حالة الطوارئ

مقال لشهاب الخشاب

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

صوفي أبو طالب ومبارك

هل حالة الطوارئ طارئة؟ يوم 6 أكتوبر سنة 1981، السيد الرئيس أنور السادات اتقتل أثناء احتفاليات نصر أكتوبر المجيد. لأول مرة في تاريخ مصر الحديثة، تم اغتيال رأس السلطة بشكل مباشر ومذهل، وحتى الرجل نفسه اتخض، لدرجة إن اللي حواليه لحقوا ينقذوا نفسهم، وهو واقف ومش مستوعب إيه اللي بيحصل قبل ما يقابل مصيره. المشهد العنيف ده محفور في ذهن الناس اللي شافته بتكرار في التلفزيون والأفلام واليوتوب، ولكن المشهد اللي حصل بعديه مالوش أثر في الذاكرة الجماعية، رغم إنه ما زال بيؤثر تأثيرًا مباشرًا في مصر إلى اليوم. 

في نفس يوم 6 أكتوبر 1981، السيد رئيس الجمهورية المؤقت صوفي أبو طالب فرض حالة الطوارئ على البلاد فورًا، ووقَّع إعلان الطوارئ اللي اتنشر في الجريدة الرسمية في ساعتها. الإعلان كان مفهوم ومتوقع في الظرف الطارئ ده، ولكن لما حسني مبارك تولى الحكم، قعد يمد حالة الطوارئ سنة ورا التانية، وبقت المدة القانونية تلات سنين في تلات سنين من 1988 لغاية 2006، وكل سنتين بين 2006 و2012، وكل كام شهر من 2013. مبارك برضه ما كانش عايز يوجع دماغه في مد القرار كل شوية، لأن كده كده القرار كان متاخد مسبقًا: الدنيا والعة، ومصر بتقع، والطوارئ ضرورية. وكذلك حالة الطوارئ الطارئة بقت حالة روتينية وبيروقراطية.

إذا حالة الطوارئ ما بقتش طارئة، والخطر المباشر على سلامة البلاد انتهى، إشمعنى حسني مبارك كان مصمم يفرض حالة طوارئ مستمرة ومتكررة؟ وبما إن مبارك كان راشق في الكرسي، إشمعنى كان مصمم يمد الطوارئ قانونًا كل كام سنة؟ الإجابة حسب الفيلسوف جورجيو أجامبن (Giorgio Agamben) إن حالة الطوارئ مش مجرد لحظة استثنائية في تاريخ الدولة، وإنما إنها أصبحت نموذج للحكم في الدولة الحديثة. 

أجامبن حلل وضع القوانين اللي بتسمح بتعليق النظام القانوني في كتاب عنوانه «حالة الاستثناء» (State of Exception). القوانين دي معروفة بكذا اسم حسب البلاد: في فرنسا بتتسمى «حالة الحصار» (état de siège)، وفي ألمانيا بتتسمى «حالة الاستثناء» (Ausnahmezustand)، وفي إنجلترا بتتسمى «سلطات الطوارئ» (emergency powers) أو «الأحكام العرفية» (martial law). القوانين دي بتستثني نظام الحكم من تطبيق القانون المعتاد، تحت دعاية إن فيه ضرورة كبرى بتحتم إن القانون يترفع عشان النظام ينقذ نفسه. في بعض البلاد، القوانين دي مالهاش وجود بالورقة والقلم، زي في إيطاليا وأمريكا مثلًا. ولكن فكرة حالة الاستثناء موجودة نظريًا، وبتُستخدم في الظروف التاريخية اللي النظام بيحس فيها بضرورة حاسمة، أثناء الحروب والانتفاضات الكبرى مثلًا. 

أجامبن لاحظ إن الضرورة المحتومة على النظام مالهاش تعريف موضوعي. في نهاية الأمر، النظام بياخد قرار بناءً على إحساس ذاتي بالضرورة. بالتالي حالة الاستثناء ما بقتش مرتبطة في جميع الأحوال بخطر خارجي مباشر. خلال القرن الـ19 في فرنسا مثلًا، ظهرت فكرة إن حالة الحصار لها نوع «فعلي» – يعني البلد تحت حصار عدو خارجي ما – ولها نوع «صوري» – يعني البلد تحت الحصار فقط بمعنى إن النظام واقع تحت التهديد. الحكومة ممكن تعلن حالة حصار صورية بتعلَّق القانون العادي في مواجهة التهديدات اللي الحكومة حاسة بها، والتعليق ده نفسه بيتم بشكل قانوني.

حسب أجامبن، المفكر القانوني اللي قدم أكثر تنظير منهجي عن حالة الاستثناء هو كارل شميت (Carl Schmitt)، اللي اشتهر بسبب تبريره وتأييده للحكم النازي من أول ما هتلر تولى منصب مستشار ألمانيا في 1933. في كتابين اتكتبوا في أوائل العشرينات، عنوانهم «الديكتاتورية» (Die Diktatur) و«اللاهوت السياسي» (Politische Theologie)، شميت طوَّر بعض المفردات للتفكير في حالة الاستثناء مش بصفتها حالة خارجة عن القانون، وإنما بصفتها حالة بتعلق القانون باسم الحفاظ على القانون. خلاصة تنظير شميت إن السيادة (أو السلطة السيادية المتجسدة في شخص الحاكم) هي القدرة على إعلان حالة الاستثناء. الكيان أو الشخص اللي يقدر يرفع القانون عشان يحميه هو اللي بيجسِّد سمات السيادة بمعنى الكلمة.

نظريات شميت اتطوّرت في إطار نقده للديمقراطية الليبرالية اللي اتأسست في ألمانيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكن الخطوة بين النظرية والتطبيق العملي على النظام النازي في التلاتينات ما كانتش بعيدة. هتلر وصل للحكم فعلًا باستخدام الآليات الديمقراطية القائمة في جمهورية ڤايمار، وأول ما وصل للحكم، أعلن حالة الاستثناء (اللي كانت مادة دستورية موجودة ضمن قوانين الجمهورية)، وفرض سيادته التامة اللي استمرت لغاية آخر الحرب العالمية التانية. بينما شميت كان مهتم بتبرير السيادة المطلقة للحاكم عن طريق إعلان حالة الاستثناء، أجامبن كان مهتم يفهم المفارقة القانونية الجذرية في مفهوم الاستثناء نفسه. حتى لو افترضنا إن حالة الاستثناء ضرورية للحفاظ على النظام، إزاي ممكن يكون فيه قانون بيسمح برفع كل القوانين؟ إيه الوضع القانوني للحالة اللي بيغيب عنها القانون العادي؟ 

عبر دراسة لبعض المؤسسات الحديثة والمؤسسات الرومانية العتيقة، أجامبن وصل لاستنتاجين رئيسيين. الاستنتاج الأول إن حالة الاستثناء مش بالضبط حالة غياب القانون، وإنما هي حالة بتخلط بين قدرة السلطات التشريعية والتنفيذية في نفس الوقت. في السياق ده، أي قرار سيادي من الكيان أو الشخص الحاكم بياخد قوة القانون في غيابه، أو قوة القانون (مع شطب القانون) حسب تعبير أجامبن. النظام القانوني بيختفي بينما الحكم السيادي بيطبق قانونه المطلق، وفي المقابل، النظام القانوني بيفضل محمي نظريًا أثناء غيابه عشان الحاكم بيحميه بمجرد وجوده. الاستنتاج التاني بالتالي إن الشخص اللي بيعلن حالة الاستثناء ما عندوش قدرات خارقة في حد ذاته، وإنما إن قدراته جاية من إنه حامي القانون في غيابه. لذلك الحكومة النازية عمرها ما أسقطت دستور الجمهورية الألمانية، وإنما اكتفت برفعه وبادعاء إن الحاكم (هتلر) هو الحامي الأول للنظام القانوني. 

رغم إن أجامبن مركِّز في السياق الأوروبي، نقدر نلاحظ بعض التشابهات بين استنتاجاته في أوروبا وتحليل المؤرخ شريف يونس لنظام يوليو في مصر. في كتاب «نداء الشعب»، يونس بيشرح إزاي نظام يوليو بدأ يتكوّن عبر إخلاء الساحة السياسية بعد 1952. لما عبد الناصر تولى الحكم رسميًا سنة 1954، كان الإخوان والشيوعيين والوفديين والناس اللي بتأيد محمد نجيب اختفوا من الساحة تمامًا. وفي وسط الفراغ ده، النظام اللي كان متجسد في شخصية عبد الناصر ما كانش عنده الشرعية الكافية في حد ذاته لسه. حسب يونس، الشرعية دي اتكوّنت أولًا عبر فرض حالة الطوارئ كنظام للحكم، وثانيًا عبر تولي الحكم كأمانة في إيد الحكام تجاه الشعب. 

تحليل يونس للطوارئ مش مرتبط بقانون الطوارئ الرسمي، اللي وقّعه عبد الناصر سنة 1958 واتفعّل رسميًا بعد 5 يونيو 1967، وبشكل غير متقاطع تقريبًا إلى اليوم. بعيدًا عن القوانين دي، يونس لاحظ إن عبد الناصر ما بدأش يحكم بناءً على أيديولوجيا أو رغبة سياسية محددة، وإنما باعتبار إنه ماسك البلد كأمانة في إيده لغاية ما يسلمها للشعب الناضج المتربِّي اللي هيظهر بعد الثورة، وبالتالي لازم يحكم وكأنه بيواجه حالة طوارئ دائمة. حسب تعبير أجامبن، نظام يوليو كان بيحمي القانون في غيابه، والقرارات اللي بيصدرها بالتالي كان لها قوة القانون (مع شطبه).

أجامبن بيأكد إن حالة الاستثناء مش نتيجة تراث فكري ديكتاتوري، وإنما إنها طالعة من قلب التراث الديمقراطي الليبرالي الأوروبي. ده مش معناه إن أوروبا وحشة والبلاد التانية كويسة، وإنما إن الفرق بين الديمقراطية والديكتاتورية بيزول في إطار حالة الطوارئ. «الديمقراطية» اللي بعض الناس بتناشد بها عندها تاريخ طويل وروتيني من فرض الطوارئ عشان ترفع القانون باسم الدفاع عن النظام. وأي حد عاش سنوات «التحول الديمقراطي» في ظل حكم حسني مبارك فاهم إزاي الديمقراطية المنشودة هي في الواقع ترسيخ لحالة الطوارئ كنظام للحكم حسب تعبير شريف يونس.

لذلك الطوارئ ما هياش حالة طارئة، ولكنها الحالة الدائمة اللي النظام بيستمد منها شرعيته.