آخر العالَم

قصة لروبرت ڤالزر* (نُشرت عام 1917)

ترجمة: أحمد الشربيني

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

* روبرت ڤـالزر (1878-1956) أديب سويسري حَقَّق تأثيرًا هائلًا في معاصريه، وأهمهم فرانتس كافكا الذي قيل عنه آنذاك إنه «حالة خاصة وملتوية من ڤالزر»، واكتشاف ڤالزر يشبه فعلًا أن تكتشف عددًا هائلًا من التنويعات على كافكا. انخفضت شعبية ڤالزر مع ذلك تدريجيًا منذ العشرينيات حتى نُسي تقريبًا، جزئيًا بسبب عدم قدرته على الاندماج في الأوساط الأدبية الألمانية، وجزئيًا بسبب منحاه التجريبي المتأخر في الشكل والمضمون، وعانى انهيارًا عصبيًا أودعه مصحة نفسية لسبع وعشرين سنة من حياته، حتى سقوطه ميتًا بين الثلوج في واحدة من تمشياته الطويلة والمتأملة التي شكلت المادة الأساسية لأدبه.

(المترجم)

***

روبرت فالزر، عن Numero Cinq

يومًا ما خطر لطفلة، لم يكن لها أب أو أم، ولا أخ أو أخت، ولم تنتمِ إلى أي شخص ولا كان لها أي بيت، أن تجري حتى تصل إلى آخر العالم. لم تحتج البنت أن تحمل معها الكثير، ولا أن تحزم شيئًا، لأنها لم تقتنِ أي شيء. وهكذا، انطلقت طفلتنا على حالها، وكانت الشمس ساطعة، لكن المسكينة لم تلحظ سطوع الشمس، وواصلت جريها. مرت البنت بالكثير من المشاهد، لكن لم تلحظ أيًا منها، وواصلت جريها. مرت البنت بالكثير من الناس، لكنها لم تلحظ أي شخص، وواصلت جريها. وحتى عندما حل المساء، لم تلحظ البنت حلول المساء.

لم تهتم طفلتنا بطلوع الصبح، ولا اهتمت بحلول الليل، ولم تهتم بالمناظر ولا الأشخاص، ولا اهتمت بالشمس أو القمر أو النجوم، فقط واصلت جريها، بلا خوف أو جوع، وبخاطرة واحدة فقط، وفكرة واحدة، هي البحث عن آخر العالم، والجري طويلًا جدًا حتى تجده. قالت لنفسها إنها ستجده في النهاية، «وراء الأشياء كلها، وبعد كل شيء، هو آخر شيء من كل الأشياء».

هل كانت البنت محقة في اعتقادها هذا؟ لنتمهل قليلًا في الحكم. هل نقول إنها فقدت صوابها؟ حريُّ بنا الانتظار حتى نرى. استمرت البنت بالجري، وتخيَّلت آخر العالم أول شيء جبلًا شاهقًا، ثم تخيَّلته هوَّة سحيقة، ثم تخيَّلته روضةً خضراء فاتنة، ثم بحيرة، ثم قماشة منقطة، ثم حساءً ثخينًا، ثم هواءً رقيقًا نقيًا، ثم بياضًا ناصعًا، ثم بحرًا من الجنة ستعوم فيه للأبد. تخيَّلت البنت آخر العالم طريقًا بني اللون، ثم تخيَّلته لا شيئًا بإطلاق، أو شيئًا حتى الله نفسه لا يعرف كيف يكون.

واصلت البنت جريها، لكن الوصول لآخر العالم بدا محالًا. فلستة عشر عامًا، جالت طفلتنا عبر بحارٍ وسهولٍ وجبال، حتى أصبحت فتاة كبيرة وقوية، ولستة عشر عامًا ظلت مخلصة لفكرتها الوحيدة، أن تجري طويلًا جدًا حتى تصل إلى آخر العالم. لكنها لم تصل، وبدا كأنها لم تزل بعيدة جدًا عن أن تصل إلى آخر العالم. فكرت الفتاة: لا يمكن أن يكون آخر العالم بعيدًا لهذا الحد، لذا قررت سؤال فلاح قابلته على الطريق عما إذا كان يعرف أين يقع آخر العالم. كان «آخر العالم» اسمًا لبيت ريفي قريب، لذلك قال الفلاح: «على مسافة نصف ساعة فقط تجدين آخر العالم». سمعت الفتاة لقول الرجل وشكرته على المعلومة القيِّمة، ثم عاودت الانطلاق.

لكن فيما بدا أن النصف ساعة استمرت للأبد، وقفت الفتاة لسؤال صبي صادفته في الطريق، عما إذا كان يعرف كم يبعد آخر العالم. قال الصبي: «بعد عشر دقائق»، فشكرته الفتاة على المعلومة القيِّمة، وعاودت الانطلاق. كانت الفتاة عندئذ منهكة تمامًا، وتقدمت للأمام بصعوبة هائلة.

أخيرًا، رأت الفتاة بيتًا جميلًا وكبيرًا في مرجٍ شاسع منبسط، بيت ذو رونق وأبهة. كان منظر البيت دافئًا وعفويًّا وودودًا، وكان منظره شامخًا وساحرًا ومهيبًا، تتناثر حوله أشجار الفاكهة سامقة، ويتواثب الدجاج، فيما تداعب الرياح بهدوء سنابل القمح. كان للبيت حديقة مليئة بالخضروات، وانتصبت خلية نحل على منحدرٍ فكان لمرآها مذاق العسل، وكانت هناك حظيرة مليئة بالأبقار، والأشجار كلها معبأة بالكرز والكمثرى والتفاح. بلغ كل شيء من الوفرة والرقة والطلاقة أن فكرت الفتاة أن هذا بلا شك هو آخر العالم، وكانت سعادتها كبيرة.

حزرت الفتاة أن شيئًا ما يُطبَخ في البيت، لأن دخانًّا رقيقًا كان ينبعث، متبسمًا، من المدخنة، ويتبدَّد في الهواء كالسحر. سألت الفتاة بإنهاك ولهفة: «هل هنا آخر العالم؟» فأجابتها ربة البيت أن «نعم، أيتها الفتاة الطيبة، أنتِ في آخر العالم».

شكرت الفتاة ربة البيت على المعلومة الودودة، ثم رباه! سقطت أرضًا من التعب، وبسرعة حملتها الأيدي الطيبة إلى الفراش. عندما أفاقت الفتاة كانت راقدة، لدهشتها، في السرير الأجمل من بين كل الأَسِرَّة، وكانت محاطة بأناسٍ لطاف طيبين. سألت الفتاة: «هل يمكنني أن أظل هنا؟ سوف أجتهد في خدمتكم»، فأجابها أصحاب البيت: «ولماذا لا يمكنك البقاء؟ نحن نحبك، ابقي معنا واعملي بجد، فنحن بحاجةٍ إلى آنسةٍ جميلة مثلك في الخدمة، وإذا كنتِ جيدة كفاية، ستصبحين بنتًا لنا».

كان هذا كافيًا لكيلا تسأل فتاتنا شيئًا آخر، فبدأت بالكد والعمل الدؤوب، وسرعان ما أحاطها حب الجميع. ولم تجر الفتاة مجددًا إلى أي مكان، لأنها كانت أخيرًا بالبيت.