اسم الشعب
مقال لشهاب الخشاب
المقال خاص بـBoring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
هل الإنجازات في صالح الشعب؟ السؤال ده بيطرح سؤالين تانيين، أولهم إيه الإنجازات دي بالضبط؟ وتانيهم مين يقدر يحدد مصالح الشعب؟ في الظرف الحالي، ما يصحش نطرح السؤالين دول أساسًا، لأن الإنجازات واضحة وضوح الشمس، والشعب عايش أزهى عصور الديمقراطية، وأكيد الإنجازات بتتم لصالح الشعب بلا شك ولا جدال. أما في العهود الغابرة، زي مثلًا في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فنقدر نطرح السؤالين دول، عشان البعض مننا نسي إنجازات العصور السابقة دي، ونسي إن مصر ما كانتش ديمقراطية طول عمرها زي ما هي النهارده.
في كتاب "نداء الشعب"، المؤرخ شريف يونس بيقدم رؤية نقدية للأيديولوجيا الناصرية، مش بمعنى الاعتراض في سبيل الاعتراض وخلاص، وإنما بمعنى تفكيك المفردات الأساسية للخطاب الناصري. يونس بيشرح أولًا إزاي "دولة يوليو" اتأسست بعد إحداث فراغ سياسي تام في أول سنتين من حكم الظباط الأحرار بين 1952 و1954، استنادًا بشكل رئيسي إلى كتاب "حركة ناصر المباركة" للمؤرخ جويل جوردون (Joel Gordon). بعد حل الأحزاب القديمة واستبعاد الناس المقربين من السلطة وقمع التنظيمات السياسية زي الإخوان والشيوعيين، الظباط الأحرار لقوا نفسهم محتاجين يخلقوا نظام جديد عشان "العهد الجديد". النظام ده قام على مبدئين حسب يونس: أولًا، حالة الطوارئ كنظام للحكم، وثانيًا الحكم باسم الشعب مش عشانه.
حسب المبدأ الأول، النظام بيحكم بشكل مستمر تحت دعاية إننا في حالة حرجة، والوضع خطر، ولازم ننقذ البلد قبل ما تغرق، وبالتالي القوانين المعتادة بتترفع باسم الحفاظ على القانون. كلام يونس هنا بيوازي كلام الفيلسوف جورجيو أجامبن عن حالة الطوارئ، باستخدام تحليل تاريخي واقعي لوضع قوانين الطوارئ في وقت عبد الناصر. أما حسب المبدأ التاني، فالنظام بيحكم "باسم الشعب"، بمعنى إنه بيحاول يستمد شرعيته من الشعب من غير ما يديه صوت مباشر في الواقع.
يونس بيفرّق هنا بين "جموع الشعب" و"اسم الشعب". الجموع هي الجماهير اللي تم تعبئتها وتجنيدها وحشدها في المشروع الناصري. الجموع هي الناس اللي كانت بتنزل الشارع في أي فرصة عشان تحيي الريّس والثورة، وهي الناس اللي بقت أعضاء في هيئة التحرير والمجلس القومي والاتحاد الاشتراكي العربي. عكس الجموع، اللي هي في الآخر عبارة عن جزء من الشعب الواقعي، "اسم الشعب" مالوش وجود في الواقع. اسم الشعب مجرد اسم للشعب اللي هيظهر في المستقبل البعيد، لما البلد تتضبط وتتهندم وتتوضب، والظباط الأحرار يسلموا له الأمانة اللي كانوا شايلينها على كتافهم وغصب عنهم. يعني اسم الشعب مالوش علاقة بالشعب الحقيقي في تحليل يونس، وإنما بتصور الحكام عن الشعب المستقبلي اللي هيقدر يحكم نفسه بنفسه، وطبعًا الشعب اللي موجود دلوقتي ده مش على ذوقهم، ولازم يتربّى مدى العمر عشان يرتقي إلى مرتبة الحكم الذاتي.
الحكم بالطوارئ وباسم الشعب بيستتبع 3 أنواع من الشرعية حسب يونس، وهي الشرعية الشعبوية والشرعية الانتقالية والشرعية الإنجازية. الشرعية الشعبوية هي أقرب حاجة للمفهوم المعتاد عن الشرعية بوصفها التقبل الجماهيري لوجود أقلية في الحكم مقابل بعض المزايا أو الخدمات الشعبية. والشرعية الانتقالية هي اللي خدوها الظباط الأحرار عشان كانوا ماسكين البلد بشكل مؤقت، وكأن مصر أمانة في إيديهم لحد ما تظهر "الديمقراطية السليمة"، وييجي المواطن الصالح يحكم نفسه بنفسه. يونس بيورّي إزاي الوضع الانتقالي ده بيتجدد كل كام سنة مع "انقلاب" جديد في طبيعة السلطة: أولًا انقلاب 23 يوليو اللي بدأ الانتقال بين الملك فاروق وولي العهد، ثم في الانتقال بين الملكية والجمهورية سنة 1953، ثم في الانتقال بين البرلمانية الحزبية وزعامة جمال عبد الناصر، وإلخ. كل شوية النظام بيبتكر انقلابات جديدة عشان يمِد شرعيته الانتقالية بين مرحلة والتانية، والمراحل دي بالفعل بتقعد تمتد بلا أجل.
أما الشرعية الإنجازية، فهي الشرعية اللي استمدوها الظباط الأحرار والمسؤولين الكبار من الإصلاحات الصناعية والزراعية والسكنية والمالية والثقافية اللي بدأوا يقدموها في الخمسينيات. كل ما الدولة كانت بتنجز مشاريع جديدة وطرق جديدة وكباري جديدة ومباني جديدة ومصانع جديدة، كل ما كانت قاعدتها الجماهيرية أوسع بسبب إن النظام بيحقق كل اللي ماعرفش يحققه النظام السابق. يعني الظباط الأحرار عرفوا يورّوا لمصر العجب، وبالتالي قدروا يستمروا في الحكم بناءً على إنجازاتهم المستمرة.
إذن إيه إنجازات العصر الناصري؟ إلى الآن الناس بتسمع عن الإنجازات الكبرى، زي تأميم قناة السويس وبناء السد العالي مثلًا، بس في وقت عبد الناصر نفسه، جميع قطاعات الدولة كانت بتنشر الإنجازات والمشاريع الصغيرة اللي نفذتها في عهد الثورة باستمرار، وكل مؤسسة كانت بتعمل دعاية لنفسها قد ما بتعمل دعاية للنظام. الزعيم والقيادة الثورية والموظفين الكبار كانوا متصورين إنهم فاهمين إرادة الشعب وعارفينها، وهم الوحيدين اللي قادرين يحققوها من غير دوشة السياسة والمظاهرات والاعتراضات، وبالتالي كانوا قادرين ينجزوا من غير تفكير ولا هري.
طبعًا في الواقع، إنجازات العصر الناصري ما كانتش بتتوزع على الشعب الحقيقي بشكل متساوي ومتوازن: الفروق الرهيبة بين إدارة المدن وإدارة الأرياف مثال واضح لعجز الدولة عن تحقيق عدالة اجتماعية فعلية، بالإضافة للسياسات الفوقية اللي تسببت بضرر مباشر للناس في حياتها اليومية، سواء المتضررين كانوا سجناء سياسيين أو عمّال مش واخدين حقهم أو ناس اتهجّروا من النوبة مع بناء السد العالي. في تحليل يونس، الضرر المباشر ده ما كانش بيمثل إشكالية كبرى بالنسبة للقيادة الثورية. إذا الناس العادية دي ما لمّتش نفسها جوة الجموع واتعبئت في خدمة النظام، فهي بتتشاف على إنها واقفة في طريق تحقيق "اسم الشعب"، يعني التصور المثالي المستقبلي عن الشعب المؤدب المحترم المهندم اللي كانوا الظباط الأحرار عايزين يبنوه.
التصور ده بيخالف تصور الديمقراطيات الليبرالية الأوروبية، اللي بتعتبر إن محدِّش يقدر يتكلم باسم الشعب إلا الشعب نفسه، وبما إن الشعب فيه ناس كتيرة قوي، لازم يختار ممثلين عشان يمثلوا إرادته في تجمعات زي البرلمان مثلًا. طبعًا التمثيل البرلماني ما بيؤديش إلى تمثيل ديمقراطي بالفعل في حد ذاته، ولكن النظم الديمقراطية الليبرالية قائمة على تصور واضح عن علاقة الشعب الحقيقي بالحكم. أما في نظام يوليو، فالشعب الحقيقي مالوش أهمية إلا كجموع أو كمادة خام لازم تتظبط عشان اسم الشعب يظهر في المستقبل، وطبعًا مع كل انتقال والتاني، لحظة الاقتراب من الخلاص بتبعد.
باختصار، كل التعقيدات والاختلافات والصراعات اللي موجودة في الشعب الحقيقي بتختفي في اسم الشعب، بما إن الاسم ده مجرّد لبانة في بق نظام يوليو، وهم بيحكموا بالنيابة عن شعب مصري مستقبلي ربما يسلّموا له البلد لما يبقى جاهز عشان يستلم الأمانة (في عمرنا إن شاء الله). إذن القيادة الثورية هي الوحيدة اللي تقدر تتكلم باسم الشعب، لأن الاسم ده مش موجود. وبنفس الطريقة، أي إنجازات بينجزها الحكم باسم الشعب هي في الواقع في صالح "اسم الشعب" المستقبلي ده (والشعب الحقيقي اللي عايش معانا ربنا يكون في عونه).
فإذا رجعنا وسألنا هل الإنجازات في صالح الشعب، ممكن نقول بكل فخر واعتزاز إن الإنجازات في صالح الشعب المصري العظيم، وإنما الشعب اللي هيستفيد من الإنجازات دي مجرّد اسم، ولسة الاسم ده مالوش وجود.
