موسوعة الملل | اﻹبادية

مقال لحسين الحاج

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

غلاف كتاب بيتر فريز

دايمًا بيتقال إن أهم سؤالين في الفلسفة السياسية هما: "مين بياخد إيه؟" و"مين قرر كدا؟". المقولة دي مش صحيحة تمامًا، لكنها قريبة بما يكفي من نقطة البداية لفهم حقيقة السياسة، ودا لسببين: اﻷول إنهم بيوضحوا الفرق بين السياسة واﻷخلاق، حيث إن الفلسفة اﻷخلاقية بتسأل سؤالين تانيين على مستوى ذاتي أكتر وهما: "إيه اللي لازم أعمله؟" و"إزاي ممكن أعيش؟"، والسبب التاني إن فيه سؤال تالت أهم من السؤالين اﻷولانيين لكن مبني عليهم: "على أي أساس طلع القرار دا؟". لو رجعنا للسؤالين هنلاقي إن السؤال اﻷول بيسأل عن توزيع الثروات (درجة المساواة)، والتاني بيسأل عن توزيع السلطة السياسية (درجة الحرية). لو طبقنا السؤالين دول على اتجاهات البوصلة السياسية، هنلاقي السؤال اﻷول "مين بياخد إيه؟" بتتحدد إجابته حسب موقف الواحد في المعيار الاقتصادي، والسؤال التاني "مين قرر كدا؟" حسب موقف الواحد في المعيار الاجتماعي.

واحدة من أهم تطبيقات البوصلة السياسية في مجال العلوم السياسية ظهرت في كتاب بيتر فريز Peter Frase "الحياة بعد الرأسمالية: أربع احتمالات" (2016)، اللي دلوقتي بيعتبر كتاب مهم في حقل الدراسات المستقبلية. ظهور تعبير "الحياة بعد الرأسمالية" مرتبط بمحاولة بعض الاشتراكيين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (والكتلة الشرقية كلها) إنهم يتكلموا عن الاشتراكية من غير ما يقولوا الكلمة نفسها، فمثلاً الاقتصادي ديفيد شويكارت (David Schweickart) قدم مقترحاته لنظام اقتصادي تعاوني (mutualist) بديل للرأسمالية في كتابه "بعد الرأسمالية" (2002)، وبعدها بسنة الاقتصاديين مايكل ألبرت (Michael Albert) وروبرت هانل (Robin Hahnel) قدموا مقترحاتهم لنظام اقتصادي جمعوي (collectivist) بديل للرأسمالية في كتابهم "الاقتصاد التشاركي: الحياة بعد الرأسمالية". الفارق بين بيتر فريز وبين كل الاقتصاديين دول إنه مش بيحاول يتخيل نظام اقتصادي أفضل من الرأسمالية اللي موجودة دلوقتي قد ما هو بيحاول يتخيل إيه اللي ممكن يحصل لما الرأسمالية تنتهي فعلاً، وبالتالي خياله مفتوح على احتمالات أكتر وأكبر من مجرد التصميم الطوباوي / اليوتوبي.

فريز بيبدأ من أطروحة مهمة وهي إن شكل الرأسمالية اللي إحنا عارفينها دلوقتي راح تنتهي، ودا بسبب إن الرأسمالية مندفعة بقوة ناحية أتمتة الشغل كله، بمعنى خضوع عمليات إنتاج السلع للذكاء الاصطناعي، وبالتالي بتقدر تمشي اﻹنتاج بدون الحاجة لعمال بشريين. ممكن فعلاً تكون الرأسمالية بتنتهي وإحنا بنعيش ميلاد نظام جديد، لكن لسه مش عارفين له اسم واضح، وفي النهاية ملامح النظام الرأسمالي كانت موجودة قبل ما آدم سميث يكتب كتاب "ثروة اﻷمم"، آدم سميث ما اخترعش الرأسمالية ولا كارل ماركس اخترع الشيوعية، ﻹن الواقع سابق على قدرة الإنسان على التنظير فيه ككل، وعشان كدا تنظيرات آدم سميث وماركس لاحقة لتطورات النظام الاقتصادي نفسه. وعشان كدا فريز بيسأل لو كانت الرأسمالية هتنتهي، إيه شكل الحياة اللي ممكن ييجي بعدها؟

فريز بيقول إننا لو وصلنا لاقتصاد ما بيطلبش من البشر إنهم يشتغلوا عشان يدوروا عجلة اﻹنتاج، دا هيفتح لنا فرصة لتحرير الناس من نظام العمل المأجور (عامل الرأسمالية اﻷساسي). ولكن استغلالنا للفرصة دي معتمد على عاملين رئيسيين: اﻷول مادي والتاني اجتماعي. العامل اﻷول بيتلخص في ندرة الموارد ووفرتها، بمعنى قدرة الطبيعة على توفير مستوى معيشي مادي عالي لكل الناس. العامل التاني بيتلخص في شكل النظام السياسي إذا كان مساواتي ولا هرمي، بمعنى مدى طبقية السلطة في المجتمع. وبالتالي هنلاقي أربع مركبات منطقية للمسألتين دول: وفرة الموارد مقابل ندرتها، والمساواة مقابل الهرمية. ولو طبقنا البوصلة السياسية عليهم من خلال مصطلحات ماركسية هيكونوا: المحور اﻷول بيحدد القاعدة الاقتصادية لمستقبل حياتنا بعد الرأسمالية، والمحور التاني مرتبط بالبنية الفوقية الاجتماعية السياسية للمستقبل دا. فريز وصف اتنين من الاحتمالات القايمة على المساواتية بالاشتراكية والشيوعية والاتنين التانيين القايمين على الهرمية بالريعية واﻹبادية.

الريعية Rentism هي نشاط اقتصادي قايم على ريع أي مصدر صالح للتأجير بداية من الموارد الطبيعية زي المية ولحد المنصات الرقمية زي المواقع، أما اﻹبادية Exterminism فهي مصطلح استخدمه المؤرخ اﻹنجليزي إدوارد بالمر تومبسون E. P. Thompson عشان يوصف ديستوبيا ناتجة عن الحرب الباردة. بيتر فريز بيعيد استخدامه عشان يوصف عالم مبني على الهرمية والندرة. الندرة هنا جاية من ضغوط الظروف البيئية على مجتمعات بشرية كبيرة بسبب التغير المناخي وانهيار النظم البيئية، لكن مش كل الناس هيعانوا من الندرة دي، ﻹن الهرمية لسه بتحكم العالم. المحكومين مش هيبقى ليهم لزوم عند اللي بيحكموهم، فلا هما عايزينهم يشتغلوا في مكاتبهم ولا مصانعهم، ولا عايزينهم يشتروا منتجاتهم في عالم معدوم الموارد، لكنهم مستعدين يسيبوهم يموتوا من الجوع أو يقتلوا بعض على اللي فاضل من الموارد المتاحة ليهم. راح يكون الهم اﻷساسي للقلة الغنية إنهم يطمعوا في ثروات بعضهم أو إنهم يدافعوا عن نفسهم ضد الناس باستخدام آلات حربية متأتمتة. أفلام ديستوبية كتيرة بتصور شكل العالم اﻹبادي دا، من أول فيلم ماكس المجنون Mad Max لحد فيلم أطفال الرجال Children of Men.

اﻹبادية مش مجرد مصير منتظرنا في المستقبل، إنما هي عنصر جوهري بالنسبة للرأسمالية والاستعمار اﻷوروبي من بدايتهم، ومن غيرها ما كانش الرجل اﻷوروبي اﻷبيض قدر يقبض بإيده على العالم كله في القرنين التمنتاشر والتسعتاشر. قبل العصر النووي اﻹبادة كانت متوجهة ضد مجتمعات بعينها زي اﻷفارقة وشعوب اﻷمريكتين، وبعد العصر النووي تهديدها شمل العالم كله بدون تمييز. اﻹبادية القديمة هي إبادية نووية، يعني الكتلتين الشرقية والغربية يشنوا حروب نووية على بعض تقضي بفناء العالم، إنما اﻹبادية الجديدة هي إبادية الندرة والاحتكار التام والتغير المناخي. ممكن نعتبر إن اللي حصل وقت ذورة انتشار الكورونا نموذج مخفف من السيناريو اﻹبادي الجديد، قلة من الناس قادرة تعزل نفسها في بيوتها في وقت ما فيه وباء منتشر على مستوى العالم.

في النهاية فريز بيقول إن الاحتمالات اﻷربعة هي نماذج مجردة، وإن ثنائية الندرة مقابل الوفرة والمساواة مقابل الهرمية فيهم مقاييس عليها مستويات متوسطة دايمًا. البربرية اللي روزا لوكسمبورج حذرت منها في شعار "إما اشتراكية أو بربرية" مش شكل واحد ولا هي أكيدة، إنما هي مجرد احتمال، ولو عرفنا إيه اللي ممكن يوصلنا إليه الاحتمال دا، يمكن نقدر نتجنبه ونبعد عنه لمستقبل أحسن منه.