النهاية*

نص لألينكا زوبانجج**

*Alenka Zupančič, “The End,” Provocations 1 (2016), pp. 1-9.

**الفيلسوفة والمحللة النفسية السلوفينية، تُشكل رفقة سلافوي جيجك ومِلادن دولار ما يسميه جيجك بـ «الترويكا السلوفينية».

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


ألينكا زوبانجج، عن rtvslo

إحدى السُبل التي يمكن أن نتناول بها بعض المسائل الهامة التي يناقشها كتاب فرانك رودا القضاء على الحرية[1] هي طرح السؤال التالي: أية علاقة بين التكرار والنهاية؟  فكرة التكرار (Repetition) فكرة فلسفية واسعة ومعقدة؛ وهي أيضًا واحدة من «أربعة مفاهيم أساسية في التحليل النفسي»، كما يوحي عنوان سيمنار جاك لاكان الشهير.[2] وكذلك هي موضوعات النهاية (نهاية العديد من الأشياء، كالفن والتاريخ، وأيضا التوقعات القياميّة «الأبوكاليبسّية» الأشد راديكالية، بما فيها توقعات «الفناء الكامل») إذ لها، هي الأخرى، أصداء ذات حمولة فلسفية (وتحليلية نفسية) ثقيلة. ونظرًا لذلك، لا يمكن لمحاولتنا المتواضعة هنا للحديث عن العلاقة بينهما -وللحديث عنها على نحو قصصي بدرجة ما- إلا أن تترك في القارئ انطباعًا كوميديًا. لكن لا بأس في أن يكون ذلك هو الحال. ما يلي من النص ليس تعقيبًا على كتاب رودا، وإنما هو أشبه بطبق فلسفي خفيف إلى جانب الطبق الرئيسي المتمثل في الكتاب، يتواصل مع بعض خلاصاته ويتحاور معها خاصة تلك المتعلقة بنهاية التكرار وتكرار النهاية. إن من علامات عظمة نص ما، أن تخطر على بال المرء كل ضروب الأفكار (الإضافية) أثناء قراءته له. وما يلي هو عرض لبعض الأفكار التي أتتني أثناء قرائتي لكتاب رودا.

توجد علاقة متأصلة بين التكرار والنهاية في العديد من ظواهر التكرار وفي العديد من ظواهر النهاية. ليست النهاية شيئًا يُنهي التكرار (أو الإدامة التكرارية لشيء ما) ببساطة، وإنما هي، أي النهاية، مُضمّنة في (أو مُدامة بواسطة) التكرار نفسه. ولبيان ذلك دعونا نبدأ بالنظر في شكلين لهذه العلاقة المتأصلة بين التكرار والنهاية. وهذان الشكلان ليسا، بأي حال من الأحوال، الشكلين الوحيدين لها، بالطبع، لكنهما الأكثر شيوعًا مع ذلك. ويمكن للشكل الأول أن يوضع تحت العنوان التالي:

1.   «بمقدوري أن أنهي الأمر وقتما أشاء فعل ذلك!»

جميعنا، على الأرجح، على معرفة بتلك الوضعية التي تكون فيها إمكانية إنهاء ما نفعله هي نفسها شرط تكرارنا له. سواء كان ذلك علاقة مع شخص ما (بمشاهدها ومشاقها المتكررة) أو عادة (سيئة كالتدخين)، نقول إننا «لا نملك فحسب القوة/الإرادة اللازمة لإنهائها». وهو القول الذي يعني أن بـإمكاننا إنهائها، التوقف عنها. والكلمة المفتاحية هنا هي إمكانية. فالإمكانية هي تحديدًا ما يسمح لنا هنا بألا نبادر بالفعل (فعل الإنهاء والتوقف في حالتنا هذه). لماذا نتكبد العناء الآن، نقول لأنفسنا، يمكن للأمر أن ينتظر. إن مجرد إمكانية القيام بالفعل تفي بالغرض، تغنينا عن القيام به. مثال ساخر ولطيف على هذا المنطق، نجده في واحد من فصول فيلم Monty Python’s The Meaning of Life،  مونتي باثون: معنى الحياة  (تيري جونز، 1983). يبدأ الفصل بأغنية ‘Every Sperm is Sacred’، «مقدس هو كل حيوان منوي» الشهيرة، تؤديها عائلة كاثوليكية تشتمل على عدد ضخم بشكل هزلي من الأطفال. ثم تتحول الكاميرا إلى زوج بروتستانتي يشاهدان العائلة الغفيرة من وراء نافذتهما، ويعقّبان على المشهد. «كاثوليك ملاعين»، يقول الزوج. «لكن لماذا لديهم هذا العدد الهائل من الأطفال؟» تسأل الزوجة، فيجيبها زوجها قائلًا، «لأن مع كل جماع يتحتم عليهم أن يحصلوا على مولود [لأن كل حيوان منوي مقدس، عندهم، ولا يجوز إهداره]» يُصيبها جوابه بالحيرة، فترد قائلة، «لكن هذا هو نفس حالنا. فلدينا طفلان وقد تضاجعنا مرتين». «هذا ليس المقصد»، يرد الزوج، «فلقد كان بوسعنا أن نفعل ذلك وقتما شئنا»، ويمضي المشهد والزوج يتفاخر بأن دينهم يجيز لهم استعمال العوازل الذكرية، حتى تلك التي تعزز اللذة. «هل لديك واحدٍ منها؟» تسأل الزوجة. «حسنًا، لا، ليس لدي»، يجيب الزوج، «لكن بمقدوري أن أنزل إلى الشارع وقتما أشاء، وأدخل صيدلية هاريس، وأرفع رأسي عاليًا وأقول بصوت عالٍ وواثق: هنري، أريد أن ابتاع عازًلا ذكريًّا، بل اعطني واحدًا مضلعًا اليوم، فأنا بروتستانتي!». «حسنا، لماذا لا تفعل ذلك؟» سألته الزوجة دونما حشمة...

وبنفس المنطق، يمكن لإمكانية إنهاء (إيقاف) شيء ما أن تكون هي تحديدًا ما يجعلنا ننخرط فيه ونُديمه. ولأن مسألة النهاية مُبنيَنة هنا بصفتها إمكانية، بوسعنا، بالطبع، أن نجعل تحقيقنا هذا جزءًا من تحقيق أوسع. وهو تحديدًا تحقيق رودا لمسألة الحرية، الذي جادل فيه بأن: الحرية بصفتها إمكانية، مقدرة، قوة (ممثًلا عليها بحرية الاختيار) هي أقوى مضاد للحرية الفعلية. لقد غدت الحرية (بصفتها إمكانية/مقدرة) دالًا على نقيضها، على الإكراه والتقييد، وهو الأمر الذي يقترح رودا مواجهته بما يسميه بـ «القدرية الهزلية» (comic fatalism). ولقد صاغ العديد من الشعارات المعبّرة عن هذه القدرية، وبعضها يستدعي فكرة النهاية على نحو مباشر: فهي تشير إلى أن أحد المخارج التي يمكن من خلالها الإفلات من هذه الحرية-كـ-إكراه هو التصرف كما لو أن النهاية قد وقعت بالفعل (كالشعارات التالية: «تصرف كما لو أن القيامة قد قامت!»، «تصرف كما لو أنك ميت!»، «تصرف كما لو أن كل شيء قد ضاع بالفعل!»). وعليه، إذا ما أردتَ أن تُنهي علاقة سيئة، تصرف كما لو أنك أنهيتها بالفعل. أو، وهنا قد يفلح الأمر على نحو أفضل حتى، إذا ما أردت أن تتوقف عن التدخين، تصرف كما لو أنك قد توقفت بالفعل (وأعلن، «بأثر رجعي»، أن السيجارة التي دخنتها منذ نصف ساعة خلت قد كانت سيجارتك الأخيرة بالفعل ...). لكن المشكلة، التي قد تحتاج ربما منا إلى المزيد من الاهتمام، تتعلق بتلك الـ als ob (كما لو) نفسها، وبحدودها. فهذه المقولة العقلية الكانطية الشهيرة لها مخاطرها، ولذلك تعين على كانط، في نسقه الأخلاقي، أن يكّملها بتلك الإحالة التوتولوجية (الحشو، تحصيل الحاصل) تمامًا على الواجب باعتباره الحافز (الوحيد) للقيام بالفعل الأخلاقي. وبعبارة أخرى بسيطة للغاية: بالرغم من أن صيغة كما لو (als ob) تخبرنا بالكيفية التي ينبغي أن نتصرف وفقها، إلا أنها تعجز عن منحنا «الدفعة» (Triebfeder) التي من شأنها أن تمكننا عمليًا من التصرف على هذا النحو في واقع الأمر. أجل، بمجرد ما أتصرف فعليًا كما لو أن أنني قد توقفت (عن التدخين) بالفعل، ربما يفلح الأمر. لكن يظل السؤال قائمًا: كيف يمكنني عمليًا أن أتصرف كما لو أنني قد توقفت بالفعل؟ يبدو أن ثمة فجوة صغيرة لكن خطيرة هنا... 

علاوة على ذلك، عندما نشدد على «الإمكانية» باعتبارها المشكلة الرئيسية في مثل هذا الوضع، ينبغي علينا أن نتحلى بالحذر ونضيف التالي مؤكدين عليه: بمجرد ما أن تدخل الإمكانية إلى اللعبة وتبنينها، ينبغي على المرء أن يقاوم فهم المسألة أو عرضها من جهة الإمكانية في مقابل التحقق الفعلي، أي من جهة المقابلة بين إمكانية ما وتحققها فعليا. لأن هذه بالتحديد هي الكيفية التي تعمل بها الحرية كإكراه في الواقع العملي. إنها تعمل وفقا لمنطق الـأنا الأعلى (الـ Super Ego)، الذي يُعرّفه سلافوي جيجك، باقتضاب شديد، بوصفه قلبًا للمنطق الكانطي: من «يتعين عليك، لذا أنت تستطيع» إلى «أنت تستطيع، لذا يتعين عليك». فالإمكانيات هنا ينبغي أن تُغتنم وتُحَقق بكل السُبل ومهما كان الثمن: أنت تستطيع فعل ذلك، لذا يتعين عليك أن تفعله! إن ثقافة (واقتصاد) الإمكانيات ليست خانقة لأن ثمة كمًا هائلًا من الإمكانيات وحسب، وإنما لأنه يفترض منا ألا نضيّع أي واحدة منها. فالشخص الذي يمكث في بيته مستمتعا فحسب بالتفكير في جميع الإمكانيات والفرص التي توفرها له الرأسمالية من دون أن يفعل أي شيء لتحقيقها، ليس هو نوع الأشخاص الذي يحتاجه النظام الرأسمالي. فما يُنتظر منّا فعله هو أن نحقق أقصى قدر ممكن من هذه الإمكانيات (أن نفعل)، لكن لا يُنتظر منّا أبدًا أن نضع إطار هذه الإمكانيات بوصفها إمكانيات في موضع المساءلة. وهذا هو تحديدًا الموضع الذي يجب أن تموضع الحرية «الفعلية» فيه: ليس ببساطة في التحقيق الفعلي للإمكانيات وإنما في («فك») الإطار المبني على فكرة الحرية بصفتها إمكانية ينبغي تحقيقها. ولقد أبان رودا عن هذه النقطة في كتابه بكل وضوح.

وحتى نجعل هذه الفكرة أشد وضوحًا، ربما ينبغي علينا أن نضيف التالي: الزوج البروتستانتي المذكور آنفًا من فيلم معنى الحياة ليسا، يقينًا، مستهلكين مثاليين، ولم يَعلَقا (بعدُ) في شَرَك الأنا الأعلى الآمر بالمتعة (استمتع!).[3] فما يكشفان عنه، هما ورد فعلنا حيالهما، هو تحديدا خطر الانزلاق إلى استنتاج متعجل من شأنه أن يزيد من متانة المنطق «الرأسمالي»، وهو الاستنتاج التالي: عندما يعملان على تحقيق تلك الإمكانيات المتاحة لهما، سيصيران أحرارًا بالفعل. فهذا لن يكون هو الحال حينها بالطبع. أو بعبارة أخرى: ليست المشكلة أنهما لا يفعلان بالرغم من أن بوسعهما ذلك، وإنما هي: لو أنهما فعلا فسيكون فعلهما هذا عالقًا في ذلك المنطق العنيد للحرية بصفتها تحقيقًا للإمكانيات— المنطق الذي لا يملكان (هما ولا «حريتهما») عليه إلا تأثيرًا ضئيلًا للغاية. على أية حال، لقد ضربنا بهما المثل، في المقام الأول، من أجل توضيح منطق العلاقة بين التكرار والنهاية الذي افتتحنا به مقالتنا: بوسعهما أن يواصلا ممارسة طهرانيتهما [التورع عن الجماع]، لأنهما يعتقدان أن بوسعهما التوقف عنها [شراء العوازل المضلعة بهامة مرفوعة] وقتما يشاءان فعل ذلك...

والآن دعونا نعود إلى بداية هذا الاستطراد، إلى الاقتصاد (الاقتصاد السيكولوجي، «الترتيبات الصغيرة داخل نفسية المرء») الذي يحكم تكرارنا لشيء ما وإمكانية إنهائه. ولأن، ثمة اقتصاد يعمل عمله هنا، بكل وضوح، اقتصاد يسمح لي، على سبيل المثال، بأن أواصل التدخين، بينما إمكانية الإقلاع موجودة هنا لا لشيء إلا لكي تساعدني على التدخين مزيدًا، بوسعنا أن نطرح السؤال التالي: كم من الناس، يا ترى، سيشرع في التدخين لو أن الدولة، وعوضًا عن وضع تحذيرات وتهديدات وصور مقرفة على علب السجائر، سنّت قانونًا ينص على أنه إذا ما شرع المرء في التدخين لن يسمح له بالإقلاع عنه أبدًا. بمجرد ما أن يشرع في تدخين أول سيجارة، يُقضى الأمر، ويتعين عليه أن يظل مدخنًا حتى آخر العمر؟! وعليه، فإن البنية التي نتعامل معها هنا في هذا الشكل الأول للعلاقة بين التكرار والنهاية يمكن تعريفها على النحو التالي: نحن نقترب، على نحو لا نهائي، من النهاية كحد (بإرجائها، تأجيلها)؛ لكن هذا الحد ليس موجودًا ببساطة هناك، عند انتهاء كل شيء، كما يبدو لنا، وإنما هو -بصفته إمكانية-أيضا الشرط الضروري لحركة التكرار نفسها، هو الذي يبنينها بطريقة ما... وهو الذي يشتري لنا، أيضًا، حرية التمتع بما نفعله أيّا كان. وهو أيضا الذي يبنين متعة إنهائنا له. ذلك لأنه ينبغي لنا ألا نغفل عن أن المتعة هنا ليست موجودة ببساطة في فعل التدخين نفسه فحسب؛ وإنما هي موجودة، وبنفس القدر على أقل تقدير، في تأجيل نهايته وإرجاءها كذلك (كمتعة مطلقة). وبالتالي ثمة اقتصاد على المحك هنا، لكنه ليس الوحيد. فالشكل الآخر للعلاقة بين التكرار والنهاية، ربما يكون أكثر تشويقًا وإثارة للإهتمام حتى من هذا الشكل الأول، وهو الذي يمكن لنا أن نضعه تحت العنوان التالي:

2.   «هذه هي النهاية. هذه هي آخر مرة أفعل فيها ذلك».

لكي أشرح هذا المنطق (بالإضافة إلى قِلة من الأشياء الأخرى، التي يتعلق بعضها على نحو مباشر بمسألة «القضاء على الحرية»)، دعوني أستشهد بمرجع أدبيّ: رواية La conscienza di Zeno (ضمير زينو، كُتبت في 1923) لإتالو سفيفو.[4] وسفيفو (الاسم الأدبي لهارون هيكتور شميتز) هو كاتب ورجل أعمال إيطالي عاش في تريستا، وكان صديقًا مقربا لجيمس جويس (المسؤول، في واقع الأمر، عن الشهرة المستحقة لهذه الرواية، التي مرت على الناس مرور الكرام حينما نُشرت أول مرة).

تصور رواية ضمير زينو، وعلى نحو رائع، نمط آخر ممكن من الاقتصاد الموجود على المحك في العلاقة بين التكرار والنهاية. والكلمة المفتاحية هنا – حتى نواصل استخدام مثال السجائر، التي تمثل مركز الرواية كذلك – ليست هي: «في وقت ما سأقلع عن التدخين، لكن ليس الآن» وإنما هي: «هذه السيجارة، هي آخر سيجارة سأدخنها»، هي الـ ultima sigaretta، السيجارة الأخيرة. (وكما يلاحظ زينو، لكي يؤكد جيدًا على عزمه، يفضل المرء أن يُنهي التدخين مع نهاية شيء آخر: نهاية الشهر أو السنة على سبيل المثال. وبالتالي ثمة بُعد مثير للاهتمام من أبعاد التكرار ذي صله بالنهاية نفسها. تكرار النهاية: نهاية التدخين +نهاية الشهر أو السنة).

بالطبع، لا يوجد مذاق أحلى من مذاق الـ ultima sigaretta، السيجارة الأخيرة. وإليكم تأمل زينو حول هذا الأمر، حيث يقارنه كذلك بالشكل الآخر للعلاقة بين التدخين والإقلاع (الإقلاع كإمكانية مستقبلية):

أعتقد أن مذاق السيجارة يكون أشد قوة عندما تكون سيجارتك الأخيرة. السجائر الأخرى لها مذاقها الخاص أيضًا، لكنه أقل قوة. فالسيجارة الأخيرة تكتسب نكهتها من شعور المرء بالانتصار على نفسه ومن الأمل في مستقبل قريب مفعم بالصحة والعافية. أما السجائر الأخرى فهي ذات شأن لأنك، بإشعالها، تجهر بحريتك، بينما تدفع بالمستقبل المفعم بالصحة والعافية إلى الأمام قليلًا.[5] 

إن كون سيجارة ما هي «السيجارة الأخيرة» يضيف شيئًا ما إلى مذاقها. يجعلها أحلى سيجارة على الإطلاق، يجعلك تستمتع بها حق المتعة. وبناءً عليه، قد يكون التصرف المثالي هو أن تفكر في كل سيجارة باعتبارها السيجارة الأخيرة، وأن تستمتع بها طبقا لذلك. لكن، وهنا يكمن العائق، لكي تفلح هذه الحيلة يتعين عليك أن تعتقد حقًا في أنها هي السيجارة الأخيرة، في أن هذه هي النهاية. أو بعبارة أخرى، يتعين عليك أن تكون عُصابيًّا (مثل زينو بطل الرواية الذي كان كذلك يقينًا)، إذ أن الاقتصاد الحاكم هنا ليس، كما كان الحال في شكل العلاقة الأول، اقتصاد الترتيبات الصغيرة داخل نفسية المرء. فمن ناحية اقتصاد المتعة، لن يمكنك أن تنفع نفسك هنا بأن تتصرف كما لو أن هذه السيجارة هي سيجارتك الأخيرة. لا يمكنك أن تقول لنفسك «سأدخن هذه السيجارة كما لو كانت سيجارتي الأخيرة، وبذلك سأستمتع بها بقدر أكبر من المتعة». وإنما لا بد للأمور أن تجري على هذا النحو: أنت تريد حقًا أن تقلع عن التدخين؛ وتفعل كل ما في وسعك من أجل تحقيق ذلك (وقد مضى زينو هنا إلى بعض الحدود القصوى حقًا، بما فيها تدبير خطفه وحبسه في مستشفى)؛ لكن ينتهي بك الحال بمراكمة سيجارة أخيرة وراء سيجارة أخيرة، أي ينتهي بك الحال بـتكرار النهاية، على نحو لا نهائي—والاستمتاع بذلك، وإن كان على عكس مشيئتك. أي أن الاقتصاد هنا هو، بكلام دقيق، اقتصاد لاواعي، أو هو، بكلام أكثر دقة، اقتصاد اللاوعي.

لا عجب، إذن، في أن تكون رواية ضمير زينو، في واقع الأمر، رواية «عن» التحليل النفسي. فهي تتألف من مذكرات زينو، التي يلعب فيها هوسه (obsession) بالتدخين وخضوعه للتحليل النفسي في سبيل التخلص منه دورًا بارزًا. فكما نقرأ في «المقدمة»، التي يُزعم أنها قد كُتبت بقلم محلله النفسي، الذي أرسل إليه زينو مذكراته في مرحلة ما، وقرر أن ينشرها «انتقامًا» منه لكونه قطع علاجه قبل الفروغ منه وحرمه بذلك من ثمار الجهد الكبير الذي بذله في تحليله.

في شكل العلاقة الأول كانت النهاية (كإمكانية) متأصلة في التكرار، أما في هذا الشكل فـالتكرار هو المتأصل في النهاية؛ إذ ثمة شيء ما في النهاية نفسها يقود إلى التكرار، والتكرار هو، في الأساس، تكرار للنهاية.

وعندما نفكر في التكرار من هذا المنظور، سنجد أنفسنا أمام نوعين من النهاية: النهاية التي تكرر نفسها (وبالتالي هي متحدة مع التكرار)؛ والنهاية التي يمكن لها أن تضع، في نهاية المطاف، حدا لهذا التكرار (للنهاية).

وبالتالي سيبدو لنا أن ثمة نهاية عند كلٍ من جانبي التكرار؛ وأن ثمة تكرارًا عند كلٍ من جانبي النهاية، وذلك بما أن وضع حدٍ للتكرار نفسه (بصفته تكرارًا للنهاية) لا يُعدّ وضع حدٍ لهذه النهاية (المتكررة) وحسب، وإنما يُعد أيضًا تكرارًا لهذه النهاية، «إنجازًا» لها، إذا جاز لنا القول.

وعلى سبيل الاستطراد، ألا يسعنا القول بأن الأطروحة الهيجلية الشهيرة عن «نهاية الفن»،[6] مُبنينة وفق هذا الشكل من التكرار بالضبط، أي كتكرار لا ينقطع للنهاية؟ في كتابه الإنسان الذي لا محتوى له،[7] أخذ جورجيو أجامبين، على محمل الجد، دعوى هيجل القائلة بأن الفن قد استنزف مهمته الروحية، وأن الروح لم تعد تعرف نفسها، في الأساس، من خلال الفن.[8] لكن ذلك لا يعني القول إن أجامبين يحاجج عن أن هيجل قد نعا الفن، قد أعلن عن «موت الفن» (كما تُؤل أطروحته عادة). وإنما هو يحاجج، عوضًا عن ذلك، عن أن هيجل لم يعلن عن أن الفن قد مات وإنما عن أنه مستمر في الوجود إلى ما لا نهاية، ولكن في شكل «إلغاء ذاتي» (self-annulling). والحال أن هذه الاستمرارية اللانهائية في شكل «إلغاء-ذاتي» لتتطابق، في واقع الأمر، مع تكرار النهاية الذي نصفه هنا. إن الفن ينتهي، مرة بعد مرة، مع كل مشروع فني («جديد») ذي بال...

لكن دعونا نعود إلى زينو. إنه مرتاب بشدة في تحليله النفسي، في ما يمكن لهذه التحليل أن يحققه وفي كيفية حصول ذلك، ومرتاب أيضًا في محلله النفسي لكن يبدو أن هذا المحلل قد أصاب، بالرغم من ذلك، في بعض الأمور. أحدها، أن مرض زينو لم يكن التدخين نفسه (كما يعتقد زينو)، وإنما هوسه بالتوقف عنه (أو قل، إن زينو كان، في واقع الأمر، شغوفًا بالتدخين وبالإقلاع عن التدخين بنفس القدر). وعليه، فإن السؤال الحقيقي ليس هو: لماذا يدخن زينو بهذا القدر؟ وإنما هو: لماذا يريد أن يقلع عنه، «ينهيه»، بهذه الشدة؟ إن مركز مرض زينو (بكل أبعاده الهزلية) يكمن هنا، وليس في تدخينه ببساطة.

ولذلك، في مرحلة ما، قرر المحلل النفسي أن يجرب إستراتيجية جديدة: لقد قال لزينو إنه لا يوجد سبب يدعوه إلى الإقلاع عن التدخين:

وهاكم كلامه بالحرف: التدخين ليس ضارًا بك، ولو كنت مقتنعا بأنه ليس ضارًا، فلن يكون ضارًا في واقع الأمر. ثم تابع قائلًا: والآن، بما أن علاقتك بأبيك قد تكشّفت وأخضِعت لحكمك كراشد، يمكنك أن تتبين أنك قد انخرطت في هذه الرذيلة من باب التنافس مع أبيك؛ وأنك قد عزوت إلى التبغ تأثيرًا سامًا بسبب شعورك الأخلاقي اللاواعي الذي يريد أن يعاقبك على منافستك له.

وفي ذلك اليوم، غادرت منزل المحلل النفسي وأنا أدخن كمدخنة.[9]

وهكذا قدم له المحلل تفسيرًا شافيًا لاعتقاده في أن التدخين ضار جدًا به، لكن النقطة التي أود أن أشدد عليها هنا هي أن طرح المحلل (التدخين ليس ضارًا بزينو) يرمي، في واقع الأمر، إلى تمزيق كلا الاقتصادين المتضمنين في العلاقة بين التكرار والنهاية التي نناقشها هنا. ليس فقط الأمر اللحوح بالتوقف على الفور (الاقتصاد الثاني) وإنما أيضًا إمكانية التوقف في وقت لاحق (الاقتصاد الأول). فما فرضه على زينو بتفسيره هذا هو الحرية المطلقة في التدخين، وهو ما لا يطوح بالأمر بالتوقف وحسب وإنما يطوح أيضًا بالسبب الذي يبنين إطار التدخين نفسه، إمكانية التوقف عنه. لا توجد نهاية مرئية هنا، لا توجد نهاية يمكن تكرارها (الاقتصاد الثاني)، أو الاقتراب منها إلى ما لا نهاية (الاقتصاد الاول). ليس ثمة حاجة إلى النهاية على الإطلاق. والحال أن ذلك قد غير بنية الوضع على نحو راديكالي، وأثر على زينو بشدة، كما هو متوقع. لقد مضى يدخن كمدخنة لمدة من الزمن، ثم خلص إلى أن: «تدخيني بحرية وقتما شئت قد ألقى بي، أخيرًا، في اكتئاب كامل. فأتتني حينها فكرة حسنة: ذهبت إلى د. باولي»[10] (د. باولي دكتور «حقيقي»، طبيب، أراد منه زينو بشدة أن يجد له سببًا عضويًا لحالته العُصابية، مرض حقيقي وليس مرضًا خياليًا، على حد قوله).

لكن د. باولي لم يقدم له العون. إذ لم يجد في زينو أية عِلة جسدية قد تريحه. لكن فيما بعد -حتى نختصر  القصة- وجد زينو، في نهاية المطاف، مخرجًا من محنته: لم يعد قط إلى المحلل النفسي، وبذلك أنهى تحليله. هو لم يفعل ذلك على نحو حاسم ومهيب؛ وإنما راح يؤجل فحسب ذهابه إليه، إلى أن تبين له بعد فترة أنه قد أنهاه. وبفعله ذلك، توقف عن التدخين كذلك: «لقد تمكنت أخيرًا من العودة إلى عاداتي الحلوة، وأقلعت عن التدخين. وأنا بالفعل في حال أفضل بكثير منذ أصبحت قادرًا على القضاء على تلك الحرية التي اختار هذا الدكتور الأحمق أن يكفلها لي».[11] هنا نلقى فكرة رودا في أشد صورها حرفية: «القضاء على الحرية» (حرية التدخين في هذه الحالة) يمكن له أن يكون ذا مفعولٍ تحرريًا كبيرًا (التحرر من عادة التدخين). يا له من مثال لطيف حقًا حري به أن يضاف إلى قائمة رودا! الشيء المثير للانتباه أيضًا في كلمات زينو هنا، هو قولها ضمنيًا بأنه يمكن للمرء أن يقضي فحسب على الحرية المُعدّة لوضع بعينه (ولظروف ملموسة). أو بعبارة أخرى: لا بد للحرية المجردة التي تقيدنا أن تتحول أولًا إلى شكل (مجسد) ملموس، ووحده هذا النبذ لشكل مجسد وملموس للحرية المجردة يمكن له، في نهاية المطاف، أن يضعنا على طريق الحرية الملموسة. فنحن لا نصل ببساطة إلى الحرية الملموسة عن طريق نبذ/القضاء على الحرية المجردة، وإنما عن طريق قولنا لا في وجه وجود ملموس لهذه الحرية المجردة. إن طرح المحلل النفسي («لك حرية التدخين») يكشف بنجاح عن حدود الحرية المجردة في هذه الحالة: الاستحالة المُقنّعة بواسطة الاختيار (المزيف) بين التدخين وعدم التدخين. ذلك بما أن هذا الاختيار ليس، كما هو واضح، ما هو على المحك بالنسبة لزينو: فهو يكرر فشل هذا الاختيار، الفشل بحد ذاته، لكي يمسك بما هو على المحك. إن الأمر بالتدخين والأمر بالإقلاع عن التدخين يأتيان من نفس المصدر، ولهما نفس البنية، ويحميان بعضهما بفاعلية (ويحافظان على نواة الكبت النشطة المسببة لعصاب زينو). وعلى نحو مشابه، الحرية المجردة، بصفتها حرية اختيار، هي شكل الوجود نفسه الذي يمكن لـأمر ما أن يتخذه: على سبيل المثال، حرية الاختيار بين منتجات مختلفة هي شكل وجود الأمر بالشراء...

في النهاية، اعتقد زينو أن ما شفاه، أخيرًا، ليس هو العلاج النفسي وإنما إنهائه له. وهو محق في ذلك تمامًا. لكن بعيدًا عن التشكيك في الممارسة التحليلية التي أدت إلى هذه النهاية، يمكن لواقع كونه قد شفي، على نحو معجز، في اللحظة التي توقف فيها عن الذهاب إلى التحليل، أن يُنظر إليه، عوضًا عن ذلك، كاستعراض لتحليل تم بنجاح. هذه، على الأقل، إحدى القراءات الممكنة. إذ بمقدورنا أن نطرح السؤال التالي: أليس من الممكن القول بأن هوس زينو بالنهاية (فكرة أن عليه أن يتوقف عن التدخين، والتي كانت نواة مرضه وليس مجرد التدخين نفسه) قد تحول بنجاح إلى عُصاب تحويلي (transference neurosis)؟ وهذا الأخير يعرّفه فرويد بأنه مرض مُصطنع يحدث كاستمرار مباشر للمرض «الأصلي»، ويحمل نفس خصائصه، فيما عدا أنه يكون في متناول التدخلات التحليلية [أي يمكن علاجه بيسر]، وذلك لأن المريض يؤديه (act out) في وضعيات التحويل (transference)، وفي العلاقة مع المحلل النفسي [التحويل، باختصار شديد، هو انفعالات المريض ومشاعره وسلوكياته حيال المحلل النفسي، أثناء عملية التحليل، والتي لا يكون المحلل النفسي هو موضوعها الأصلي وإنما يكون شخص آخر تمامًا هو موضوعها الأصلي (كالأب أو الأم أو الزوج أو الزوجة وهكذا)، لكن المريض يحولها من هذا الشخص المعني بها في الأساس إلى المحلل النفسي. والعصاب التحويلي هو أعراض العصاب التي يؤديها المريض بين يدي المحلل النفسي، في سياق علاقتهما التحويلية، كامتداد لعصابه الأصلي].

والحال أن زينو قد أعرب، بالفعل، في مرحلة ما، عن أنه قد دخل في العصاب التحويلي. فمثقًلا بالشك، بعدما قضى وقتًا طويلًا في التحليل، في أنه قد أضحى، بأي حال من الأحول، أكثر قربًا من العافية، كتب: «صدقًا، أعتقد أنني، وبفضل مساعدته [المحلل]، قد أدخلت على وعيي، أثناء دراستنا له، بعض الأمراض الجديدة».[12]

أجل، هذا هو الحال بالفعل، لكن هذا هو تحديدًا ما يُفترض له أن يحدث. وهذا المرض الجديد من اليسير التعافي منه، لأن المرء يكون بوسعه أن يتدخل فيه. وبفعل ذلك، على نحو فعّال، يختفي المرض الأصلي كذلك، أو على الأقل يضعف تماما. هذه هي – على الأقل، وإجماًلا- النظرية. وهذا ما يبدو قد حدث لزينو: لقد توقف عن التحليل وتوقف، كما لو كان ذلك نتيجة طبيعة تمامًا، عن التدخين كذلك (أو بالأحرى: توقف عن إنهائه، ومن ثمّ، توقف عن فعله). بإنهاء تحليله، قام زينو بـتكرار النهاية حرفيًا؛ تكرار النهاية «الأخرى»، النهاية التي استمر في تكرارها من دون أن يكررها، النهاية التي استمر في تكرارها «سدى». [إنهاء التحليل، التوقف عن التحليل، يعني إنهاء محاولات إنهاء التدخين، يعني التوقف عن محاولة التوقف عن التدخين، عن نهاية التدخين، التي مضى يكررها، سُدى، سيجارة أخيرة وراء سيجارة أخيرة، لردح من الزمن، من دون أن يستطيع إنهاء هذا التكرار، بتكرار النهاية لمرة أخيرة].

لقد أنهى التدخين بإنهائه لشيء آخر (قد تعلق به شغفه بالنهاية؛ التحليل). إنه لم يستطع أن ينهي التدخين مباشرة، عن طريق «تحقيق» مسعاه الأصلي إلى إنهائه ببساطة.

لقد كان بمقدور زينو أن «يقضي على الحرية التي اختار المحلل الأحمق أن يكفلها له» عن طريق التطويح بالمتعة التي كانت تربطه بالأمر (بالتدخين وبالإقلاع عنه على حد السواء). لقد استطاع المحلل أن يفصل هذه المتعة عن الزوج الدلالي (التدخين/الإقلاع) الذي يدعمها، ثم أضحى هو نفسه تجسيدا لهذه المتعة، ومن ثمّ نبذها [فبنبذه للدكتور، نبذ زينو هذه المتعة].

هذا الكلام يبدو مشابها جدا لمقارنة لاكان الشهيرة بين موقف المحلل النفسي وموقف القديس:

«دعونا نعود إلى المحلل النفسي، ولنتوقف عن اللف والدوران... ليس ثمة طريقة أفضل من وضعه مع من كان يسمى قديمًا بالقديس... إن شغل القديس، وبوضوح شديد، ليس المحبة، الإحسان (caritas). وإنما هو يتصرف كسلة نفاية؛ إن شغله هو جمع النفاية (trashitas)... القديس هو نبذ المتعة».[13]

[الدور الأساسي للمحلل النفسي اللاكاني، وعلى عكس التصور الشائع عن المحللين، ليس تقديم التأويلات والنصائح والتوجيهات للمريض، وإنما أن يجعل من نفسه مجرد «شاشة» يُسقط، يعرض عليها المريض لا وعيه. ليس المطلوب من المحلل أن يتكلم وإنما أن يصمت كدمية، أن يلعب دور الميت حتى. المريض يضع لاوعيه: استيهاماته، أحلامه، زلاته، رغباته، متعته (نفايته) في المحلل (سلة النفاية)، ثم يلقي بالمحلل (ونفايته) بعيدًا. تمامًا كما فعل زينو مع محلله].  

لكن..

لكن الجزء الختامي من مذكرات زينو يقدم لنا منظورًا جديدًا، من شأنه أن يجبرنا على التساؤل عمّا إذا كانت هذه القراءة هي حقًا القراءة الصحيحة أم أن القراءة الصحيحة هي أن إنهاء زينو للتحليل لم يكن استعراضًا لحالة نجاح تحليلي وإنما كان استعراضًا لحالة «acting out»، «أداء مرضي»؟  وعن القراءة التي وفقها سيكون المحلل النفسي محقًا تمامًا في تأكيده على أن التحليل لم يكتمل بأي حال من الأحوال وإنما قُطِع (لقد حاول المحلل إغراء زينو، رجل الأعمال، لكي يعود إلى التحليل، بواسطة عرض تجاري: لقد قال له إنه على استعداد لأن يقتسم معه «الربح الوافر» الذي يتوقع أن يدره نشر مذكرات زينو...)؟

إلى أي شيء يشير مفهوم الأداء المرضي؟  إنه يشير إلى الطريقة التي يقوم بها الشخص بعرض، بأداء، نواة عَرَضه المرضي، على نحو سافر للغاية، لكن من دون أن يلاحظ ذلك. في أحد مقالاته، ضرب لاكان مثالًا لطيفًا على الأداء المرضي: مريض مُهَوّس بالانتحال الأدبي (plagiarism)، أي بفكرة أنه يسرق أفكار الآخرين، وأثناء التحليل، اقتنع محلله النفسي بأنه قد شفاه من هوسه ببساطة بعدما قدّم للمريض تفسيرًا لهذا الهوس. وردًا على ذلك التفسير، أضاف المريض التعليق التالي: «كل ظهيرة، بعدما أخرج من عندك، قبل ميعاد الغداء، وقبل أن أعود إلى مكتبي، أسير عبر شارع x (شارع معروف بمطاعمه الصغيرة لكن الجذابة)، وأنظر إلى قوائم الطعام المعلقة على النوافذ. وفي واحد من هذه المطاعم أجد عادة طبقي المفضل: أدمغة طازجة».[14] [لم يُشف الرجل من هوسه إذن. والدليل هو هذه التأدية المرضية لنواه هوسه بكونه يسرق أفكار الآخرين، المتمثلة في نصه، من دون أي استشكال منه، على أن أكلته المفضلة من بين كل الأكلات المعروضة على نوافذ المطاعم هي لحم الرأس!].

وواقع كون المريض لا «يسمع»، على الإطلاق، ما يقوله هنا، يدل بوضوح، في نظر لاكان، على أن نواة الكبت المسببة للهوس لا تزال نشطة تمامًا. والحال أن الجزء الختامي من مذكرات زينو، الذي يُفترض الآن أنه قد شفي هو الآخر من هوسه، ليتضمن وضعية مشابهة للغاية.

ففيه يتأمل زينو في الحياة بعامة وفي الاتجاه الذي تسير نحوه، ويتوقع أن المرض والمرضى سوف يكثران  ويزدهران بمساعدة «أسلحة» (موجودة خارج الجسد)، أسلحة، تُباع وتُشترى وتُسرق، يقول لنا، وأن الإنسان سيغدو أكثر دهاء وأكثر ضعفًا. وأن أوّل أسلحته كان بمثابة امتداد لذراعه ولم يكن من الممكن له أن يكون ناجعًا من دون قوة الذراع؛ لكن الآن لم يعد للسلاح أية صلة بالذراع. وأن السلاح هو الذي يخلق المرض. ويتابع زينو قائلًا بأن هذا المرض قد يتطلب الشفاء منه ما هو أكثر من التحليل النفسي. قد يتطلب، في واقع الأمر، حدوث كارثة كبرى، نهاية العالم، ليس أقل من ذلك. وهاكم آخر فقرة في الرواية:

«لعلنا نعود إلى الصحة عن طريق كارثة لم يسبق لها مثيل تتسبب فيها الأسلحة. فعندما لا تعود الغازات السامة وافية بالغرض، سيقوم رجل عادي، وفي غرفة سرية في هذا العالم، باختراع متفجر لا مثيل له، متفجر ستعدّ المتفجرات الموجودة حاليًا، مقارنة به، مجرد ألعاب غير مؤذية. وسيقوم رجل عادي آخر، لكن أشد مرضًا ربما من الآخرين، بسرقة هذا المتفجر، وسيصعد إلى مركز الأرض، لكي يزرعه في البقعة التي من شأنه أن يسبب تفجره عندها أقصى قدر ممكن من الضرر. سيكون انفجارًا مهولًا لن يسمعه أحد، وعندها ستمضي الأرض، وقد عادت سديمًا كرة أخرى، شاردة عبر السماوات، من دون الطفيليات البشرية ومن دون أمراض».[15] 

هذا ضرب جلي، حقًا، من الأداء المرضي، من طرف زينو المهوّس، في الأصل، بالسجائر والمرض والصحة. (وحتى لو كان كلامه صحيحًا، على المستوى الواقعي، فإن ذلك لا يغير شيئًا من حقيقة كونه ضربًا من الأداء المرضي).[16] إن هوس زينو بالصحة والمرض والنهاية يعاود الظهور هنا لكن في مستوى جديد بالكلية، مستوى كوني. لكن الشيء المثير للاهتمام حقًا في هذا الاستنتاج الذي خلص إليه زينو في خاتمة الرواية، هو تناغمه المثالي مع ما يمكن تسميته بـ «المناخ الفكري» لأيامنا هذه. فثيمة النهاية، الفناء التام، أو على الأقل اختفاء ما نسميه بالكائن البشري، تنعم بحضور طاغ الآن. وحقيقة أن ثمة أسبابًا واقعية من شأنها أن تدفعنا للانشغال بمصير البشر لا تتناقض، بأي حال من الأحوال، مع حقيقة كون العديد من تصورات النهاية هذه ذات طبيعة استيهامية (Fantasmatic). وما أقصده بذلك هو أن فكرة النهاية المبرمة، الأشد راديكالية وحسمًا هذه، تعمل كإطار نفكر (ونأول) من خلاله واقعنا الحاضر؛ بل قد تعمل حتى كوسيلة لزياد متانة هذه الواقع الأيديولوجية.[17] فهي تعطينا، أولًا، فكرة عن حجم ما نحتاجه لكي نغيّر واقعنا، أي أنها تمدنا بإجابة باهرة على سؤال: ما الذي يتعين إنهاؤه حتى تنتهي مشاكلنا الراهنة؟ [العالم نفسه؛ علينا تدمير العالم في سبيل إنقاذه!] ثم بناءً على هذا الجواب يمكننا أن نختار بين أمرين: إما أن نقرر أننا نؤثر ألا يتغير أي شيء في هذا الواقع (طالما أن التغيير يقتضي حصول الكارثة)، أو أن نجد العزاء في أن «جميع المشاكل ستُحل»، على أية حال، على يد الكارثة، ثم نمني أنفسنا بأن من رحمها سيولد وضع جديد—هذه هي الانعطافة «المتفائلة»، الجانب المشرق من سيناريوهات الكارثة بصفتها سيناريوهات خلاص محتملة.

في مقدمة كتابه، استدعى رودا فكرة فريدرك جيمسون القائلة بأنه من الأيسر على الناس اليوم أن يتخيلوا تعرض الأرض للخراب على يد مُذنّب طائش عن أن يتخيلوا حصول تغير راديكالي في الترتيبات (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية) الأساسية، التي تحكم حياتنا اليومية. إن الأشياء لن تتغير من داخلها، وحدها كارثة كبرى يمكنها أن تنقذنا من أنفسنا. هذا هو أيضا السبب الذي يجعل توقعات النهاية هذه محاطة بقدر كبير من الالتباس،  ويجعل البعض يستبشر بإمكانية حصول كارثة ما، إمكانية الفناء الكامل.

ربما ينبغي علينا هنا أن نطبق بالكامل مبدأ رودا ومقولته الألمعية [تصرف كما لو أن الأمر قد وقع بالفعل] ونقول: لكن مهًلا. فالكارثة قد وقعت بالفعل (مرة على الأقل!)، بل إننا لسنا بحاجة حتى لأن نتظاهر (نتصرف كما لو أن) بأنها قد وقعت بالفعل. فقد أتى على الأرض حين من الدهر بالفعل لم تكن فيه سوى مجرد سديم خال من المرض ومن البشر ومن مشاكلهم وأسلحتهم (بكلمات زينو)—ولننظر إلى أين قادها ذلك! وبعبارة أخرى، ألا يُعدّ هذا السيناريو القيامي، منظور «الفناء الكامل» هذا، سيناريو مفرط في تفاؤله؟ ماذا لو أن لا شيء، ولو حتى الفناء الكامل، بمقدوره أن يضمن لنا مخرجًا مما نحن فيه؟  ليس ثمة ما يضمن لنا أن ما نعيشه اليوم لن يتكرر مرة أخرى، أو أن ما نعيشه اليوم، هو نفسه، ليس، في واقع الأمر، سوى تكرار...

لكن قولنا بأن توقعات النهاية غالبًا ما تكون سيناريوهات استيهامية نموذجية لا يعني القول بأن الكارثة ذاتها عبارة عن استيهام. أو بعبارة أخرى، علينا أن نميز بين أمرين: الإمكانية الفعلية لنهاية كل شيء بسبب كارثة كوكبية ما، ونهاية مشاكلنا الحاضرة كإمكانية مستقبلية تحققها الكارثة [فالأخيرة هي التي تعدّ استيهامًا وبالتالي تلعب دورًا أيديولوجيا بتكريس الواقع القائم].

فمِثل زينو، يبدو أننا نوكل أمر التغيير، نهاية مشاكلنا، إلى نهاية أخرى، نهاية كبرى (ستتعامل مع كل شيء). بالطبع، هذا الضرب من «التوجه في الفكر»[18] ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد، لأنه عَرَض حقيقي، عَرَض للعجز التام، نختبره بصفتنا ذواتًا اجتماعية وسياسية من شأنها أن تتدخل في مسار الأحداث وفي بنينتها. هذا العجز واقعي جدًا، وهو لا يتعلق، بلا شك، بكوننا أشد «كسلًا» من أن نفعل شيئًا حياله في اللحظة الراهنة. لكن حقيقة كون هذا العجز أمرًا واقعيًا (وبنيويًا)، لا ينبغي لها أن تجعلنا نخلط بينه وبين هذا النحو من الضرورة البنيوية التي لا يمكن التعامل معها إلا عن طريق إنهاء كل شيء، بكارثة.

وعليه، قد يكون بوسعنا أن نختم مقالتنا بأن نضيف إلى قائمة رودا للمواقف «القدرية على نحو هزلي» واحدًا آخر:

«يقينًا سينتهي العالم، لكنها لن تكون نهاية مشاكلنا».


[1]فرانك رودا (Frank Ruda)، فيلسوف ألماني معاصر، مهتم بهيجل وماركس، وهذا الكتاب: Abolishing freedom: a plea for a contemporary use of fatalism ، الصادر بالإنجليزية في 2016، هو أهم وأشهر أعماله، والمقال الذي بين أيدينا منشور ضمن العدد الأول من مجلة provocations  وهو العدد المخصص للتعقيب على هذا الكتاب (إذ تخصص المجلة كل عدد من أعدادها للتعقيب على كتاب واحد). (م)

[2]السيمينار رقم 11، ألقاه خلال عام 1964، والمفاهيم الأربعة هي: اللاوعي، التكرار، التحويل، الدافع. (م).

[3] وفقا للاكان (اعتمادًا على فرويد)، وعلى عكس التصور الشائع، الأنا الأعلى لا يمنع الشخص من المتعة وإنما هو يأمره بها، عوضا عن ذلك. استمتع! هكذا يأمر الأنا الأعلى ثم يلوم ويعاقب على عدم الانخراط في هذه المتعة، فالمرء (خاصة في الزمن الرأسمالي المتأخر، أو تحت وطئة "الخطاب الرأسمالي") لا يشعر بتأنيب الضمير لأنه قد أفرط في الاستمتاع وإنما لأنه لا يستمتع بما يكفي. (م).

[4]نُشرت في العربية بعنوان ضمير السيد زينو، ترجمة: معاوية عبد المجيد (دار أثر، 2013). والنصوص التي تستشهد بها المؤلفة من ترجمتي (م).

[5] Italo Svevo, Zeno's Conscience, trans. William Weaver (New York: Vintage Books, 2003), 12.

[6] الفن الحديث، وفقا لهيجل، فن منتهٍ، "ميت"، ليس لأنه لم يعد موجودًا، وإنما لأنه قد تخلى عن مهمته الأسمى، عن الدور الكبير الذي كان يلعبه في العصور الكلاسيكية: سبر الحياة الإلهية والبشرية؛ والسبب في ذلك هو «علمنة» الفن، بفضل الإصلاح الديني، بفصله عن الدين. الفن الحديث فن «ميت» لأنه تخلى عن سبر الحياة البشرية والحرية البشرية، واكتفى بمحاكاة الطبيعة؛ لأنه لم يعد مصدرًا لـ «الحقيقة» كما كان في سالف العهد. (م).

[7] The man without content

صاغ أجامبين عنوان أول كتبه هذا (كان في الرابعة والعشرين من عمره، تقريبًا، حين كتبه) على غرار عنوان رواية روبرت موزيل الشهيرة الإنسان الذي لا خصال له (مترجمة إلى العربية مرتين أحدهما بعنوان رجل بلا صفات والأخرى بعنوان الرجل الذي لا خصال له)، وقد صدر في العربية، تحت عنوان الإنسان بلا محتوى، بترجمة أماني أبو رحمة (دار أروقه، 2019) (م).

[8] Giorgio Agamben, The Man Without Content, trans. Georgia Albert (Stanford: Stanford University Press, 1999).

[9] Svevo, Zeno’s Conscience, 412.

[10] Svevo, Zeno’s Conscience, 414.

[11] Svevo, Zeno’s Conscience, 418.

[12] Svevo, Zeno’s Conscience, 417.

[13] Jacques Lacan, Television, ed. Joan Copjec (New York: Norton, 1990), 16.

[14] Jacques Lacan, “Response to Jean Hyppolite’s Commentary on Freud’s ‘Verneinung’,” in Écrits: The First Complete Edition in English, trans. Bruce Fink (New York: Norton, 2006), 331.

[15] Svevo, Zeno’s Conscience, 437.

[16] تمامًا كما أن خيانة الزوجة الفعلية لزوجها الغيور على نحو مرضي (غيرة عُطيليّة، لو جاز لنا القول) - يخبرنا لاكان - لا تغير شيء من حقيقة كون غيرته هذه غيرة مرضيّة، غيرة ارتيابية، ضرب من البارانويا. (م).

[17]  الاستيهام (fantasy) عند لاكان، ليس مجرد تلبية خيالية لرغبة ما، وإنما هو البنية التي تنظم عبرها الذات نمط متعتها على نحو خاص بها. الاستيهام ليس تلبية للرغبة وإنما هو «المسرح» الذي تُعرض عليه الرغبة، هو الذي يبنينها وينظمها، لا يمكن للرغبة أن توجد خارج الاستيهام. وفي سياق اجتماعي، الاستيهام هو الذي يمكّن الشخص من الاتصال بالواقع، الأفراد لا يتصلون بواقعهم على نحو مباشر وإنما من خلال «شاشة»، «إطار» الاستيهام. وهو الأمر الذي يخوّل له لعب دور أيديولوجي كبير، في تبرير هذا الواقع والتعمية على تناقضاته وصراعته، ومن ثمّ تكريسه (م).

[18] Orientation in thinking

مصطلح لكانط، في مقالته اللاهوتية  “ What Does It Mean to Orient Oneself in Thinking?”يعني ببساطة أن المرء بوسعه أن يتوجه في الفكر على النحو  الذي يتوجه به في المكان، بأن يسلك اتجاه اليمين أو الشمال مثلَا، بناءً على شعوره الذاتي بيمينه وشماله، عندما يكون في غرفة مظلمة مثلَا وعاجزًا عن رؤية الأشياء. (م).