فنان الهروب: عن أدب روبرت ڤالزر

مقال بن ليرنر

نشر في النيويوركر في 3 سبتمبر 2013، وهو مقال مقتبس من مقدمة الكاتب لترجمة المجموعة القصصية المذكورة في النص.

بن ليرنر شاعر وأديب وناقد أمريكي رُشح لجائزة بوليتزر عن روايته «مدرسة توبيكا».

ترجمة: أحمد الشربيني

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


روبرت فالزر، عن rhystranter

يواظب رواة روبرت ڤالزر على مديح الطاعة والعقاب. في مجموعة قصصية ترجمها داميون سيرلز مؤخرًا وتُنشر هذا الأسبوع (2013) بعنوان «يوميات تلميذ وقصص أخرى»، يقول الصبي فريتس كوخر: «أحب الفن سرًّا، أو كنت أحب الفن سرًّا قبل أن أفضح نفسي بالثرثرة المستهترة، أتمنى أن أنال عقابًا وأصبح عبرة للآخرين»، ويقول أيضًا: «كم أتمنى لو أكون مجتهدًا، وأطيع كل من يستحق الطاعة»، و«نحن جبناء، ونستحق أن يأتي الناظر لتأديبنا»، وهكذا، على المنوال ذاته. ومع ذلك، فإن رواة ڤالزر، خصوصًا التلاميذ منهم، وكل رواة ڤالزر تلاميذ بدرجات، تحركهم دائمًا خفة تصل حد الطيش والرعونة، ويكاد قارئ ترجمات سيرلز يشعر بغليان يضطرب أسفل السطح، طاقة تتجاوز أو تقوّض هذا النزوع للعقاب والتأديب أو تجعله إشكاليًا على الأقل.

إن المعلومات القليلة التي نعرفها عن ڤالزر المولود في 1878 لعائلة سويسرية تتحدث الألمانية، تبدو كأنها مسار تراجيدي لإلغاء الذات، مسار يبدأ بفشله في أن يصبح ممثلًا، ثم التحاقه بمدرسة للخدم، وقضائه شتاءً في أحد قصور سيليزيا كبيرًا للخدم، ثم دخوله المصحة النفسية، وأخيرًا اكتشاف الأطفال لجثته المتجمدة في حقل مغطّى بالثلوج في يوم الكريسماس من عام 1956 (قريبًا تصدر عنه سيرة ذاتية لسوزان برنوفسكي، واحدة من أفضل مترجميه).

تمثل قصصه المبكرة في «يوميات تلميذ» إضافة قيمة إلى المتاح من أعماله بالإنجليزية، وتدور أحداث القصص عن حياة تلميذ في مدرسة، في الجو العام نفسه لأهم رواياته اللاحقة، «ياكوب فون جونتن»،[1] كما تقدم القصص مزيج ڤالزر المميز من الحذق والسذاجة (الزائفة؟)، ومن التحرر الشعري والخنوع (الزائف؟). انظر مثلًا كيف يستدعي الصبي فريتس سلطة أستاذه ويفلت منها في آن، بينما يحدثنا عن واجبه المدرسي:

«تملأ الألوان العقل بجميع صنوف الأشياء المشوشة. الألوان مجرد شواش ظريف، لا أكثر. أنا أحب الأشياء بلون واحد فقط، الأشياء التي لها وتيرة واحدة. الثلج مثلًا يبدو كأغنية رتيبة. لماذا لا تترك الألوان على عقولنا الانطباعات نفسها كالغناء؟ يشبه الأبيض الهمهمة أو الهمس أو الصلاة الخافتة، أما الألوان الصاخبة، كألوان الخريف مثلًا، فكأنها صريخ. الأخضر في الصيف يشبه أغنية متعددة الأصوات، بنغمات عالية. هل هذا صحيح؟ لست متأكدًا من صحته، لكن لا بأس، سيكون الأستاذ كريمًا بما يكفي لإرشادي».

لكن على الأستاذ أن يدعي لنفسه درجة عبثية من العلم كي يقرر إن كان الأخضر في الصيف يشبه أغنية متعددة الأصوات، وبهذا يعد استدعاء فريتس لسلطة أستاذه وسيلة ملتوية لإبراز حدود هذه السلطة. من الخطأ مع ذلك أن نعتبر هذا محض سخرية من الخضوع، لأن الفقرة تحتوي على تيمة تتكرر عند ڤالزر: «أحب الأشياء بلون واحد فقط، الأشياء التي تأخذ وتيرة واحدة».

يتخلل إعجاب ڤالزر بكل ما هو رتيب ومنتظم وتافه كل ثنايا أدبه ليدعم إبهامًا مركزيًا، فهو من جهة أولى تقدير شاعري لكل ما نمر عليه سريعًا في العالم، صغائر الأشياء التي يغفلها الكُتَّاب في انشغالهم بالبطولة، ومن جهة ثانية فإنه يعكس انبهارًا بالخضوع وبنبذ الشخصية لصالح النظام: «أن يُفسح المرء الطريق بحياء، لا يمكن أبدًا التشديد على هذه الفضيلة بدرجة كافية».

تأتي قوة أدب ڤالزر من هذا التثمين المزدوج للفردية التي يمتنع اختزالها، وللتماثل والضآلة وإمكان الاستبدال، ويصعب فهم نبرته لأن تقديره للرتابة يكون جادًّا أحيانًا وهازئًا أحيانًا. كتبت سوزان سونتاج إن «الجوهر الأخلاقي لأدب ڤالزر يكمن في رفض السلطة ومقاومة الهيمنة»، ومع ذلك فإن جزءًا من قوة هذا الأدب يكمن في الطريقة التي يتفاعل بها رفض السلطة مع إصرار على الخنوع. يتشكل صوت ڤالزر كمزيج عجيب من الحيوية والذلة، ومن الانفلات الشعري وإنكار الذات، بينما تبدو مقاومته للسلطة ضد-بطولية، متذبذبة بين الكوميديا والتراجيديا، إذ تتكشف عن رغبة الخضوع بينما تتسلل إلى الذات، ذات الابن والخادم والتلميذ.

كيف تأتَّى لكاتب أن يرفض الرفض نفسه؟ وكيف يمكن لشخوصه أن تدافع عن حريتها بينما تكافح للتخلي عنها؟ ربما تكون الإجابة في الطريقة التي تعمل بها جمل ڤالزر، وكيف «تفسح الطريق» داخل النص، فواحدة من أبرز سمات نثره أن جمله تتبخر بينما تقرؤها. كتب ڤالتر بنيامين عن لغة ڤالزر إنها تشبه حزامًا أو «إكليلًا من اللغة»: «وظيفة كل عبارة هي نسيان العبارة السابقة». لا يعني هذا أن نثر ڤالزر يخلو من عمق المعنى أو الفقرات اللافتة، لكن عبقرية لغته تتميز بنوع من التطاير. أشار وينفرد جورج زيبالد كذلك إلى أن كتابة ڤالزر «تميل للذوبان فور القراءة، فبعد ساعات قليلة فقط يصعب على المرء استعادة أشخاصها وأحداثها وأشيائها العابرة.. كل شيء في هذه الكتب المذهلة يميزه ميل سريع للتبخر، وأظن أن ڤالزر كان واعيًا بذلك». ربما تميل جمل ڤالزر للتبخر لأنه لم ينشغل أبدًا بتسجيل الفكرة بقدر ما كان مهمومًا بكتابة حركة الفكر في عملية التفكير، فلا يبقى معك بعد القراءة إلا هذه الحركة، لا مجموعة واضحة من المعاني.

انجذب ڤالزر على الأرجح للفصل الدراسي بأجوائه المغرورة لهذا السبب. يقلق فريتس دائمًا بشأن إدارة وقته أو ضيقه، وبحاجته لأن يقسر نفسه على الكتابة مع عدم وجود فكرة، وكل هذا يسمح لڤالزر بإبراز الزمن المضارع للنص. لكن حتى خارج الفصل، يستطرد رواة ڤالزر عادةً ويقاطعون أنفسهم ويقوضون بنية السرد من داخلها: «سأتوقف قليلًا في الشمس الحارقة للظهيرة، لأرتاح تحت شجرة تنوب أو زان أو بلوط، بين الأعشاب أو الحشائش. لكن أين أنا الآن؟ هل أنا فعلًا في نزهة؟ كيف أمكن هذا؟» لاستطرادات ڤالزر المتتابعة نفس أهمية اختياره للكلمات، لذا يقول فريتس «إن اللحظة الآنية، التي تحيطك بالغناء والصخب، لا يمكن أن توضع على الورق بأي طريقة مرضية».

لكن هذا بالضبط ما ينجزه ڤالزر، فهو يدون إيقاعات الحاضر في حركة الجملة. يقول فريتس مجددًا: «يبدو الأمر كأنك تسمع الفكر يهمهم، ويدور بخفة ونعومة، كجري الفئران الصغيرة في كل اتجاه». تطالب جملة ڤالزر جهرًا بالطاعة والخضوع والنظام، لكن مطالبها تذوي بين اختلاجاتها الحية، ولو كان صحيحًا أن «الأسلوب حسٌ بالنظام» كما يقول فريتس، فإن أسلوبًا لا يني يتبخر هو إستراتيجية للهرب. يهرول المعنى، أسفل لغة تتلوى، بعيدًا من بين أقدام الأساتذة والنظار والمفتشين، وإذ يقف الصبي في مفترق حساس حيث يتغول التلقين ويتحد التدريس مع سلطة العقاب، فإنه يقف كذلك حارسًا على مساحات نقية وغير منظورة من الحرية والشعور، تعمل كتابة ڤالزر على رسم خرائطها برشاقة بينما تختفي.

كتب ڤالزر أهم رواياته في الفترة السابقة للحرب العالمية الأولى، لكن كثيرًا من النقاد يلحظ أنه لم يشر إلى الكوارث التي وقعت في زمنه إلا نادرًا. يظل صعبًا مع ذلك أن نعزل هذا التراقص بين الحرية والخضوع عن الأزمات السياسية الطاحنة للقرن العشرين، فالقصة الأخيرة في المجموعة مثلًا هي «هانس» المنشورة في 1919، قبل أن يقدم توماس مان شخصية «هانس كاستروب» بخمس سنوات في رواية «الجبل السحري»، وينتهي العملان بذهاب هانس القصة وهانس الرواية للالتحاق بالجيش.

وفي قصة قصيرة أخرى عنوانها «في الجيش» (وقد خدم ڤالزر في الحرس الوطني السويسري)، نقابل مجددًا التعارض بين قيم التمرد والطاعة، فيكتب ڤالزر على لسان راويه: «أنا بالتأكيد مؤيد لحياة التسكع، الكسل والبهجة والسلام، لكن للأسف، أنا مؤيد أيضًا للجيش. أعتقد أن السلام لطيف وأن الجيش لطيف أيضًا». يشرح الراوي أن الجيش لطيف لأنه يحرر المرء من واجب التفكير، لكن مع ذلك فإن «تصور حشد كبير من الأفراد الذين استغنوا، تمامًا أو بدرجات، عن التفكير العاقل، هو تصور يثير الذعر»، لكنه يعود للقول: «عن نفسي أنا واحد من هؤلاء الذين يعتقدون أن عدم التفكير أمر طيب، كما أنني أقدر مبادئ الخدمة والطاعة تقديرًا عاليًا جدًّا». يظهر مزيج الانفلات والمذلة نفسه المميز للأطفال في جنود ڤالزر، «الجنود صنف من الأطفال»، كما يظهر عند هذا الراوي الذي يفكر في الحرب والسلام من حيث كونهما أشياءً «لطيفة»، فلا تغريه بطولة أو مجد: «أين، باستثناء الجيش، حيث أكون جنديًا بسيطًا طيِّعًا، يمكن للواحد أن يجرؤ على ممارسة حريته في التهام تفاحة، أو مثلًا، كيكة برقوق، في الساعة الثامنة، أسفل ضوء المساء المحبب، بشارع عام لمدينة صغيرة، مع سعادة غامرة وسلام داخلي تام؟» إنه لأمر مقبض ومضحك في آن أن يرى المرء شابًا يرحب بالحياة العسكرية لأنها قد تهبه حرية التهام كعكة في الشارع في ساعة غريبة من اليوم، شاب يسعى وراء النظام الصارم كي يستعيد حرية عابرة.

يحلو لي أن أتخيل بطل ڤالزر قد دس الكعكة في بطنه واندس في بطن الليل. إن التقلبات الطفولية السريعة بين الغليان والإذعان، وبين السعي في طلب السلطة والهرب منها، أيًا كان مدى جدية هذه التقلبات، تستدعي للذهن فورًا زلازل الفاشية الأوروبية. وبهذه الخلفية سياقًا لأدب ڤالزر، فإن مناوراته المنفلتة ورفضه للطموح يكتسبان دلالة سياسية لاذعة: يتأدب رواة ڤالزر تأدبًا كبيرًا بإزاء السلطة، حتى أن الأمر يستغرق بعض الوقت قبل أن تدرك هذه السلطة أنهم قد هربوا.


اقرأ قصص لفالزر على "كتب مملة": ركوب الترام، وآخر العالم


[1] صدرت عام 2020 في ترجمتين باللغة العربية، واحدة لنبيل الحفار عن منشورات تكوين، وأخرى لحسن الحديدي عن دار المحروسة.