الاستجواب

مقال لشهاب الخشاب

خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

***

عن verso

رايح فين؟ السؤال ده محوري في ذكرياتي عن المدرسة الابتدائية والثانوية، لأنه بيفكرني برقابة حراس المدرسة والمدرسين الدائمة على التلاميذ. كان ساعات عندي فضول وحب استطلاع، وكنت بروح أماكن مش مفروض أروحها، أو مش مسموح أدخل جواها، أو مش منطقي إني أكون فيها من وجهة نظر المسؤول. «إنت رايح فين؟» الصوت عالي وواضح وحاد، ولازم أتدور فورًا عشان أرد على المسؤول اللي سأله، حتى لو ما كنتش عملت حاجة غلط ولا كنت رايح أخرب الدنيا. الإحساس الجسدي المباشر اللي كان بيخلِّيني أتدوَر وأرد على صوت المسؤول، سواء كان حارس أو مدرس، هو بالضبط إحساس الاستجواب (interpellation) بمعنى الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير (Louis Althusser).

في مقال مؤسس عنوانه «الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية»، ألتوسير عمَّق تحليل ماركس للدولة والأيديولوجيا. في التحليل الماركسي التقليدي، الدولة عبارة عن آلة قمع في إيد الطبقات الحاكمة، بتفرض سيطرتها على الشعب والطبقات المستضعفة. يعني الدولة آلة مركزية لها أعضاء مفصلية زي الديوان العالي والجهادية وضابط مصر في عصر محمد علي باشا. في تحليل ماركس، الصراع السياسي كان دايمًا بيتم لصالح الطبقات الحاكمة عبر التاريخ. وحتى بعد ما الحكم يتغير في فترة الثورات السياسية، زي الثورة الفرنسية مثلًا، ما كانش بيحصل تغييرات جذرية في العلاقات المادية بين البشر، والدولة كانت بتفضل برضه لعبة في إيد الطبقات الحاكمة.

قراءة ألتوسير للتحليل الماركسي التقليدي بتفرَّق بين جهاز الدولة، اللي هو عبارة عن مؤسسة قمعية مركزية، وحكم الدولة، اللي هو عبارة عن نقطة صراع بين الدولة والشعب اللي بيحاول يتحرر من القمع. ألتوسير كان شايف إن الرؤية الماركسية التقليدية مش كاملة، لأن مفيش حكم في العالم يقدر يستمر بالقمع فقط. انطلاقًا من افتراض الفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي إن الحكم بيستمر عن طريق هيمنة أفكار الحكام، ألتوسير اقترح إن الهيمنة دي بتتأسس جوة مؤسسات نقدر نسميها «أجهزة الدولة الأيديولوجية» (appareils idéologiques d’État). المدارس والسجون والجوامع والمحاكم والبيوت والنقابات الرسمية والإعلام والمؤسسات الثقافية كلها نماذج لأجهزة الدولة الأيديولوجية، لأن عكس جهاز الدولة المركزي اللي بيشتغل بالعنف، أجهزة الدولة الأيديولوجية بتشتغل بالأيديولوجيا، يعنى بإنها تحوِّل الشعب لمجموعة أشخاص خاضعة للحكم بالاستجواب.

في تعريف ألتوسير، الاستجواب هو الأساس المادي للأيديولوجيا في كل زمان وفي كل مكان، وبيتأسس عبر طقوس وممارسات بتكوِّن شخصيات خاضعة. بمعنى أدق، الاستجواب بيخلِّي الفرد خاضع للحكم، لأنه بيطلب منه إنه يعترف بوجود الحاكم، وفي نفس الوقت إنه ما يفكَّرش في العلاقات والصراعات المادية اللي خلت الحاكم موجود من أساسه. من ناحية، الاستجواب هو الاعتراف الشخصي الجسدي بوجود الحكم، ومن ناحية ثانية، هو الاغتراب الفكري الخيالي عن العالم المادي اللي رفع الحاكم للحكم. إذن في الطقس البسيط اللي كان بيخلِّي الحارس أو المدرس ينده عليا ويسألني «أنت رايح فين؟»، المدرسة كجهاز دولة أيديولوجي كانت بتشتغل بإنها تستجوبني، وتطلب مني إني أرد على اللي بينادي فورًا، وبالتالي إني أعترف بوجودي كشخص خاضع لسلطة المسؤول، بدون ما ألحق أفكّر في العلاقات الاجتماعية المادية بيننا، ولا هو ماله أصلًا يسألني أنا رايح فين.

في الواقع، مفيش فرد ما هواش شخص خاضع للحكم، لأننا كلنا بنتولد في عالم متشبّع بالأيديولوجيا الحاكمة، وأجهزة الدولة الأيديولوجية بتستجوبنا من أول المستشفى اللي بنتولد فيها لغاية السجل المدني اللي بنتسجل فيه والعائلة اللي بتكوّننا وبتربينا وتصريح الدفن اللي لازم يتسجل عشان نعرف نتدفن. تعريف ألتوسير للأيديولوجيا هنا واسع جدًا، ومش واضح إزاي بالضبط الاستجواب جوة المدارس والسجون والمحاكم والبيوت والإعلام والمؤسسات الثقافية مرتبط بجهاز الدولة المركزي. ولكن ألتوسير طرح إشكالية مهمة، وهي إزاي العلاقات الاجتماعية المادية بين البشر تقدر تنتج نفسها من أول وجديد في الممارسة اليومية، رغم إن الناس مش شرط تكون موافقة على القمع والاستغلال.

جوابه باختصار إن البشر –سواء كان المسجون في السجن أو المواطن في الشارع أو الجندي في الحرب أو المتهم في المحكمة– بيستجيبوا للسلطة كبني آدمين خاضعين غصب عنهم، والاستجواب في جميع أجهزة الدولة الأيديولوجية بيخلِّينا تحت رحمة الحكام.