ركوب الترام

قصة لروبرت ڤالزر* (نُشرت عام 1908)

ترجمة: أحمد الشربيني

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه

* روبرت ڤـالزر (1878-1956) أديب سويسري.

***

ركوب الترام متعة قليلة التكلفة. تنتظر وصول العربة ثم تصعد إليها، ربما بعد أن تفسح الطريق أولًا بأدب لسيدة محترمة خطت أمامك، ثم يبدأ الترام بالحركة.

أول ما تلاحظه فور ركوبك أنك تكتسب مزاجًا موسيقيًا، فتتراقص في رأسك أعذب الألحان، وكأنك ارتقيت في طرفة عين لتصبح قائد أوركسترا أو مؤلفًا موسيقيًا. هذه حقيقة، يبدأ المخ الإنساني تلقائيًا بتأليف الأغاني في الترام، أغاني تبلغ درجة مدهشة من براءة السجية وانتظام الإيقاع، إلى حد إقناعك أنك أضحيت موتسارت جديدًا.

الآن لنقل إنك في هذه الأثناء لففت سيجارة، ووضعتها بين شفتيك المدرَّبتين بتؤدة وحرص. لن يعوزك أبدًا بعض المرح وهذه اللعبة في فمك، ولو كان الألم قد شجَّ روحك إلى نصفين. هل هذا وصف حرفي؟ ليس بالضبط، لكني أحاول إعطاءك فكرة موجزة عن السحر الذي تحدثه هذه اللفافة البيضاء المشتعلة في النفس البشرية، عندما تدخنها سنة بعد أخرى.

ثم ماذا بعد؟

تستمر العربة بالمسير، وتهطل الأمطار بالخارج، فيما يطوي الترام الشوارع. يضيف هذا متعة إلى المتعة. يجد بعض الناس راحة هائلة في منظر الأمطار إذا احتفظوا في الوقت نفسه ببحبوحة اتقاء البلل، وتؤلف المياه مع الشوارع الرمادية صورة تثير في النفس مواساة وحُلمًا، لذلك ستقف في آخر العربة، المستمرة بالانطلاق والصرير، وتنظر مستقيمًا للأمام. النظر المستقيم للأمام نشاط يشترك فيه كل من يركب الترام تقريبًا، جلوسًا كانوا أم وقوفًا.

يمل الناس في هذه الرحلات، إذ ربما تستغرق عشرين أو ثلاثين دقيقة، وربما أكثر. إلام تلجأ إذًا من أجل قسط يسير من الترفيه؟ تنظر مستقيمًا للأمام؛ فلأن تُلمح، بنظراتك وسكناتك، إلى كون الأشياء تضجرك قليلًا، يملؤك بلذة من نوع خاص. بعد ذلك تبدأ في تأمل وجه محصل التذاكر، ثم تكتفي مجددًا بالنظر الأجوف المستقيم إلى الأمام. أليس أمرًا لطيفًا؟ أولًا تفعل هذا، بعدها تفعل ذاك. يجدر بي الاعتراف أنني حققت درجة عالية من الخبرة التقنية في فن النظر المستقيم إلى الأمام.

يُحظر على محصل التذاكر الحديث مع السادة الركاب. لكن لنفكر لوهلة في وضع المحظورات جانبًا وخرق القانون، أو في قليل من عدم الاكتراث بشروط التحضر والإنسانية هذه. يحدث هذا من وقت لآخر، ويفتح الحوار مع محصل التذاكر آفاقًا جديدة وخلابة للترويح عن النفس، وهي فرصة لا أتورع عن استغلالها إن لاحت، للدخول في حوار ممتع وخلاق مع موظف محترم. يفيدنا أن نتجاهل بعض القواعد أحيانًا، وعندما يكرس المرء جهده لتحويل موظف رسمي متجهم إلى رجل مهذار، فإنه يسهم في خلق حالة من البهجة للجميع.

مع ذلك، ومن وقت لآخر، ستعاود النظر مستقيمًا للأمام. وبعد هذا التمرين البسيط، قد تسمح لعينيك بقليل من الزوغ في اتجاهات أخرى. تبدأ بمسح العربة، فيقع نظرك على شارب ضخم متدل، ووجه منهك لامرأة عجوز، وعينين خبيثتين لفتاة شابة. وعندما تنتهي من تأملك في هذه الأشياء العادية والمكررة، تنتقل على مهل إلى تأمل حذائك، الذي ربما كان بحاجة إلى بعض الإصلاح. يحدث كل هذا فيما تتتابع المحطات والشوارع، وتقطع العربة الميادين والكباري، فتمر بوزارة الدفاع والمتجر الكبير. ويحدث كل هذا فيما تستمر الأمطار بالهطول، وتستمر أنت بالسلوك كأنك ضجر قليلًا، مع الاعتقاد بأن أداءك مناسب تمامًا للمقام.

لكن قد يحدث أحيانًا، بينما يحملك الترام في رحلته، أن تسمع أو ترى شيئًا بلغ من الجمال أو الحزن أو الجذل أنك لن تنساه أبدًا.

***

اقرأ المزيد لروبرت ڤالزر: آخر العالَم – روبرت ڤالزر – قصة قصيرة