral type)، وليس في خانة "النوع الشرجي" (anal type)، كما يتفق مع ربط فرويد بين الجشع والشح وبين الشرجية. وهي فرضية تتماشى مع الاستيهام الشائع حول انخراط اليهود في ضرب من الطقوس الكانيباليّة مع الأطفال المسيحيين.  

[7]  يقول نيتشه: «بمقدور الدائن أن يُنزل على جسد المدين كل أشكال العذاب والخزي، على سبيل المثال، أن يقتطع من لحمه القدر الذي يراه متناسبًا مع مقدار الدين:— ومن هذه الجهة، وجِدت مبكرًا، في كل مكان، تقديرات موغلة في التفصيل والتدقيق على نحو مروع، تقديرات معتمد عليها قانونيًا لقيمة آحاد أطراف الجسد وأجزائه المختلفة.» انظر:

Nietzsche, Friedrich. On the Genealogy of Morals. Trans. Douglas Smith. Oxford: Oxford University Press (Oxford World’s Classics), 2006, 42.

[8]   سيمون نيقولا هنري لونجيه (1736-1794)، مؤرخ ومحام ومنظّر قانوني أنواري فرنسي، كاتب غزير التصانيف، شارك في الثورة الفرنسية، وانتهى به الحال بالطبع على المقصلة.  

[9] جورج فريدريك دومر (1800-1875)، فيلسوف ومؤرخ وشاعر ألماني. تتلمذ على يد هيجل في مدرسة نورنبرج. واشتهر بأنه كان معلمًا ومضيفًا لكاسبر هاوزر فيما بين 1828-1830. انخرط في هجوم مسموم على المسيحية قبل أن يعتنق الكاثوليكية في 1858 ويصبح مدافعًا عتيدًا عنها. وقد كتب ماركس وإنجلز نقدا قاسيًا لكتابه Religion des neuen weltalters، دين العصر الجديد، في سنة 1850. [كاسبر هاوزر (1812-1833)، شاب ألماني حياته محاطة بالكثير من الريبة والجدل. ظهر فجأة في نوربرج يحمل رسالة من رجل مجهول تقول إنه قد وضع في عهدته كرضيع لكنه لم يخرج قط من بيته].

[10]  هنا جناس لفظي (pun) لا يمكن نقله إلى العربية، فالفظ الذي استعمله المؤلف هو credit والذي يعني، في نفس الوقت، الإقراض ونسبة الفضل. [المترجم] 

[11]  هنا أيضا جناس لفظي فلفظ subject يعني "ذات" ويعني "خاضع" في الوقت عينه. والمؤلف يريد أن يقول هنا إن كوننا ذواتًا اقتصادية يعني كوننا خاضعين بالكلية. [المترجم]

[12]  يقول ماركس: «اقتصاد الزمن، الذي يُردّ إليه كل اقتصاد آخر في نهاية المطاف»، انظر:

Marx, Karl. Grundrisse. Trans. Martin Nicolaus. Harmondsworth: Penguin Books, 1993, 89.

والدَين هو اقتصاد الزمن في أبسط أشكاله، لكن ماركس لم يكن يتحدث عن الدَين في هذا النقل الشهير.

[13] "في نهاية التحليل" (in the last instance) مصطلح استعاره لوي ألتوسير من إنجلز. يستعمله في سياق تصحيحه للتصور الماركسي الذي يردّ البنية الفوقية في المجتمع (الأيديولوجيا والثقافة والسياسة) إلى البنية التحتية (الاقتصاد، نمط الإنتاج وعلاقاته) ردًّا كليًا، أي ما يسمى بالحتمية الاقتصادية. يريد ألتوسير أن يمنح البنية الفوقية قدرًا من الفاعلية التاريخية والاستقلالية عن البنية التحتية، ويريد أن يصبغ عليها صبغة مادية. لكنه يريد في الوقت عينه أن يبقي على الدور الأساسي الذي يلعبه الاقتصاد. وسبيله إلى ذلك، هو القول بأن البنية الفوقية فاعلة ومستقلة لكنها، في نهاية المطاف، في نهاية التحليل، محكومة بالبنية التحتية. لكن هذه اللحظة النقية التي نجد فيها البنية الفوقية محكومة على نحو حتمي بالبنية التحتية، أي لحظة نهاية التحليل لا تحين أبدًا. [المترجم]   

[14]  Marx, Karl. Capital, vol. 1,  p. 163.

[15]  تناول أجامبين فكرة بنيامين عن الرأسمالية بوصفها دينًا في أكثر من موضع من أعماله (آخرها وأطولها، الفصل الخامس من كتابه creation and anarchy). ولشرح مبسط لفكرة بنيامين ولبناء أجامبين عليها، انظر: طارق عثمان، "استيهامات ماركسية: أجامبين في وادي البورنو،" مركز نماء للبحوث والدراسات، أغسطس، 2019، خاصة القسم الثاني من الدراسة. [المترجم]

[16] قبل أن يموت والد بورشا، أراد أن يكون هو من يختار زوج ابنته من قبره. فعوضًا عن أن يترك لها حرية اختيار زوجها، جعل مصيرها معلقًا بقرعة. ثلاثة صناديق مغلقة، الأول من ذهب والثاني من فضة والثالث من رصاص، وواحد منها فقط يحتوى على صورة لبورشا. وعلى كل خاطب أن يختار واحد من الصناديق الثلاثة، ومن يقع اختياره على الصندوق الذي يحتوي على صورة بورشا (الرصاصي)، يفوز بصاحبة الصورة. [المترجم]

[17]   نجد لدى العرافات دومًا ميلًا مُهلكًا إلى الحرفي، وكذلك نجده عند الربات، على سبيل المثال عندما يكفلن للبشر الفانين تحقيق "الأمنيات الثلاث" [جني المصباح والأمنيات الثلاث]، في حين نجد الأشخاص المعنيين بالنبؤة أو الأماني يبحثون عن معنى أعمق أو أسمى ويعمون تمامًا عن المعنى الحرفي، وفي ذلك يكون هلاكهم. وفي ذلك تشبه الربات المحللين النفسيين الذين يستمسكون بالحرف بينما يغفل عنه الأشخاص (شرط اللاوعي؟). وهكذا نجد شايلوك يغفل عن ارتباط اللحم بالدم [إذ طلب رطل اللحم لكن غفل عن أن قطعه يستلزم سفك دم أنطونيو المسيحي، وفي ذلك هلاك شايلوك]، فحاسبته ربة القانون، في هيئة بورشا المتنكرة كمحام، على الحرف، طلبت منه الالتزام بحرفية المكتوب في الصك، وإن كانت المسرحية لم تنص قط على الكلمات الحرفية لهذا البند في الصك [فطلبت منه بمقتضى حرفية الصك أن يقطع رطل اللحم ومن ثمّ إهلاك نفسه بسفك الدم المسيحي، وهنا يكمن موتيف الجزاء من جنس العمل]. هذه هي زلة شايلوك الفرويدية التي حلت به لتنتقم، وهي الزلة الأكثر إدهاشًا من بين جميع الزلات: فلقد كان اليهود، على ما يُفترض، مُهوّسون بالدم المسيحي، وهو الأمر الذي نسجت منه استيهامات لا حصر لها، وهكذا نسي هذا اليهودي النموذجي للحظة أن يكون يهوديًا نموذجيًا، نسي، من بين جميع الأشياء، الدم المسيحي، الذي يفترض أن اليهود يسعون خلفه. وفي نفس الوقت، تتمثل هذه الزلة الفرويدية في غفلة شايلوك، من بين جميع الأشياء، عن الحرف، الحرف الذي يُفترض أن يكون اليهود ضليعين فيه [التوراة، الشريعة] ومستمسكين به وحده، بينما يغفلون عن الروح (ومن ضمنها الروح القدس). الدم والحرف، هذه هي زلة شايلوك الفرويدية المزدوجة.          

[18]  يشبّه ماركس أسطورة المراكمة الأولية لرأس المال بالخطيئة الأصلية، فهي تلعب في الاقتصاد الدور الذي تلعبه الخطيئة الأصلية في اللاهوت. وتقول الأسطورة إن البشر كانوا صنفان: صنف مكدّ ومقتصد، وآخر كسول ومبذر. الصنف الأول هم الذين استطاعوا مراكمة رأس المال (وهذه هي المراكمة الأولية)، ومن ثمّ، أصبحوا رأسمالين في نهاية المطاف. أما الصنف الثاني فهم الذين لم يبق معهم شيء ليبيعوه سوى جلدهم، عملهم، ومن ثمّ، أصبحوا عمالًا في نهاية المطاف. لقد أكل الصنف الثاني فائضه إسرافًا فسقط في الفقر وصار عاملًا يأكل من عرق جبينه، تماما كما أكل آدم من الشجرة فسقط إلى الأرض وحكم عليه بأن يأكل من عرق جبينه. ويضيف ماركس ساخرًا، أنه على الرغم من أن الأكل بعرق الجبين لعنة معممة على البشر، إلا أن الرأسمالي قد تمكن من أن ينجو منها، إذ أنه لم يضطر قط للأكل بعرق جبينه تاركًا ذلك للعامل. [المترجم]  

[19]  هذه واحدة من زلات شكسبير، ففي ذلك الزمن، لم يكن للبندقية حق في ممارسة التجارة مع المكسيك. لكن زلة شكسبير الكبرى هي، بلا ريب، أنه لم يأت قط على ذكر الجيتو ghetto. فالجيتو، مكان عزل اليهود، من اختراع البندقية، ففي سنة 1516، أسست في إحدى الجزر الجيتو نوفو (الجيتو الجديد)، ثم وسعته في سنة 1541 بتأسيس الجيتو فيكيو (الجيتو القديم) في جزيرة مجاورة.

[20] كحاشية تاريخية عجيبة، صادف أن يكون جون ويلكس بوث، قاتل إبراهام لينكن، أخو إيدوين بوث، أحد أشهر الممثلين الأمريكيين، والذي اشتهر خاصة بلعب دور شايلوك (تمامًا كوالده جونيوس بروتوس بوث). وبالتالي، لا بد من أن يكون القاتل قد سمع خطبة شايلوك عن العبيد في صباه. يبدو الأمر إذن كما لو أنه كان من المتعين أن يصير لنكن رطل اللحم الذي ينبغي التضحية به في سبيل القضاء على العبودية. 

[21] إحالة على يانوس (Janus)، إله البدايات والنهايات والبوابات والممرات في الميثولوجيا الرومانية. والذي يصور دائمًا بوجهين. ويعني اسمه في اللاتينية ممر أو مدخل، ومن اسمه اشتق اسم شهر يناير، باعتباره أول شهور السنة. [المترجم]

[22]  من المثير للدهشة، اعتبار كريتشلي ومَكارثي أن أنطونيو هو ممثل للـ oikonomia [الاقتصاد الطبيعي، تدبير شأن البيت، الاقتصاد المحدود، اقتصاد الحاجات، أي الاقتصاد "الحسن" أو "العادل"]، في مقابل شايلوك ممثل الـ chrematistics [الاقتصاد المالي، اقتصاد الثروة والنقد، جني الأموال ومراكمتها، الاقتصاد غير المحدود، اقتصاد الرغبات، أي الاقتصاد "الخبيث" أو "الظالم"]، يقولان: «يسعى أنطونيو، بلا انقطاع، إلى إبطال منطق الاقتصاد المالي الحاكم للإدانة عن طريق العودة إلى الاقتصاد الطبيعي المتمثل في التبادل المجرد من الفائدة ... فمع مسألة الإدانة ننتقل من اقتصاد أنطونيو الطبيعي إلى اقتصاد شايلوك المالي». (“universal Shylockery: money and morality in the merchant of Venice”, diacritics, 2004, Vol. 1, p. 8). فأنطونيو، في أحسن أحواله، تاجر مغامر ومخاطر، وضع جميع أمواله في تجارته المنتشرة بكل جسارة في شتى بقاع العالم، لدرجة جعلته خالي الوفاض، بلا مال، ومن ثمّ اضطراره للاقتراض من شايلوك [لصديقه بَسَانيو]—وعلى هذا الحال، لا يمكن قط اعتباره نموذجًا للاقتصاد الطبيعي المبني على الإنتاج، ويقينًا، لا يمكن اعتباره في منأى عن الاستدانة. وعلاوة على ذلك، دائمًا ما ارتاب كل من أرسطو وأفلاطون في التجار باعتبارهم ممثلين لاقتصاد الثروة، لأنهم ليسوا منتجين وإنما يتاجرون في السلع المنتجة سلفًا، أي "dealers"، ولأنهم لا يلتزمون بمعيار التلبية المجردة للحاجات، ولأنهم، قبل كل شيء آخر، "ذوات رحالة" لا تستقر أبدًا في oikos، في بيت [أصل لفظ oikonomia—وeconomy بالتبع—أي الاقتصاد الطبيعي].   

[23]  الإحالة هنا على تحليل فرويد (في كتاب نحو سيكولوجيا علمية المنشور بعد مماته) لموقف الرضيع من الآخرين البالغين (من الأم تحديدًا)، حيث يجد في الآخر (الأم)، (m)other، نصف مألوف وواضح، ونصف مجهول وخفي. وهذا النصف المجهول والغامض هو ما يسميه فرويد بـ das ding  أو the thing، المفهوم الذي اعتمد عليه جاك لاكان وطوره ليصبح الـ objet a. [المترجم]  

[24]  وعلى أساس ذلك بنى الشاعر دبليو. اتش. أودين قرائته الشهيرة للمسرحية، انظر:

Auden, W. H. The Dyer’s Hand and Other Essays. New York: Random House, 1990

[25]  المعنى المجازي هنا هو أن أنطونيو مستعد لأي شيء في سبيل بَسَانيو، ودونما تردد. ومصدر الحرفية هنا هو أن شايلوك سيقطع رطل اللحم من صدر أنطونيو من جانب القلب، وبالتالي لو تعمق سيصل بسكينه فعلًا إلى قلبه. [المترجم]

[26]  قارن مع:

Le Goff, Jacques. Your Money or Your Life: Economy and Religion in the Middle Ages. Trans. Patricia Ranum. New York: Zone Books, 1990.

[في حوار له مع أجون حمزة وفرانك رودا، في مجلة Crisis and Critique (المجلد السابع، العدد الثالث، نوفمبر 2020)، أضاف المؤلف، مِلادن دولار، الملاحظة التالية: العنوان الأصلي لكتاب لوجوف في نشرته الفرنسية هو مالك وحياتك وليس مالك أو حياتك كما نجده في الترجمة الإنجليزية. واستبدال الـ "و" بـ "أو" يفسد المعنى الذي يقصده لوجوف بالكلية. فما يقصده هو أنه بتحليل الربا تدريجيًا في العصر الوسيط فاز المرابي بالحسنيين: بماله في الدنيا—إذ لم يعد شرط قبول توبته هو التخلص من كل ماله الذي جمعه بالربا قبل موته، وبحياته في الآخرة—بنجاته من الجحيم ودخوله المطهر عوضًا عن ذلك. وهذا المعنى تحديدًا هو الذي ينفيه العنوان الإنجليزي بهذه الـ "أو"].   

[27]  لصوص الزمن، عنوان فيلم تيري جيلم، الصادر في 1981، والذي يحمل شعار: إنهم لم يصنعوا التاريخ وإنما سرقوه! [المترجم]

[28] لقد أكثر ماركس من الاستشهاد بأقوال لوثر في الربا في كتاب رأس المال.

[29]  وبالمناسبة، لم تبح الكنيسة الكاثوليكية الربا إلا في سنة 1829. وللمزيد انظر دراسة بنيامين نيلسون الكلاسيكية التالية:

Nelson, Benjamin. The Idea of Usury: From Tribal Brotherhood to Universal Otherhood. Chicago: The University of Chicago Press, 1969.

فإباحة الفوائد الربوية هي علامة الانتقال، المشار إليه في عنوان الكتاب الكاشف، من الأخوية القبلية إلى الآخرية الكونية، وهذا الانتقال هو أساس الحداثة.

[30]  في الطرف المقابل لهذه السيرورة، أي في زمننا الحاضر، يمكن للمرء أن يرى الأرقام المذهلة التي استشهد بها لازاراتو في كتابه عن الدَين: دفعت فرنسا، في الفترة من 2007 إلى 2011،  50 مليار يورو فوائد على ديونها، وهو مبلغ أضخم من ميزانية الدفاع الفرنسية. فالفوائد، المكون المميز للحداثة، أصل الرأسمال النقدي، ستخنقنا حتمًا في النهاية، انظر:

Lazzarato, Maurizio. The Making of the Indebted Man. Trans. Joshua David Jordan. Amsterdam: Semiotext(e), 2011, p. 18.

[31] هذا عين ما نجده في مغامرات توم سوير لمارك توين، فقط يحل توم سوير في محل بَسَانيو، ويحل البلي في محل الأسهم: «إذا ضيعت بلية، قل تعزيمه، وارمي بلية أخرى، وستقف بقرب البلية الضائعة. فأخذ بلية من جيبه ورماها في نفس الاتجاه، قائلًا: أيتها الأخت، اذهبي واعثري على أختك. وراقب أين توقفت ثم ذهب إلى هناك ونظر. فلم يجد البلية الأولى، وبالتالي لا بد أن تكون البلية الثانية قد توقفت قبل الأولى بكثير أو أبعد عنها بكثير. فحاول مرتين إضافيتين، ونجح في المرة الأخيرة. إذ وجد البليتين على بعد قدم من بعضهما البعض»، انظر:

Twain, Mark. Adventures of Tom Sawyer. San Diego: ICON Classics, 2005, p. 63.

[32] يعرف المعجم إستراتيجية Va banque كالتالي: «إستراتيجية مقامرة خطيرة، يتّبعها في أغلب الأحيان مقامرون غير مستقرين عاطفيًا أو عديمي الخبرة، وتؤدي عادة إلى نتائج كارثية. وتعني في الأساس، مخاطرة اللاعب برأسماله على كارت واحد، أو رمية نرد، أو دورة روليت». وهنا يسع المرء أن يقول إن المقامر هو أرستقراطي الفقراء.  

[33]  أو «الحب هو أن تعطي ما لا تملك لمن لا يحتاجه.» لكن بحسب بروس فينك، النص الأصلي لهذه المقولة هو «الحب هو أن تعطي ما لا تملكه» فقط، أما بقيتها «لمن لا يحتاجه،» فهي زيادة طريفة أضافها أحد الطلاب الحاضرين في الدرس بعدما قال لاكان عبارته. ونجد المقولة في نسختها الأصلية مذكورة مرارًا في العديد من دروس لاكان. لكننا لا نجدها في نسختها الزائدة إلا في درس واحد فقط، وهو السيمينار رقم 12، في سياق تحليل علاقة سقراط بألسيبايديس. لكن ماذا يقصد لاكان بهذه المقولة الملغزة؟  أي شيء أكبر شهادة على أنني أحب شخصًا ما، خليلتي على سبيل المثال؟ أن أغدق عليها الأموال وأغرقها بالهدايا الفاخرة من كل نوع؟ أن أنفق على خليلتي وأشترى لها الهدايا يعني أن أعطيها ما أملك. لكن أن تعطي ما تملك، يخبرنا لاكان، لا يعني أن تحب وإنما يعني أن تحتفل. إغداق الأموال أشبه بإقامة حفلة ودعوة المحبوب إليها، هو ضرب من القصف والاحتفال وليس حب. في المقابل، أن تحب يعني أن تعطي ما لا تملك، لكن ما هو هذا الشيء الذي لا أملكه ومع ذلك يمكنني أن أعطيه؟ إنه النقص، ما لا أملكه هو حرفيًا ما ينقصني، ما أفتقده. لكن ليس المقصود هنا شيء بعينه أفتقر إليه، كصفة معينة أو امتياز  اجتماعي معين، وإنما المقصود هو النقص نفسه، نقصي الوجودي، الفجوة الموجودة في ذاتي. أن أحب يعني أن أعترف بالنقص، أن أعترف بأني غير مستغنٍ بنفسي، بأني محدود، قاصر، محتاج (أي مخصي بالمعنى التحليلي للكلمة). وأن أعطي هذا النقص لشخص ما يعني أن أتوجه إليه به، أن أضعه بين يديه، لأجعله شاهدًا عليه وموصولًا به. وعندها سيشعر هذا الشخص، هذا المحبوب حينها، بالامتلاء، بالثراء الوجودي. ففي كل علاقة حب شخص واحد هو من يبدو ممتلئًا وثريًا ولديه شيء ما، هذا الشخص هو المحبوب وليس المحب. وعلامة ذلك، يخبرنا رولان بارت (في شذرات من خطاب محب)، هو أن وحده المحب من ينتظر! المحبوب يتأخر والمحب لا يسعه إلا الانتظار. لكن من أين جاء هذا الامتلاء والثراء؟ من المحب الذي أعطاه نقصه، أعطاه ما لا يملكه. ولقد أعطى بَسَانيو  لبورشا ما لا يملكه حرفيًا، لأن أنطونيو هو الذي استدان له من شايلوك. [المترجم]

[34]  قارن مع ماكس فيبر، الإيتيقا البروتستانتية وروح الرأسمالية.

[35]  أنا مدين بهذا التبصر الأخير لسامي خطيب.—وهو يفلح بدرجة كبيرة في تفسير عملية إنقاذ البنوك في أزمة سنة 2008. فليمان وجولدمان ساكس، قد استحقا الإنقاذ الحكومي لأنهما قد خاطرا ببساطة. إن إنقاذهما لم يكن ضربًا من الرحمة من طرف الدولة، وبالتالي ينبغي أن يعربا عن امتنانهما، وعن الشعور بالذنب والمسؤولية حيال ديونهما ومضارباتهما الطائلة، وإنما أُنقذا لأنهما كانا "في الرحمة" طول الوقت، بفضل موقع القوة الذي يشغلاه، والذي خوّل لهما القيام بمثل هذه المضاربات الطائشة. لقد عولا على الرحمة، على المعجزة، وحقًا وحدها معجزة كانت قادرة على جعل جرأتهما الرعناء تؤتي ثمارًا طيبة. وعندما فشلا، ولم تحدث المعجزة، تبين أنهما ليسا، في واقع الأمر، بحاجة لا إلى الرحمة ولا إلى المعجزات (فقد أنقذتهم الدولة). وهنا يكتسب استحقاق الرحمة بنية الابتزاز: إما إنقاذنا أو انهيار الاقتصاد برمته (زعمًا).  

[36]  ينبغي دراسة ثيمة الرحمة باعتبارها مصدر التراث الأوبرالي. فلقد ظهرت الأوبرا في نفس التوقيت الذي كتبت فيه تاجر البندقية (عرضت أوبيرا دافني، لجاكوبو بيري، لأول مرة في 1597). وتشغل الرحمة مساحة هائلة في أول سيناريو أوبرالي براديجمي، سيناريو  أوبرا أورفيوس. فتراث الأوبرا المبكر كان مفتونًا بثيمة الرحمة، التي ظلت حاضرة في هذا الصنف الفني برمته، وصولًا إلى أوبرا Clemenza di Tito  (1791) لموتسارت، وللمزيد انظر:

Nagel, Ivan. Autonomy and Mercy. Trans. Marion Faber. Boston: Harvard University Press, 1991; Žižek, Slavoj & Mladen Dolar. Opera’s Second Death. New York: Routledge, 2002.

[37]  نقرأ في سِفر سيراخ (35: 26): «ما أحلى الرحمة في وقت الشدة! فهي كسحابة تهطل في وقت القحط». والمفارقة الكبرى هنا، هي أن الرحمة تمثل روح العهد الجديد، وجه الحب والإحسان، في مقابل العهد القديم، المستمسك بالحرف، بالانتقام والقصاص: العين بالعين، ومع ذلك اعتمدت بورشا في خطبتها الشهيرة على نص من العهد القديم [سفر سيراخ، Ben Sira، ليس أحد الأسفار المعتمدة في الكتاب المقدس العبراني، لكنه معتمد في العهد القديم الكاثوليكي]. 

[38] الـ interpellation هو آلية عمل أجهزة الدولة الأيديولوجية في نظرية لوي ألتوسير الشهيرة عن الأيديولوجيا. ويمكن ترجمة هذا المفهوم بـ"الانتداب الأيديولوجي" أو "التعيين الأيديولوجي" أو "الاستدعاء الأيديولوجي" أو "التلقين الأيديولوجي". فالأيديولوجيا تنتدب الفرد وتستدعيه لشغل هوية اجتماعية بعينها، تعينه في دور اجتماعي بعينه. وهذا الانتداب والتعيين غير قسري، على خلاف آلية عمل أجهزة الدولة القمعية. فالفرد يتلقن هذه الهوية اجتماعيًا، يتشربها، ويتلبس بها، ومن ثمّ يعرّف نفسه بها. وبحصول ذلك تكون الأيديولوجيا قد حولته من فرد إلى ذات، بالمعنى المزدوج لكلمة subject: أي فرد مستقل وخاضع في الوقت عينه، مستقل تمامًا في ظاهر الأمر لكنه خاضع تماما في باطن الأمر وحقيقته. الأيديولوجيا تمنح الفرد (تهبه، تخلع عليه) هوية اجتماعية، تماما كما يمنح (يوهب، يخلع عليه) اسمه. [المترجم] 

[39] موقف ألتوسير أعقد من ذلك: تجد المعتقدات الأيديولوجية، الرحمة بوصفها النظير الذاتي الضروري للخضوع، نظيرها المباشر في فرض الطقوس والسلوكيات المادية. الأيديولوجيا هي طريقة إعماء المرء لنفسه عن الشروط المادية التي أنتجت الأيديولوجيا. لكن يظل السؤال: كيف أمكن للمادي المحض أن ينتج الأيديولوجيا وأوهامها؟

[40]  Lazzarato, the making of the indebt man, p. 31.

[41]  Agamben, Giorgio. Homo Sacer. Trans. Daniel Heller-Roazen. Stanford: Stanford University Press, 1998, 23.

[42]  نقرأ في إنجيل متّى (17: 25): «فرد جميع الناس قائلين: إن مغبة سفك دمه على رؤوسنا ورؤوس ذريتنا!» هذا هو الموضع الكتابي الذي رفض فيه اليهود وهب رحمتهم للمسيح—ومن ثمّ ينبغي ألا يرحموا أبدًا.

[43]  Marx, Capital, vol. 1,  p. 399.  

[44]  يقول شايلوك: «أجل، صدره، هكذا ينص العقد، أليس كذلك سيدي القاضي؟ "من جانب القلب"—هذا هو المكتوب بالحرف» (4: 1: 249-250). [المترجم]

[45]  المرجع نفسه، ص 400.

[46]  المرجع نفسه، ص 176. [«لقالت: قد يهتم الناس بقيمنا الاستعمالية، لكنها لا تخصنا كأشياء. فما يخصنا كأشياء هو قيمنا التبادلية».]

[47]  على غرار عبارة جاك لاكان، Moi, la verite, je parle، أنا، الحقيقة، أتكلم. [المترجم]

[48] المرجع نفسه، ص 617 وما بعدها.

[49] الجسد بوصفه مادة المتعة، ومن هنا صاغ لاكان عبارة "فائض المتعة" على غرار عبارة ماركس "فائض القيمة". عبارة لاكان هي المعادل الجسدي لعبارة ماركس: فائض المتعة هو المعادل الجسدي لفائض القيمة.

[50]  أنتِجت مسرحية تاجر البندقية مرارًا في ألمانيا النازية، كبروباجاندا كلاسيكية معادية للسامية، وأنتِجت في نفس الوقت، وفي أوقات لاحقة، في إسرائيل/فلسطين، حيث اعتبر شايلوك نموذجًا للبطل القومي (عرضت لأول مرة في تل أبيب في مايو 1936). ووحده شكسبير قادر على إنجاز مأثرة كهذه. انظر:

John Gross, Shylock. A legend and its legacy, Simon & Schuster 1994, p. 282-3 and 312-23.

[51] انظر الحاشية رقم 49. [المترجم]

[52]  لكن المرء محتاج دومًا إلى الرحمة، فلو عومل بالعدل وحده لهلك لا محالة، أو كما قال هَملِت: «لو عاملتَ كل واحدٍ بما يستحق فهل سينجو أي واحدٍ من الجَلْد؟» (2: 2: 524-525).

[53]  انظر الحاشية رقم 33. [المترجم]

[54]  بالمناسبة، إكراه شايلوك على ترك دينه هو إضافة شكسبير الوحيدة تقريبًا على القصة الأصلية.

[55]  ولنتذكر هنا الجناس اللفظي (pun) غير القابل للترجمة الذي يستعمل به لاكان كلمة âmour [التي تعني حب لكنها تنطق في الفرنسية تماما مثل كلمة âme التي تعني روح: الحب—الروح، أعطني حبك=اعطني روحك].

[56]  Kafka, Franz. The Trial. Trans. Mike Mitchell. Oxford: Oxford University Press (Oxford World’s Classics), 2009, p. 160.

[57] بالمعنى الفوكوي والأجامبيني للكلمة، أي أداة/آلية تحكم في الناس، هذا بتبسيط شديد بالطبع، لكن للمزيد انظر دراسة أجامبين التالية، التي طوّر فيها هذا المصطلح بعد أن حقق أصوله اللغوية واللاهوتية والفلسفية:

 Giorgio Agamben, “What is an Apparatus?,” in Idem, What is an Apparatus and other essays, trans. David Kishik and Stefan Pedatella (Stanford: Stanford university press, 2009), pp. 1-24. [المترجم]

[58] هذا هو منطق عمل الأنا الأعلى: كلما خضع المرء لطلباته كلما زاد شعوره بالذنب وليس العكس. هذا هو جانبه السادي والفاحش: كلما أطعته كلما عذّبك. وعلّة ذلك، كما يعلمنا لاكان، هي أن الشعور بالذنب لا ينتج، في حقيقة الأمر، عن التقصير في طاعة الأنا الأعلى وإنما عن التخلي عن الرغبة في سبيل طاعته. وبالتالي كلما طعته، أي تخليت عن رغبتك، كلما زاد شعورك بالذنب. [المترجم]

[59]  نقرأ في سفر المزامير (85: 10): «الرحمة والحقيقة تلاقيا، العدل والسلام تعانقا». اعتمادًا على هذه الآية، ظهر في التراث اليهودي-المسيحي موتيف "بنات الرب الأربع" أو "نعم الرب الأربع": الحقيقة والعدل والرحمة والسلام. في التراث اليهودي، هذه الفضائل هي قوائم عرش الرب الأربع. ونجد لاحقًا في الكتابات الأدبية المسيحية في العصر الوسيط نسخ عديدة من قصة بنات الرب الأربع. لكن القصة تدور عامة في محكمة سماوية، يُحاكم فيها البشر. وفي هذه المحاكمة يلعب كل من الحقيقة والعدل دور الإدعاء، بينما تلعب الرحمة دور الدفاع، وتفوز الرحمة، ثم يأتي السلام ليصالح بين الإدعاء والدفاع. في نسخة Processus Belial، قضية إبليس (بليعال هو أحد أسماء الشيطان أو إبليس في التراث اليهودي-المسيحي)، يمثل الشيطان الادعاء وتمثل مريم العذراء الدفاع، ويستدعي الشيطان الحقيقة والعدل كشهود ادعاء، بينما تستدعي مريم الرحمة والسلام كشهود دفاع، انظر:

David Lyle Jeffrey, A Dictionary of Biblical Tradition in English Literature (Michigan: Eerdmans Publishing, 2008), p. 290.

وللمزيد عن وظيفة الشيطان كمدعي عام سماوي، انظر: آدم سلفرستاين، "حول المعنى الأصلى للمصطلح القرآني ’الشيطان الرجيم‘"، ترجمة: طارق عثمان، مركز تفسير للدراسات القرآنية، يونيو، 2021. [المترجم]    

[60]  كريتشلي ومَكارثي، مرجع سابق، ص 16-17. [للمزيد عن نوعي الاقتصاد التي يرى المؤلفان أن شايلوك وأنطونيو يمثلانهما، راجع الحاشية النقدية رقم 22. والـ oikos هو البيت باليونانية. والـ Heimat هو البيت بالألمانية. وفكرة أن الصلاح هو صلاح الائتمان، أن تكون إنسانًا صالحًا يعني أن تكون عالي الائتمان، أي يمكن إقراضك بثقة، هي إحالة على وصف شايلوك لأنطونيو في حواره مع بَسَانيو: «أنطونيو رجل صالح/وهل سمعت عنه ما يقدح في ذلك؟/ماذا؟ لا، لا، لا، لا. ما قصدته من قولي إنه رجل صالح هو أنه يملك من المال ما يخوّل له أن يكفل الدَين» (1: 3: 12-17).]

[61]  يميز باطاي بين نوعين من الاقتصاد: الاقتصاد المحدود أو المقيّد (limited economy) والاقتصاد العام أو المطلق (general economy). الاقتصاد المحدود هو الذي يعتبر أن المشكلة الاقتصادية المركزية هي الندرة. وبالتالي يشدد هذا الاقتصاد طرائق جني الأرباح والعوائد. أما الاقتصاد العام، وعلى النقيض تمامًا من ذلك، فيعتبر أن المشكلة الاقتصادية المركزية هي الوفرة والفائض. وبالتالي يشدد هذا الاقتصاد على طرائق التخلص من الفائض، كالاستهلاك والهبة والتضحية والهدر والتبذير الأرعن. [المترجم]

[62] "ما وراء مبدأ شايلوك" عل غرار عبارة فرويد "ما وراء مبدأ اللذة". بورشا تجسد "Jouissance اقتصاد الدَين"، لو جاز التعبير، اقتصاد الدَين في وضعية Jouissance منفلتة العقال. [المترجم] 

[63]  entrepreneur of the self

مصطلح فوكوي، اعتمد عليه لازاراتو في كتابه، يصف به فوكو الذات النيوليبرالية، كإنسان اقتصادي، لا يفكر إلا بمنطق التكلفة والربح. رائد أعمال الذات هو الشخص الذي يتخذ من ذاته مشروعًا تجاريًا، يستثمر فيها، يحولها إلى رأسمال بشري. هو المسؤول عن ذاته كرأسمال، كرأسماله، وبالتالي يتحمل وحده وزر الإخفاق في إداراتها، ولا يجوز له أن يلوم أي أحد (الدولة، الرأسمالية، البنوك، ..إلخ) على خيبته. "العاطل" هو باراديم، نموذج، رائد أعمال الذات، كما يقول لازاراتو (ص 52). و«تنتج السياسات النيوليبرالية رأسماًلا بشريًا، و "رواد أعمال للذات"، مدينين بقدر أو بآخر، فقراء بقدر أو بآخر، لكنهم متقلقلين على الدوام» (ص 94). [المترجم]


* الترجمة خاصة بـ Boring Books

** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه