«إلى المنارة»: تمرين في تأمل الصمت والنفس وتلاشي الزمن
مقال لابتهال سلمان
مراجعة لرواية «إلى المنارة» لفرجينيا وولف من ترجمة إيمان أسعد عن دار الرافدين
المقال خاص بـ Boring Books
تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منها.
قرأتُ سابقًا ترجمات عربية لقصص قصيرة لفرجينيا وولف، وكانت قراءة شائكة وصعبة وتركتني بشعور من عدم الثقة بقدرتي على التعاطي مع نصوصها، على الأقل القصصية. بعد ذلك قرأتُ أيضًا كتابها الأقرب إلى المقال، غرفة تخص المرأة وحدها، بلغته الإنجليزية وكان بريقًا من منارة بعيدة جددت رغبتي بالعودة إلى اكتشاف وولف.
حين صدرت رواية «إلى المنارة» مترجمة عبر دار الرافدين، أتذكر أني ترددت مرات في شرائها، أحملها عن الرف في المكتبة، وأعيدها مرات. لكن مقالًا للكاتب الليبي هشام مطر، الكاتب الذي أحب قراءته كثيرًا، منحني دافعًا إضافيًا لأقطع الجسر وأقرأ الرواية. وحسنًا فعلت!
من الصعب كتابة مراجعة لهذه الرواية، أو محاولة تحديد موضوعها العام، لا يبدو أن لها خطًا سرديًا واضحًا أو موضوعًا بذاته. إنها ببساطة التقاطة للشخصيات عبر لحظات متقطعة من الزمن، أفراد عائلة رامزي وأصدقائهم، للأفكار والمشاعر التي حملوها في تلك اللحظات، الكثير من التأمل والغوص في النفس الإنسانية. وقد تبدو أيضًا تعبيرًا عن موضوع عنوانها بالضبط، إضاءة وجيزة ومحددة على مساحة صغيرة كما يفعل الفنار حين يقع ضوؤه في الظلام على بقعة محددة لينيرها، تنير هذه الرواية نفوس شخصياتها في جزء محدد من الزمان.
«وإذا بشعاع ضوء عشوائي يسوقهم بخطاه الخافتة على الدرجات والسجاد، [...] صعدت المسارب الصغيرة السلالم ودست أنفها حول أبواب حجر النوم [...] وأيًا يكن ما سيفنى ويتلاشى، فما يكمن هنا ثابتٌ ووطيد».
تنقسم الرواية إلى أجزاء ثلاثة. في جزئها الأول، تنقل لنا المشهد من بيت العائلة في جزيرة سكاي، حيث اجتمعت العائلة مع بعض ضيوفها، وتمر الفصول كلها تقريبًا في مسار يوم واحد، وإن كانت لا تلتزم الترتيب الزمني أو التتابع، متنقلة ذهابًا وإيابًا أو أحيانًا مفصِّلة في موقف واحد، لحظة واحدة، وما أثارته من تداعيات الأفكار في أذهان الشخصيات. ثم عبر الجزء الثاني، تتراجع الشخصيات ليتسيّد البيت صدارة المشهد، البيت الذي تعرض للهجران طوال سنوات. ليس من حضورٍ سوى للزمن في هذا الفصل، يمر سريعًا، ممررًا بخفة شذرات متفرقة من مصائر الشخصيات التي عرفناها في الجزء الأول. وأخيرا في الجزء الثالث يعود بعض أفراد العائلة وضيوفهم للبيت، لاستكمال الأعمال غير المنجزة التي تركوها منذ الجزء الأول، وهي فرصة للتأمل في معنى الزمن الذي مر، واللحظات التي لم تمر، بل بقيت راسخة في الذاكرة وفي الشعور.
«ولأكثر ما يثير في هذا الكون، شعرتْ أيضا، [...] هو إدراكها كيف أن الحياة، المصنوعة من أحداث عرضية صغيرة يعيشها المرء حدثًا حدثًا، قد تغدو في لحظة ملتفة متكاملة مثل موجة تحمل المرء عاليًا ومن ثم تلقي به، هناك، على الشاطئ».
القراءة الأولى ربما كانت حذرة، ولهذا تمسكتُ بالبطء والتمهل، مقاربة الجمل والعبارات، التي بدت سلسة إلى حد ما (بترجمة بديعة من إيمان أسعد!)، إذ تبدأ الرواية بجملة حوارية ومنها تنطلق تداعيات الذهن، عن احتمالات الذهاب للمنارة، إذا كان الجو صافيًا. البطء والتمهل، والتأمل في معاني الكلمات، والانتباه للانعطافات في تداعي الأفكار، أو في الانتقال من شخص لآخر، هذه ركيزة مهمة للتمكن من متابعة القراءة. يمكن لكلمة واحدة أن تقلب مسار الفهم. و بقدر ما واصلتُ القراءة، كانت الرواية تدربني بطريقتها، تعيد برمجة ذهني، لأتوافق مع نظامها واسلوبها، لأصير في داخل هذا التيار المتدفق من الأفكار، أتدفق معه وتتدفق أفكاري.
والحقيقة أني أعدت قراءة فصولها الأولى من جديد بعد أن كنت قد وصلت للفصل التاسع، وأعدت قراءة بعض فصولها الأخرى أو مقاطع منها. أحيانًا فعلت ذلك لأفهم ما يحدث بشكل أفضل، وأحيانا بدافع الرغبة باستعادة جمال ما قرأت.
الشخصيات مثيرة للاهتمام، وبعد أن تعيش في أذهانها لعشرات الصفحات، فمن الصعب ألا تتعاطف معها وتحمل شيئًا من مشاعرها وتشاركها التفكير. في مرحلة ما من الرواية كنت قد وقعت في غرام السيد والسيدة رامزي (الجميع شغوف بهذه السيدة الجميلة واللطيفة دون حيلة منهم في الرواية).
السيدة رامزي، ربة البيت التي تحمل مسؤولية العائلة الكبيرة، وتحاول تفادي تحميل زوجها عبء الشؤون المنزلية ليتفرغ لفكره وفلسفته، تحبه كثيرًا لكن ليس لدرجة أن تقولها له، الكلمة التي ينتظرها، رغم استعدادها الدائم لدعمه عاطفيًا، بقدر ما هو رجل متطلب للمديح والملاطفة. هي تعيش لحظة شكها أيضًا، حول معنى ما تفعله بحياتها.
والسيد رامزي، رجل الفكر والفلسفة، الشغوف بالشعر، الذي يصارع سؤال الإنجاز والخلود، أن يكون له أثر يبقى بعد موته، ويتردد في قدرته على الوصول إلى أبعد مما وصل، كلما تذكر أنه زوج وأب لثمانية أطفال. والآنسة ليلي بريسكو، التي تبدأ برسم لوحة، مصارعة الأفكار التي سمعتها حول عدم قدرة النساء على الرسم، مصارعة أفكار السيدة رامزي عن حتمية تحقيق وجود المرأة عبر الزواج لا سواه، ورغبتها بإنجاز حلم الاستقلال، وإثبات وجودها عبر الفن. هذه قد تكون الشخصيات الأبرز في الرواية ضمن جوقة أكبر من الشخصيات التي تحفل بها.
«كيف للمرء إذن، سألتْ نفسها، أن يعرف شيئًا أو آخر عن الآخرين، مع كل انغلاقهم على أنفسهم؟»
الرواية تتكئ على تداعي الأفكار في ذهن الشخصيات، ولا تحوي سوى القليل من العبارات الحوارية الخارجية، (بعضها نفثات أفلتت من زمام الذهن وليست حوارًا حتى)، تحتفي بالحوار الداخلي والحوار عبر الصمت بين شخصياتها. في الفصل التاسع عشر من الجزء الأول نرى الزوجين رامزي جالسين في الغرفة ذاتها وبالكاد يتبادلان الكلمات، لكن كلًا منهما يوجه أفكاره للآخر. هناك الكثير من الصمت بينهما، وهناك ما هو مسكوت عنه في الأفكار التي يحبسانها عن بعضهما. لكنهما أيضًا متفاهمان جدًا في الصمت. يعرف كل منهما ما يريده الآخر، ما يفكر به، ما يريد قوله. يعرفان كل ما لم يقولاه. الصمت بينهما غني كما الكلام. وهذا التقدير النادر لغنى الصمت هو أحد جوانب إعجابي بالرواية.
«لكنها وعتْ إلى استدارته برأسه ما أن استدارت؛ يرقبها. وواعية إليه يقول في نفسه الآن، تبدين أجمل من أي وقت مضى. وهي شعرت بأنها جميلة، جميلة جدًا. ألن تقوليها ولو لمرة واحدة أنك تحبينني؟ سألها في خلده، [...] لكن ليس بيدها؛ لا، لن تنطق بها. ومن ثم، واعية له يرقبها، بدلًا عن قولها أي شيء، استدارت، تمسك بجوربها، ونظرت إليه. وفيما تنظر إليه ابتسمتْ، إذ حتى وإن لم تنطق بكلمة، فهو يعرف، بالطبع يعرف، أنها تحبه».
في الجزء الأخير نرى الأمر نفسه يحدث في حوار صامت بين ليلي بريسكو وكارمايكل، يتحادثان دون كلمات.
«وقفتْ بجانبه على حافة المرجة، جسده يترنح قليلًا، وقال يحجب عينيه بيده: لابد أنهم قد رسوا. وأيقنت بأنها كانت على صواب. ما كان من داعٍ لهما كي يتكلما. فقد تشاركا الأفكار والخواطر ذاتها وأجاب أسئلتها دون أن تسأله شيئا».
ببطء تتابع وولف التحولات في مشاعر وأفكار شخصياتها. نرى ليلي التي تحاول التهرب من السيد رامزي، التهرب من منحه العطف الذي يريد، وقد غيرت موقفها في لحظة وقعت عينها على حذائه، وتبادلت معه حوارًا مقتضبًا، وانحنى ليريها كيف تعقد الرباط. كام في القارب في منتصف البحر، مُجبرة على الرحلة وعازمة على التضامن مع جيمس في حرب ضد طغيان والدهما، بعد ساعات من التأمل في الموج، تكون قد لانت، واستغرقت في تأملها، وفي مشاعر أكثر لطفًا تجاه والدها.
أفكر، كم يمكن لمواقفنا أن تتغير، إذا منحنا أنفسنا تلك الوقفة، ذلك البطء، بعضًا من التأمل، في الطبيعة، في أنفسنا، في ما حولنا، وأعدنا التفكير، ببطء، دون تسرع ودون رغبات إلا في إيقاف الزمن والاستغراق التام في هذه اللحظة. يمكن للأمور أن تتغير.
احتمالات التغير، بدت لي تيمة قوية في النص، الذي يبدأ بتساؤلات عن صفاء الجو غدًا، ليتسنى الذهاب للمنارة.
«وحتى إن لم يكن الغد صافيًا»، قالت السيدة رامزي، «سيكون صافيًا في يوم آخر».
يشير النص للتغير الذي يحدث عبر مرور الزمن سريعًا في الجزء الثاني، تاركًا آثاره على العائلة التي تغير شكلها، قبل أن يعود في الجزء الثالث ليحسم أمر الذهاب للمنارة، بعد عشرة سنوات من الاقتراح.
«وكيف له أن يتيقن؟ سألته. فمن عادة الريح أن تغير اتجاهها».
لكن الرواية أيضًا تبين نزعة شخصياتها لمساءلة ما سيبقى بعدهم، صراعهم ضد الزمن وتغيراته، وتوقهم العارم لترك أثر ما، يبقى أطول من أمد حياتهم.
«من أين تبدأ؟ – هو ذا السؤال، في أي موضع تخلق أثرها الأول؟ فأي خط على قماشة الرسم سيلزمها بمخاطر لا حصر لها ولا عد، بقرارات متعاقبة لا رجوع عنها. [...] ومع ذلك فالمخاطرة لابد أن تؤخذ؛ الأثر لابد أن يُدمغ».
بعض الكتب تساعدني على التفكير، لا حول موضوعها بالتحديد لكن بوحي منه. وهذه الرواية إحداها. لقد أطلقت الكثير من أفكاري. جعلتني أعيد التأمل، في أمور مختلفة، بما في ذلك معنى العودة لتكرار القراءة، وما يحدث خلال ذلك.
تصف الرواية في بعض مقاطعها فعل القراءة. نرى في الفصل التاسع عشر وصفا عميقا للقاريء. تصف السيد رامزي في استغراقه في القراءة، في تأثره بما يقرأ، في مزجه بين وجوده الخارجي ووجوده داخل الكتاب، وفي فعل النقاش الخفي الذي يحدث عند القراءة مع الكتاب، مع الكاتب، مع رفيق قراءة افتراضي، وفي ثورة الأفكار بعدها، والرغبة في قول شيء ما عما قرأت، للشخص المناسب وفي الوقت المناسب.
«وواصل هو قراءته. شفتاه ترتعشان. فقد امتلأ. تحصن. امّحى عن ذاكرته كل ما ضايقه على المائدة […] أعطاه زخمًا، أزاح وقرًا عن صدره وبات يشعر بهمته تستنهض من جديد، بنشوة انتصاره، وما كان بيده حبس الدمع في عينيه. رافعًا الكتاب قليلًا كي يخفي وجهه، ترك الدمع ينساب وهز رأسه ونسي نفسه كليةً.
[…]
حسنٌ، دعهم يحاولون التفوق على هذا، قال في نفسه ما إن انتهى من قراءة الفصل. وكأنما قضى كل تلك المدة يتناقش مع شخص ما، وها قد غلبه بالحجة».
يمكنني القول أن أحد أوجه استمتاعي بقراءة الرواية، أنها ساعدتني على تخفيف سرعة عجلة التفكير، الاستراحة في كلماتها وأفكارها، تقدير الهدوء والتأمل، كما فعلت بالسيد رامزي قراءته لكتاب السير والتر سكوت.
الرواية غنية بأفكار فلسفية تدور في أذهان شخصياتها. إنها تتساءل عن معنى الحياة، الوجود، عن الحب والزواج والزمن والفن.
«هو ذا قدره، هي ذي فرادته، سواء تمناها أم لا، أن يأتي هنا إلى هذا اللسان من البر الذي يتآكله البحر شيئًا فشيئا، فيقف عليه، وحيدًا، مثل طائر بحري يكتسيه الهجران. هي ذي قوته، موهبته، أن يطرح عنه فجأة كل ما هو زائد، فينكمش ويتقلص إلى أن يغدو أشد جدبًا، أكثر سدى، عدا أنه ما كان ليخسر ذرة من حدة ذهنه، وبذا، فأن يقف على النزر المتبقي من صخور الشاطئ يواجه ظلمة الجهل الإنساني، كيف أننا لا نعرف شيئًا والبحر يلتهم شيئًا فشيئًا الأرض التي نقف عليها – هو قدره، موهبته».
وصلت إلى الصفحة الأخيرة، لكني لا أشعر أني انتهيت من القراءة. أريد الاستمرار والاستغراق في عالم هذه الشخصيات. أريد متابعة ليلي والسيد رامزي في أفكارهما. أريد البقاء على المرج، وتأمل المنزل والنافذة والوشيع والتفكير بالسيدة رامزي إذ جلست هناك ذات مرة عند النافذة، والسيد رامزي ذارعًا المصطبة ثم متوقفا فجأة عند النافذة ليتبادل حوارًا صامتًا مع السيدة رامزي. أريد الاستمرار في التهادي في القارب فوق موج البحر، والإصغاء إلى أفكار كام المترددة بين مواصلة حربها على الطغيان، أو إذعانها لمحبة الرجل الرقيق، أبيها، المستغرق كليًا في قراءة كتابه، غير عالم بإعلان الحرب الذي شُن ضده.
«وأيًا يكن ما سيفنى ويتلاشى، فما يكمن هنا ثابتٌ ووطيد».
الترجمة بديعة جدًا؛ تستحق المترجمة إيمان أسعد كل التقدير لترجمة نص غير تقليدي مثل هذا.
One Reply to “«إلى المنارة»: تمرين في تأمل الصمت والنفس وتلاشي الزمن”