كامو المُربك والمرتبك في الحياة وفي الموت

من مقدّمة كتاب: "حياة تستحق أن تُعاش" A Life Worth Living، لـروبرت زارتسكي، مؤرّخ فرنسيّ وكاتب سيرة.

ترجمة: أنس إبراهيم

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


كتب ألبير كامو في العقد الأخير من حياته متنبِّئًا: «حتّى موتي سيُتَنَازعُ عليه، ومع ذلك، ما أشتهيهِ اليوم موتًا هادئًا يجلبُ السّلام للذين أحبُّهم»، ورغم أمنيته تلك، فقد صدَقتْ نبوءته في السنوات الأخيرة التي اشتعلت فيها وانفجرت النّزاعات حول إرث الكاتب الجزائريّ الفرنسيّ.

بعد وقتٍ قصيرٍ من تولّيه الرّئاسة، زار الرّئيسُ الفرنسيّ نيكولاس ساركوزي الجزائر في زيارةٍ حظيتْ بانتباهٍ غير معتاد، وذلك يعود لسُمعةِ ساكوزي بوصفهِ متحدِّثًا محافظًا صريحًا لم يَرَ سببًا لاعتذار فرنسا عن دورها كقوّة استعماريّة. وكانت تيبازة، القرية الجبليّة المطلّة على المتوسّط، إحدى محطّات تلك الزّيارة. ولا تبرُز تيبازة فقط بمجموعةٍ مذهلةٍ من الآثار الرُّومانيّة، بل أيضًا، بوصفها موقعًا حجَّه كامو مرّاتٍ عديدةٍ في حياته القصيرة.

في اثنتين من أشدّ مقالاته عاطفيّة، «أعراسٌ في تيبازة»، و«العودة إلى تيبازة»، يعبِّرُ كامو عن ارتباطه العميق بالقرية؛ في الأولى، التي كتبها عام 1936 حين كان شاًباً عاطلًا عن العمل بطموحاتٍ هائلةٍ، يصفُ تجربته في تيبازة بمصطلحاتٍ غزليّة صريحة: «كلُّ شيءٍ يبدو عقيمًا هنا عدا الشّمس، قُبلاتُنا وروائح الأرض البرّية... هنا، أترُكُ النّظام والاعتدال للآخرين، ويتشرَّبُني حبٌّ حرٌّ عظيمٌ للطبيعة والبحر كُلِّيَّةً».

عشرون عامًا مضَت والآن كامو يعود إلى تيبازة ككاتبٍ عالميّ مُشكِّكًا في ذاته، وبينما يقتربُ من القرية يتذكّر زيارة قام بها فور انتهاء الحرب العالميّة الثانية، ويشعرُ أنّ الوقائع بدّلت المكان؛ فالجنود والأسلاك الشائكة يحيطون الآن بالأعمدة والأقواس حيث أظهرَتهُ صورة قديمة عاريَ الصدر محاطًا بصديقاته ومبتسمًا. خلال رحلة ما بعد الحرب تلك، بدت روح كامو مسجونةً، ففي الخلف منه ثمّة عالم متوحِّشٌ: «إمبراطوريّات تتداعى، رجال وأممٌ تمزّق حناجر بعضها وأفواهنا ملؤُها القَذارة». وثمّة أيضًا، شبابٌ ولَّى: «على الصّخرة الشّاطئيّة التي أحبَبتُها في الأيّام الخالية، خيِّلُ إليّ أنّي أمشي بين خرائب أعمدة المعبد المبللة وراء خطى بعيدة ما زلتُ أسمَعها على شواهد القبور والفسيفساء، خُطَى لن أتمكَّن من اللحاق بها مرّة أخرى». لكنّ هذه الذّكريات الكئيبة تفسحُ طريقًا لشيءٍ أكثر قدمًا، وفي الآن ذاته «أصغر من أردامنا وأحواضنا الجافّة».

في تلك الزّيارة يكتَشِفُ كامو مقاومة روعة تيبازة الرّاسخة العنيدة لجنون العالم الحديث: «وجدتُ جمالًا قديمًا، سماءً شابّة، وأدركتُ حظِّي في أنّ ذكرى هذه السّماء لم تُفارقني حتّى في أسوأ سنوات جنوننا، وكان هذا ما أنقذني، بعدَ كلّ شيء، من اليأس». في ذلك الوقت كانت الجزائر تترنّح في اتّجاه حربٍ أهليّة، إلّا أنّ كامو لم يأت على ذكرٍ صريحٍ للأحداث التي كانت تجري بالفعل، ويبدو كأنّه يعدُّ نفسه للمستقبل: «لم أكن قادرًا على إنكار الضّوء الذي وُلدتُ فيه، ومع ذلك لم أرغب في رفض مسؤوليّات عصرنا».

وقف الرّئيس ووراءه أعلام البلدين المرفرفة مُحدِّقًا بالبحر بينما يستمع لأحد أعضاء وفده يقرأ فقرةً من «أعراس في تيبازة»، ولربّما كانت «العودة إلى تيبازة»، نصًَّا غير ملائمٍ للمناسبة بسبب غموضه وسياسيته. على أيّة حال، حين انتهى الإنتاج انصرَفَ الممثلون والجمهور إلى سيّاراتهم، وسار الموكب الرئاسيّ إلى محطّتهِ التّالية، تاركًا وراءه بقايا المعبد والسّماء الشابّة، ومتُجرِّدًا من أيّ موقفٍ سياسيّ مثلما هي مقالات كامو في معناها المُراوغ وجمالها الدّفين.

تمضي ثلاثة أعوام، وفي عام 2010 مع اقتراب الذّكرى الخمسين لموته، يعود كامو إلى قلبِ السّياسة الفرنسيّة عندما يقترح ساركوزي نقل رفاته إلى البانثيون.* وعلى الفور تعلو أصوات يساريّة تُهاجم ساركوزي لمحاولته استعادة إرث كامو لمنفعته السّياسيّة وتُصرُّ على بقاء رفاته في القرية البروفنساليّة، لورمارين، التي اكتشفها بعد الحرب وانتقل إليها بمساعدة من صديقه الشاعر «رينيه شار» قبل موته ببضع سنوات. أمّا اليَمين الذي يُصنِّفُ كامو من المحافظين الجدد، عبَّرَ عن صدمته من الاتّهامات، ولكنّ الجدل فرَّقَ بين توأميّ كامو أيضًا؛ فبينما أدان جان سعي ساركوزي لتحويل أبيه لأيقونة يمينيّة، اعتقدت كاثرين، الوصيّة على إرث والدها الأدبيّ، أنّ نقل رفاته إلى البانثيون سُيتوِّجُ رغبته مدى الحياة في التكلُّم باسم من لا صوت لهم.

لا يزالُ رفات كامو يستريح في لورمارين، إلّا أنّ عمله ومغزاه لن يكونا كذلك أبدًا، وذلك يعود جزئيًا لإرثه الجزائريّ. في رواية أليكس سان أندريه «أبي في البانثيون»، تتواصل الحكومة مع ابنة كاتب ميّت يُدعى «بيرجر»، هو صورة محوّرة قليلًا عن أندريه مالرو، والذي قرّر الرئيس الفرنسي دفنه في البانثيون، والدّافع سياسيٌّ بالطّبع. وكما يخبر مدير البانثيون الابنة، لا شيء أقل كلفة من الدفن في البانثيون: «يأتي الطلبة والحرس الجمهوريّ، ونطبع طابعًا جديدًا، وهذا كلُّه لا يُكلِّفُ شيئًا»، والدّعاية للحكومة تكون مجّانيّة، تلقائيّة وساحقة، ومع ذلك، يجبُ التنبُّه: «على العميل أن يكون عميلًا جيِّدًا»، والعميلُ بالطّبع هو المُتوفّى في هذه الحالة، ويكملُ: «بعضُ الكتّاب الكاثوليك مُلتزمين أكثر من اللازم (شارل بيجوي وفرانسوا مورياك)، آخرون شيوعيُّون أكثر من اللازم (لويس آراغون وبول إلوارد) وآخَر لم يَكنْ يَكفِي تمامًا ليُقاتل في المقاومة (آندريه جيد) بينما آخر كان كأنّه رقيقٌ جدًا (مارسيل بروست)، وسارتر؟ انسيه»، يضحك المدير ويقول: «لا يزال دائمًا مخطئًا»، ومن ثم يذكُرُ كامو فقط ليقول إنّه أيضًا فشل في اختبار القبول لأنّ الجزائر أفشلَته.

ثمّة قليل من الكُتّاب الذين صُورِعوا على خلفيّة هويّاتهم الشخصيّة والوطنيّة أكثر من كامو. فقد كان «قدمًا سوداء» (pied-noir)، وهي التّسمية التي أعطيَتْ للمهاجِرين الذين أتوا خلال القرن التاسع عشر والعشرين إلى الجزائر الفرنسيّة من مناطق أوروبيّة مختلفة، وأصبحوا مواطنين في أمّة فرنسيّة لم يتكلّموا لغتها، ولم يعرفوا تاريخها، وربّما لَنْ يطأوا أرضَها أبدًا. ولكن ذلك لم يبد مهمًّا في ذلك الوقت؛ فالجزائر اعتبِرَتْ أرضًا فرنسيّة ولم تكنْ مجرّد أمّة غريبة تحتوي على ملايين العرب والبربر المحرومين من حقوق المواطنة. وبحلول عام 1950، شابَهَ كامو بطَله الأسطوريّ سيزيف، لا بصخرةٍ يدفعُها عبثًا، بَلْ بالمأزِقِ المأساويّ الذي خلَقتهُ المقاومة الجزائريّة للاحتلال الأجنبيّ، الاحتِلال الفرنسيّ.

لسنواتٍ عديدة عَمِلَ كامو على إيجاد حلٍّ لضروراتِ العدالة لكلّ من العرب والمستوطنين الأوروبيين، وفي بعض الأحيان، مخاطرًا بحياته في سبيل سلامٍ مستحيل، وفي ذلك فشل، ودفعه فشله إلى الصّمت؛ صمت حافظ عليه حتّى موته في عام 1960. فبينما لا يزال كامو الجزائريّ محلّ جدالٍ في فرنسا، هنالك توجُّه نحو الإجماع في الجزائر حيث يتزايد الكُتّاب الذين يعتبرونه واحدًا منهم، وعلى وجه الخصوص، منذ منتصف التسعينيات أو ما يُسمّى بالحرب الجزائريّة الثانية بين الحكومة والمتطرّفين الإسلاميين.

فالروائية الجزائرية وعضوة الأكاديمية الفرنسيّة، آسيا جبّار، ألحقت كامو في موكبها للشُّهداء السياسيين الجزائريين، فتكتبُ أنّه: «أحد رسل الأدب الجزائريّ»، روح أخويّة تستدعيها إلى جانبها بينما تُحدِّقُ وتتأمّل في ماضي الجزائر الدمويّ الفوضويّ. وبشكلٍ مشابه، وفي ظلّ جدالاتٍ حول العدد غير الكافي للمساجد في فرنسا، يستدعي الكاتب عبد القادر جمعي، مؤلّف كتاب: «كامو في وهران»، إعجاب كامو بجماليّة المقابر العربيّة البسيطة. وفي زيارةٍ إلى لورمارين، يكتشفُ عبد القادر «أن شاهدة القبر تشبهُ شواهد قبور عائلتي». إلّا أنّ انجذاب الكُتّاب الجزائريين إلى كامو لا يعود لخصوصيّته ككاتبٍ جزائريّ وإنما إلى عالميّة اهتماماته، وهذا سببٌ آخر يجعله يستمرُّ في إرباكنا.

فسواء كان من تيبازة أو باريس، يظلُّ كامو الرّجل الذي تقف حياته كشاهدٍ على نوع من بطولةٍ يائسة؛ إدانته الشديدة لمعاملة فرنسا الجمهوريّة للعرب والبربر، ورفضه القاطع واستنكاره لتشريعات فرنسا فيشي المعادية للسامية، ومعارضته مدى الحياة لعقوبة الإعدام ومساعيه الشُّجاعة للتفاوض على هدنة مدنيّة في الحرب التي مزّقت الجزائر؛ كلُّها أفعالٌ تعكسُ رجلًا اشتغلَ على دمج حياته بفكره، وفي ذلك فشل في بعض الأوقات.

فمثلًا، خلال الشهور الأخيرة من احتلال فرنسا وتحريرها، قمع كامو كرهه الرّاسخ لعقوبة الإعدام، لا مُبرِّرًا فحسب، بل مُطالبًا بإيقاعها بأولئك الذين أدّى تعاونهم زمن الحرب إلى موت رجالٍ فرنسيين. وفي النّهاية، نظرًا لمرونته الأخلاقيّة، عاد كامو لنبذ موقفه معترفًا علنًا بأنّه كان مخطئًا؛ لكنّ قراءة في مقالاته زمن الحرب التي تُطالب بالعدالة السّريعة عديمة الشّفقة من شأنها أنْ تُجمّد الدّم في العروق.

هذه التُناقضات تُذكِّرنا بأنّ كامو، بالطّبع، في النّهاية كان إنسانًا؛ شيءٌ جليٌّ تحجبه، خاصّة الآن، حاجتنا اليائسة للأبطال. وأكثر أهميّة أنها تذكّرنا بأنّ كامو نفسه كان واعيًا لهذه النّقائص، وسعى بأفعاله وكتاباته لإيضاحها وتفسيرها. ففيما يتعلّق بموقفه في زمن الحرب من عقوبة الإعدام، ثمّة محاضرة كامو الاستثنائيّة، في عام 1948 التي اعترف فيها بأنّه كان مخطئًا. ويمكن قراءة روايته القصيرة «السُّقوط»، جزئيًا على الأقلّ، كاعتراف صريح قاسٍ بخياناته الزّوجية خلال زواجه بفرانسين كامو، أو هكذا فهمته فرانسين حين أخبرته عشيّة إطلاق الكتاب بنجاح: «تدينُ بهذا لي».

إنّه القلق المستمرُّ وتعاسة انعدام القدرة على تهدئة أنفسنا بالتبريرات التي نسبغ بها أفعالنا وأفعال الآخرين من حولنا، هذه الهبة اللعينة، لا على إجبار ذواتنا فحسب، بل الآخرين حولنا، على إعادة التفكير بمعتقداتٍ ظنّها المرء دائمًا مُسلَّمًا بها، هو ما يجعل كامو شديد الأهميّة. كان لديه، كما يكتب توني جوت (Tony Judt)، عادة النّظر في مرآة أعبائه الأخلاقيّة الخاصّة، وبدورها كانت حياته وعمله المرآة ذاتها لبقيّتنا. ويقترح توني جوت، أنّ الأخلاقيّ من «لا يجعل الآخرين منزعجين فحسب، بل يُسبِّبُ لذاته المقدار نفسه من انعدام الرّاحة أيضًا».

الأخلاقيُّ غير الواعظ؛ الأخير يملك الإجابة قبل سؤاله السّؤال، بينّما السّابق يملك الأسئلة حتى بعد الاستماع للإجابات المتوافرة. والأسئلة، كما يقول الفرنسيُّون، هي ما يُزعِجُ (déranger)، أو بشكلٍ حرفيّ، يخلقُ الفوضى في النّظام. في هذا السّياق كان كامو أخلاقيًّا؛ فالأسئلة لم تؤدِّ به إلى عزلةٍ وعدميّة، بل دفعته نحو شكلٍ من أشكال اللزومية الأخلاقيّة والتّضامن. كان أخلاقيًّا يُصرُّ على أنّه، وبينما العالم مكانٌ عبثيٌّ لا يترك فُسحةً للأمل، فنحن غير محكومين باليأس. الأخلاقيُّ الذي ذكّرنا، أنّ كلّ ما نملكه في عالمٍ صامتٍ ولا مُبالٍ هو بعضُنا البعض: «تحرّيتُ فقط أسباب تجاوز عدميّتنا الأشدُّ قتامةً. وأضيفُ، لا بالفضيلة ولا لتسامٍ روحيّ نادر، ولكن من إخلاص غريزيّ للضوء الذي وُلدتُ فيه، والذي فيه لآلاف السنين تعلّم البشر عناق الحياة حتّى في المعاناة… لأحفاد الإغريق المستمسكين بإرثهم وإن لم يستحقُّوه، قد يرون في تاريخنا حرارة حارقة لا تُحتمل، ومع ذلك يتحمَّلونها لأنّهم يريدون فهمها. في وسط عملنا، ورغم أنّه قد يكون مظلمًا، تشرقُ شَمسٌ لا تنضَبْ، ذاتُ الشّمس التي تصيح اليوم عبر التّلال والسّهول».

لتجربة المعاناة مركزيّة في حياة وعمل الأخلاقيّ، ومن المؤكّد أن هذه القناعة كانت في باطن افتتاحيّة مقالة كامو المُبكّرة «أسطورة سيزيف»: «الحكم على ما إذا كانت الحياة تستحقُّ أن تعاش يَرقى ليكون سؤال الفلسفة الأساسيّ»، ويبقى هذا السّؤال، لكثيرين منّا، وربّما لأولئك غير الواعين بانتمائهم لهذه الفئة، السّؤال المركزيّ لحيواتنا. هل حيواتنا المملوءة حتمًا بالخسارة والألم، تستحقُّ أن تعاش؟

لم يساور الإغريق القدامي، مصدر إلهام كامو العميق، أيُّ شك: «للمعاناة فضائلها»؛ مثلما جعل معشوق كامو، إسخيلوس، جوقته تنشد في الأوريستيا «يجبُ أن نعاني، حتى تتكشّف لنا الحقيقة». وتنطبق ملاحظة مارثا نوسباوم، عن الدّور التربويّ للمعاناة في التراجيديا الإغريقية على حالة كامو: «ثمّة نوع من المعرفة يكون عبر المعاناة، لأنّ المعاناة هي الاعتراف الملائم بماهيّة الحياة البشريّة في هذه الحالات».

تكمن عبقرية التراجيديا الإغريقية في رفضها الإجابات أو الحلول، وبدلًا من ذلك، تكون قيمتها في قدرتها على «وصف ورؤية الصّراع بوضوح والاعتراف بأن لا مخرج، وأفضل ما يمكن للفاعل أن يفعل هو أن يحظى بنصيبه من المعاناة التي هي تعبير طبيعي عن شخصيّة خيّرة، وأن لا يخنق هذه الاستجابات بدافع التفاؤل المخادع».

تنطبق هذه الملاحظة على حياة وعمل كامو، ولكن بالطّبع لا بُدّ من الحذر. فالمعاناة لم تكن استجابة كامو للعالم بقدر ما لم يكن الاعتراف بعبثيّة حالتنا الإنسانيّة استجابة كافية. فكما تُبيِّن وبسطوةٍ ساحرة، مقالاته المبكرة كـ«أعراس في تيبازة»، وعمله الأخير «الرّجل الأوّل»، فكامو أحبّ العالم، ولم يكن مُرتاحًا لأولئك اللامُبالين تجاه جماليّته، لا يبصرون الجاذبيّة الحسّية للمشاهد الطبيعيّة المتوسّطية الأصيلة، وعديمو الإيمان بإخوتهم البشر.

أن تكون أخلاقيًّا، كما فهم الأبيقوريّون، يعني أنّ على المرء أن يكون حسّيًا. لم يكن الأمر مجرّد واقع معاناته الشخصيّة، بل تجذُّره العميق في عالمنا هو ما سمح لكامو بأن يعلن، دونما أيّ لمحةٍ عاطفية، أنّه «رغم أنّي في عمق الشّتاء، تعلّمت أخيرًا، أنّ في داخلي صيفٌ لا يندَحِر».


* مقبرة العظماء، أو البانثيون: هي مبنى يقع في الحيّ اللاتينيّ في باريس. تضمُّ المقبرة رفات بعض العظماء الفرنسيين، كجان جاك روسّو، فيكتور هوغو، ماري كوري، إميل زولا وغيرهم من الكُتّاب، الشُّعراء والعُلماء الفرنسيين الذين يُعدُّون رموزًا وطنية فرنسية. (المترجم)