كم أصبح العالم ذابلًا!
الأمل قد هرب،
والرياح تنتحب
تعزف أنشودتها
فوق الحبال المشدودة المتعبة.
صلاة للحياة.. قصائد لنيتشه وسالومي
ترجمتها عن الألمانية: شيري منتصر
فريدريش نيتشه (1844- 1900): فيلسوف وشاعر وملحن ألماني.
لو أندرياس سالومي (1861- 1937): ولدت في سانت بطرسبرج، وهي مدينة روسية، لعائلة ذات أصول روسية وألمانية، كانت كاتبة كثيرة الترحال ومحللة نفسية وروائية. أحبها نيتشه، ولحن لها قصيدة «صلاة للحياة» المترجمة هنا، ولكنها رفضت أكثر من مرة عرضه للزواج منها.
قصائد نيتشه
الخريف
ذلك هو الخريف: الذي يطحن القلب؛
فابتعد! ابتعد!
من خلف الجبل
تتسلل الشمس
تصعد، وتصعد
ترتاح بعد كل خطوة
كم أصبح العالم ذابلًا!
الأمل قد هرب،
والرياح تنتحب
تعزف أنشودتها
فوق الحبال المشدودة المتعبة.
ذلك هو الخريف: الذي يطحن القلب؛
فابتعد! ابتعد!
آه، يا ثمار الشجر
أترتعشين؟ أتسقطين؟
أي سر علَّمك الليل،
هل يضم خدك المرتعش البارد؟
هل يضم خدك الأرجواني؟
أنتِ صامتة، ألن تجاوبيني؟
من تحدث؟
ذلك هو الخريف: الذي يطحن القلب؛
فابتعد! ابتعد!
«لستُ جميلة الآن»
تقول زهرة الربيع
«أحب البشر
وأواسي البشر
ولكن الآن سيكون عليهم رؤية ورود أخرى.
ينحنون باتجاهي، آه!
ويقطفونني؛
في عيونهم تلتمع
ذكرى عن،
ذكرى عن جمال أكثر مني:
ذكرى عن السعادة، عن هناء البشرية
أرى في عيونهم ذلك، أرى ذلك، ثم
أموت».
ذلك هو الخريف: الذي يطحن القلب؛
فابتعد! ابتعد!
فوق جبل الجليد
في الظهيرة
حين يتسلق الصيف -لأول مرة- الجبال
ذلك الصبي
ذو العينين الحادة والناعسة
تحدث،
ولكننا رأينا كلامه فقط.
أنفاسه المتقطعة كأنفاس مريض
في ليلة هذيان،
الجبال المثلجة، الصنوبر والنبع
حدثوه أيضًا؛
ولكننا رأينا كلامهم فقط:
حيث سريعًا قفز
السيل الجارف من الصخر
كتحية له،
وهدأ، كعمود أبيض مرتعش
متلهف له.
أما الصنوبر
نظرت بإخلاص وغموض
أكثر من المعتاد
وبين الثلوج الصخرية الرمادية الميتة
انفجر ضوء فجأة.
مثل ذلك الضوء الذي رأيته:
قد أشار لي.
ومن جديد
عين الرجل الذابلة
تصبح مضيئة،
عندما يحيطه ابنه بذراعيه
الممتلئة بالألم والحزن
ويمسكه ويقبِّله:
فمن جديد يعود متدفقًا
نور اللهب،
وتتحدث تلك العين الذابلة بتوهج:
«يا صبي
آه، أنت تعلم! أنا أحبك».
ويردد كل شيءٍ بتوهج
-الجبال، النهير والصنوبر-
بنظرة تحمل نفس الكلمة
«نحن نحبك
آه، يا صبي، أنت تعرف!
نحن نحبك،
نحبك».
وهو الصبي
ذو العينين الحادة والناعسة
قبَّلهم من أعماقه
قبلةٌ ممتلئة بالألم
فهو لا يرغب في الذهاب؛
ثم نفخ كلمته،
كلمته السيئة
مثل غيوم تخرج من فمه:
«سلامي هو وداع،
مجيئي هو ابتعاد،
صغيرًا
أنا أموت».
كل شيء من حوله
أصغى واستمع
بالكاد يتنفسون:
فلا طائر يغني.
وفجأة ارتجف الجبل
كوميض ضوء مرتعش،
فكل شيءٍ من حوله يفكر
صامتين تمامًا
في الظهيرة كان..
في الظهيرة
حين يتسلق الصيف -لأول مرة- الجبال
ذلك هو الصبي
ذو العينين الحادة والناعسة.
الكلمة
الكلمات الحية أعرفها جيدًا:
حيث تتراقص من حولي بسعادة،
حيث تُحييني برقة مهذبة،
حية، ممتلئة بالدماء
يمكنها أن تنفخ بقوة
زاحفة حتى للأذن الصماء نفسها
تلف نفسها وترفرف الآن
وكل ما تفعله، يطرب الكلمة.
ولكن الكلمة مخلوقٌ رقيق،
سرعان ما تمرض، لكنها سرعان ما تتعافى.
إن كنتَ تريد حماية حياتها القصيرة،
عليك أن تحملها برقة ولطف
فلا تلمسها بخشونة ولا تثقل عليها؛
فهي كثيرًا ما تموت من الفهم الخاطئ،
وتستلقي هكذا
قبيحةٌ، وبلا روح
فقيرةٌ وباردة:
جسدها الميت الصغير
مُعذب من الموت والاحتضار
متحول بقسوة.
الكلمة الشاحبة، الشيءُ القبيح
الطنين المحكوم بالموت
فاللعنة على كل قبيح
الذي بسببه
تموت الكلمة.
هو ذا الإنسان
نعم، أنا أعرف
من أين أتيت!
لا أشبع مثلما اللهب
متوهجٌ، محترقٌ أنا.
الكل نور
حينما أمسك أي شيء،
الكل رماد
حينما أترك أي شيء:
فالنار –وبلا شكٍ، أنا.
العجوز الصغيرة
وقت توهج الشمس، وقت الراحة؛
المستشفى صامتة،
والعجوز الصغيرة في النافذة:
خافتة وشاحبة
عيونها ناعسة، شعرها أبيض كالثلج
بملابس[1] نظيفة وبسيطة
سعيدة، مبتسمة في صمت
في ضوء الشمس الدافئ
في النافذة تفتحت الورود
وهناك الكثير من النحل:
ألم يزعج، ذلك الصوت،
الطنين الذي لا يهدأ أبدًا،
العجوز الهادئة؟
تراقب بصمت مقدس
شهوة الشمس في كل شيء:
في السماء سيكون
أكثر جمالًا،
أيتها الأم الحبيبة.
وحيدًا
أكره الطاعة والحكم.
أطيع؟ لا، ولا حتى أقود!
من لم يكن مخيفًا، لن يُخيف الآخرين:
فقط وحده من يُخيف، يقدر على تسيد الآخرين.
أكره حتى أن أقود نفسي!
وأحب أن أتيه
تمامًا كحيوانات البحر والغابة
لوقتٍ طويل،
وأسقط بعمقٍ في الخطأ الحلو،
وأغري نفسي للعودة من البعيد
ولأغوي نفسي إلى نفسي.
قصائد لو سالومي
الموت المرغوب
فيما مضى
كنتُ موضوعة في النعش
-شرارة محترقة،
ضع يديك، التي أحبها،
مرة أخرى فوق شعري.
وقبل أن تُعيد إلى الأرض
ما يجب أن تملكه،
قبِّلني
فوق فمي الذي أَحبَّك.
فكر مرة أخرى:
في نعش غريب،
أنا –فقط، أتظاهر بالاختباء؛
لأنني فيكَ وحدك انطويتُ
والآن بالكامل
أنا ملكك.
صلاة للحياة
أيتها الحياة الممتلئة بالغموض أحبُّك بصدق،
كما يحب الصاحب صاحبه
أحبُّك في تهللي بين أحضانك، وبكائي
في منحي السعادة
أو الألم.
أحبك
حتى في آذاكِ؛
وعندما تكونين مجبرة على إهلاكي
سأقتلع نفسي من ذراعيكِ
تمامًا كما يقتلع الصاحب نفسه من أحضان صاحبه.
بكل قوة أضمك؛
اشعليني
اتركي نارك تحرقني
وفي جمر الحرب، اتركيني أبحثُ عميقًا، عميقًا
في ألغازك
آلاف السنين لأوجد! لأفكر!
ضميني بكلتا ذراعيكِ، طوَّقيني
وإن لم يعد لديكِ المزيد من السعادة لتمنحيها إلي
وإذن
فلا زال لديكِ الآلام.
سعادة مارس
على الغصون العارية، الملفوفة بالرياح
آخر ثلج مارس، ناعمٌ وندي.
وأنا أخطو بداخل
صمت الليل المظلم،
كما لو أنني في عالم الخيال.
من أعماق الغابة تصدح
زقزقة عصفور القرقف[2] فقط،
كما لو أنها بشارة الطبيعة:
نداءٌ، تحية، إعلان الربيع.
وكأن عليها إرسال نبي،
لكي ننسى الثلج والصقيع،
حتى تبصر العيون الحالمة المفتونة
الربيع، الذي لم يكن.
والآن! لن أسمح له بسَحري مجددًا-
سعادة مارس تلك يجب أن تحدث لي:
أن أقف ساكنة أمام المناظر الشتوية
لأسمع صرخة الربيع.
أيتها السماء المشرقة فوقي
أنت، أيتها السماء المشرقة فوقي
بإخلاص أريد أن أثق بكَ:
لا تدع اللذه والمعاناة هنا
تحجب عينك عني.
أنت، المنبسط فوق كل شيء
عبر الأراضي، عبر الرياح،
أرني الطريق المنشود
حيث يمكنني أن أجدك مرة أخرى.
بالكاد أشتهي نهاية صغيرة للذة
ولا أرغب في الهرب من المعاناة؛
أريد شيئًا واحدًا فقط: مساحة فقط- مساحة فقط،
لكي أسجد لك.
روسيا العتيقة
تبدين هادئة في رعاية أمك،
معاناتك غير معقولة،
كالطفل تبدو كل أفعالك
بينما الآخرون ينضجون.
كيف تقف أمامك البيوت ملونة،
أحيانًا تلعبين حتى في الجوع:
أحمر، أخضر، أزرق، أبيض على أرضية ذهبية
تلك هي ألوانك.
ومع ذلك: من ينظر إليكِ كثيرًا
يبتلع برهبةٍ سخرياته:
طفلٌ بنى روسيا
عند قدمي الرب.
فولجا[3]
أنتَ أيضًا بعيد: ولكني أراك،
أنت أيضًا بعيد: ولكن ما زلت مانحًا لي-
مثل حضور لا يتلاشى
مثل الطبيعة، تلف حياتي.
يا ليتني لم أرتح أبدًا على ضفافك:
أشعر وكأني أعرف اتساعك
كما لو أن طوفانًا من الأحلام هبط عليَّ
في عزلتك الهائلة.
[1] الملابس يُقصد بها الصدار: قطعة ملابس يغطى به الصدر، ويرتدي خاصة فوق القميص، كان شائعًا بين القرنين السادس عشر والثامن عشر.
[2] القرقف: عصفور صغير الحجم، يعيش على الحشرات والبذور.
[3] فولجا: أطول أنهار أوروبا، يقع في الجزء الغربي الأوروبي من روسيا.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها
One Reply to “صلاة للحياة.. قصائد لنيتشه وسالومي”
براڤو شيري جميل جدا
Anno