نحن هنا أمام مخاطرة قام بها الكاتب للنجاة، وقد قال النفري قديمًا في المواقف والمخاطبات: «في المخاطرة جزء من النجاة». وهذا ما فعله الكاتب في نظري.

عن الفقد والرهاب: مخاطر النجاة

مراجعة: محمد كرم إسماعيل

مراجعة لكتاب: «33: عن الفقد والرهاب» لمينا ناجي، الصادر عن دار المرايا


لوحة الصرخة لإدفارد مونط

تتميز كتابة مينا ناجي في كتابه 33: عن الفقد والرهاب، الصادر عن دار المرايا عام 2021،  بالشجاعة؛ إذ قرر الكتابة عن خبرتين شعوريتين تحوي الكتابة عنهما مخاطرتين؛ كل خبرة تحوي مخاطرة مختلفة؛ مخاطرة الخبرة الأولى، وهي الفقد، في الكتابة عنها؛ إذ ليست كل مادة يستخدمها الكاتب قابلة للعلو بها من ثقلها الواقعي وتحويلها إلى عمل فني بشكل كامل، فقد تكون كتابة تسجيلية تقريرية عن خبرة الموت، دون محاولات للعلو الأدبي بها، أفضل من منافسة فنية لثقلها الواقعي، فاستجابتنا للموت في الواقع مُحمَّلة بالرهبة والأسئلة الحائرة، في حين أنه من الممكن أن تلتقط الكتابة الأدبية خبرة عادية، استجابتنا لها عادية أيضًا، وتحولها إلى شيء فوق العادي. إلا أنَّ الحكم الجمالي له استثناءات؛ ففي  بداية رواية «الغريب» مثلًا أزال بطل ألبير كامو أحكام الناس على الموت، أزال الفقد، واستجاب لموت أمه بلا مبالاة، ظهرت في نسيانه لتاريخ الوفاة القريب جدًا، وعدم الحزن، وعدم اعتبار موت أمه حدثًا يتطلب إجازة من العمل، لكن ليس بشكل كامل؛ فقد يجد قارئ آخر أنَّ تأثير ثقل الموت على البطل موجود، بل هو تأثير أكبر مما لو  صرَّح بحزنه. فمن الصعب إذن العلو الفني بالموت. والفقد، باعتباره استجابة للموت، خبرة مُثقلة بحكم شعوري وعقلي على الموت، لذلك العلو بها إلى الأدب أكثر صعوبة من العلو بالموت فقط دون الاستجابة إليه والحكم عليه.

أما مخاطرة الخبرة الثانية، وهي الرهاب، ليست في الكتابة عنها؛ إذ كما تفيد الكتابة عن المرض الكُتاب باعتبارها طريقًا علاجيًا؛ قد يفيد الكُتاب، بالكتابة عن المرض، الكتابة، وقد هنا للشك؛ فبالنسبة للكتابة عن المرض هناك فرق مثلًا بين قوة نيتشه ونواح سيلفيا بلاث، المخاطرة المقصودة هنا تخص الكاتب وحده؛ فطالما أخفى رهابه بين سطور كتاباته السابقة، وتردد في الكتابة عنه، حتى قرر أخيرًا أن يبوح به في هذا الكتاب.

إذا كان تعريف أرسطو للشجاعة الأخلاقية أنها فضيلة وسطى بين  إفراط التهور وتفريط الجبن، فشجاعة الكاتب الفنية هنا، خاصة في الكتابة عن الفقد، هي وسط بين نقيضين في الكتابة الأدبية، بين النواح والكتمان. الكاتب المتكتم متحفظ في مشاعره، يخفي مصائبه، عن النشر على الأقل، وقد تصبح مصائبه جذورًا خفية لكتاباته عن أشياء أخرى، وقد يدسها بين سطور فقرة أو نص كأنها حدث غير مهم، وقد تدفعه إلى الهرب من التصريح بالتجريد والتعالي، وقد يكتب عنها بلغة باردة محايدة.

أما الكاتب النوَّاح فهو نقيض السابق، يكتب بحرية عن انفعالاته، لدرجة قد تجعل القارئ يشعر أن الكاتب يستدر عطفه ليضفي قيمة على كتابته من الخارج، فيستشعر القارئ الحَرَج من التصريح برأي سلبي في الكتاب.

استطاع الكاتب مينا ناجي، بدرجة ما، في الفصل الأول من الكتاب، الخاص بالفقد، الذي ارتقى به من المصيبة إلى مقام الكارثة، وكتبه بأسلوب الشذرات، أن يكتب عن فقدان أمه بحُرية انفعالية دون أن يصل لدرجة استدرار عطف القارئ أو إضفاء قيمة خارجية على كتابته؛ فرغم أن القارئ سيشعر ببكاء الكاتب في بعض الشذرات، ورغم استخدام الكاتب للغة العامية بقدر ليس بقليل، ورغم استغراقه في أدق التفاصيل اليومية، إلا أن القارئ سيشعر أيضًا أن الكاتب يحجّم الانفعال، ويعوض اللغة العامية، ويخفف حدة البكاء، بالعلو الشعري، وبتأملات عميقة في الموت والحزن، الذي قسَّمه لحزن هيستيري وآخر هادئ، مما يدعم ادعاءنا بتوازنه. ثم يستمر في تحجيم الانفعال بتأملات في اللغة والسينما، وبتأملات شُجاعة في الدين قد تزعج المتزمتين بدرجة أكبر من الإلحاد؛ فقد صاغ من الفقد رؤية مغايرة، إنسانية، للمسيح، بملاحظة مفارقة بكائه على صديقه لعازر الميت رغم قدرته على إحيائه، وباعترافات قاسية ربما نابعة من انتماء الكاتب لدين يُقدّس طقس الاعتراف، وباستخدام آلية الكاتب المتكتم في جعل المصيبة جذرًا لبعض الشذرات دون ظهورها.

 مما يربك مشاعر القارئ أثناء قراءة فصل الفقد أن مشاعره لن تسير سيرًا منظمًا، إذ لن يحكمها تسلسل تصاعدي أو تنازلي مقصود؛ فالقارئ سيشعر بالحزن من شذرة، ويستغرق في التفكير العميق تحت تأثير شذرة أخرى، ثم تضحكه شذرة تالية.

تزداد برودة الكتابة في الفصل الثاني من الكتاب، الخاص برهاب الأماكن البعيدة (الأجورافوبيا) الذي لم يأخذ نصيبه من الاهتمام في مصر، سواء في الكتابة الأدبية أو الطبية، أقول تزداد برودة الكتابة هنا لأن الكاتب يكتب من منطقة أعلى من التي كتب منها الفصل الأول، ربما لأن زمن الرهاب أطول من زمن الفقد، ولأن الرهاب خاص بالكاتب وحده، ولأن المرض يحتاج مجهودًا بحثيًا علميًا لفهمه وتجاوزه إنْ أمكن، لكن رغم أن منطقة المراقبة التي كتب فيها الكاتب فصل الرهاب أعلى من منطقة الفقد إلا أنَّ نسبة الكتابة الأدبية في فصل الرهاب أقل من فصل الفقد، الأمر الذي حاول الكاتب تعويضه عن طريق وضع عناوين رئيسية لفقرات فصل الرهاب على غرار قالب الكانتاتا الموسيقي الذي حدَّثه يوهان سيباستيان باخ، واستهلال الفصل وإنهائه بالحديث عن موسيقاه، لتخفيف ثقل واقعية العناوين الفرعية ووصف المرض في الفقرات، بينما في الجزء الثاني من فصل الفقد عنون الكاتب الفقرات بكتابة التاريخ، لكن الجرعة الأدبية في الفقرات خففتْ ثقل التأريخ، أما عناوين الكانتاتا لم تضف جرعة أدبية للفقرات؛ فرغم أنها تزخر بوصف المرض وتأمله وبتأملات فكرية وذاتية وبنقد سياسي إلا أنها مكتوبة بيد أديب، ولا تحتاج عنونة فنية لتخفيف ثقلها.

يذكر الكاتب مينا ناجي في هذا الكتاب أنه طالما تردد في الكتابة عن رهابه،  مما دفعه لاستخدام آلية الكاتب المتكتم وجعله جذرًا خفيًا لروايته السابقة على هذا الكتاب، لكنه قرر بشجاعة وجودية الكتابة عنه بتوازن لم يحرم النص من التأملات العالية والعميقة في آن ولم يخل بدوره التوعوي في الوقت نفسه، وإنْ خفَّت الجرعة الأدبية بعض الشيء عن فصل الفقد. وصلتْ البرودة إلى درجة قاسية، إلى درجة تشككه في المرض باعتباره حيلة تحصر القلق في الأماكن البعيدة فقط وتحميه من حضوره في الأماكن كلها.

لانتمائه لليسار؛ يحلل الكاتب المرض تحت تأثره بالمادية الجدلية؛ فيأتي ببنية تحتية: السياق التاريخي والسياسي، ثم بنية فوقية أثرت في الواقع كما تأثرت به، وأثرت في نفسية الكاتب أيضًا، الدين، كسببين للمرض. نلمس شجاعة الكاتب بشكل كبير في نقده لليسار الذي ينتمي إليه، على مستوى ما آل إليه الفكر اليساري وعلى مستوى الأفراد، كتابة لا يكتبها إلا يساري ولا يقدر عليها «يساري»؛ فالكاتب مينا ناجي، كما ذكر في الكتاب، ينتمي إلى اليسار التقدمي، وقد أوضح في الكتاب أنَّ انتماءه لليسار ليس انتماءً سياسيًا أو إيديولوجيًا فحسب، بل هو انتماء وجودي وسيكولوجي أيضًا، وهو الأهم، فالشيوعية، التي ترجمتها الحرفية: الجماعية، اتجاه تعاوني لا يعترف بنجاة فردية منعزلة للأفراد، على عكس الليبرالية الجديدة التي توصي الأفراد بالقفز من السفينة، التي تغرقها، داخل الذات.

تتجلى شجاعة أخرى بدأ بها الكاتب الكتاب وأنهاه بها؛ شجاعة تحطيم أصنام جديدة للكتابة، في المقدمة يحطم الكاتب صنم الجنون، وبتجاوز هواجسه عنه، من خلال الوعي وفعل الكتابة، الذي هو فعل غيري بامتياز، خلاص ونجاة، يتطلب مسؤولية من نوع خاص بعيدة عن تقديس الجنون، وفي المقال الأخير عن كافكا الذي أنهى به الكتاب يحطم صنم السوداوية، من خلال فتق رتق السوداوية والكافكاوية، مفرقًا بينهما؛ فاستحضار المعاناة السوداوية عن عمد كمحرك للكتابة لا علاقة له بالكافكاوية، رغم كآبة كافكا وقسوته على نفسه؛ فالكافكاوية نراها مثلًا في أليكس بطل فيلم «القربان» للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي الذي كان يسقي شجرة ميتة وهو على علم بذلك ودون أن يأمل في نموها، أو في بطل فيلم «شجرة الكمثرى البرية»، للمخرج التركي نوري جيلان، الذي كان يحفر بئرًا ويعلم أنه لا أمل في وجود ماء تحته، أو في الطفلين في فيلم «منظر طبيعي» في الضباب، للمخرج اليوناني ثيودوروس أنجيلوبولس، وبحثهما اليائس غير المتوقف عن والدهما، الذي لا يعلم بوجودهما، وهما لا يعرفان إن كان حيًا أم ميتًا، ولا يعرفان له عنوانًا، ولا يعرفان شكله حتى.

نحن هنا أمام مخاطرة قام بها الكاتب للنجاة، وقد قال النفري قديمًا في المواقف والمخاطبات: «في المخاطرة جزء من النجاة». وهذا ما فعله الكاتب في نظري. نحن أمام كتابة علاجية، لكنها لا تقع تحت بند التطهير الأرسطي، الذي يجعل من الفن مجرد حيلة علاجية، لما تحويه من جماليات من نوع خاص، وبذلك يكون «عن الفقد والرهاب» مشروعًا علاجيًا وجوديًا يحوي كتابة أدبية جادة أكثر من كونه مشروعًا جماليًا يحوي كتابة علاجية وجودية.