موسوعة الملل | البوصلة السياسية
مقال لحسين الحاج
المقال خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
في كل مرة فيه نقاش بيتفتح عن حقوق الفقرا في الصحة والتعليم أو حرية الستات في المجال العام أو حتى مقاطعة إسرائيل تلاقي معارض القضايا دي يشاور على اللي بيدافع عنها ويقوله «دا أنت يساري بقى!»، وحتى لو ما كنتش بتتكلم في قضية عامة، لو مثلًا كنت بتراعي ساعي المكتب ومش بتستعبده وزمايلك مش زيك في معاملته، بيتقال عليك «اليساري آهوه!».. هنا لازم يحضرنا السؤال، يعني إيه يسار؟
سهل جدًا إننا نرجع للتاريخ ونفهم إن أصل الكلمة جي من ترتيب جلوس النواب جوه البرلمان الفرنسي في فترة الثورة الفرنسية. اللي بيقعد في جهة اليسار بيعارض الملكية بالمطالبة بحقوق الشعب ومساندة الثورة، وكان بيتقال عليهم تقدميين، واللي بيقعد في جهة اليمين بيدعم مؤسسات النظام القديم زي الكنيسة والنخبة اﻷرستقراطية، وكان بيتقال عليهم رجعيين.
بس فكرة اﻷقطاب السياسية المتعارضة عمرها ما كانت مقفولة بس على يسار ويمين جوه نظام الحكم، وإنما كمان على الشرق والغرب في النظام العالمي. في نص القرن العشرين، العالم بدأ يستعيد توازنه بعد موجة عنيفة من الفاشية والنازية، لكن في صورة حرب باردة بين قطبين: الكتلة الشرقية اللي بيمثلها الاتحاد السوفيتي والصين، والعالم الرأسمالي اللي بيمثلها الولايات المتحدة اﻷمريكية وأوروبا الغربية. بين اليسار الثوري واليمين المحافظ كان دايمًا فيه الديمقراطيين الاشتراكيين (يسار الوسط) والليبراليين الاجتماعيين (يمين الوسط)، وبين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي كان فيه دول عدم الانحياز والطريق التالت، يعني دايمًا كان فيه وسط بين الطرفين.
الطيف السياسي the political spectrum بيعكس في أساسه فرضية غلط، وهي إن الديموقراطية التمثيلية هي النموذج اﻷمثل للممارسة السياسية، ولا يمكن يكون فيه سياسة بره البرلمان. عشان كدا الفرضية دي في أساسها تعريف ضيق قوي لماهية السياسة. والطيف السياسي دا، سواء كان على قد حكم دولة أو بوسع نظام العالم، يعتمد على تصنيف المحللين للاقتصاد السياسي إذا كان اشتراكي ولا رأسمالي، بما إن مفيش خلاف على وجود الدولة أو المجتمع الدولي من عدمه.
بس إذا كانت الطبيعة التمثيلية للسياسة هي اللي حددت مكان كل تيار وحزب في الطيف السياسي، فإيه موقف الراديكاليين اللي مش ضد السياسات التمثيلية وبس، لكن ضد مبدأ الدولة ككل زي اﻷناركيين والشيوعيين اليساريين؟ وإيه موقف الفاشيين والنازيين أنصار حكم الدولة المطلق Statism من غير سياسة تمثيلية؟ فين ممكن يلاقوا نفسهم في طيف السياسة التمثيلية للشعوب والدول؟
اتولدت الحاجة لخلق محور جديد في الطيف السياسي بيعبر عن الناس اللي بيرفضوا ربط الممارسة السياسية بالسياسة التمثيلية بعد الحرب العالمية الثانية. فمثلًا ثيودور أدورنو (Theodor Adorno) وزمايله من مدرسة فرانكفورت عملوا قبل كدا قياس للشخصية السلطوية من خلال اختبارات تكشف مستويات الفاشية في الناس في أول الخمسينات. لكن فكرة أن المواقف السياسية ممكن تتصنف على رسم بياني بمحورين ظهرت ﻷول مرة في نص الخمسينات، في كتاب «سيكولوجيا السياسة» لعالم النفس البريطاني هانز إيزنك (Hans Eysenck). المحور اﻷول بيمثل الاتجاهات الاقتصادية (يسار ويمين)، والمحور التاني بيمثل الاتجاهات السياسية (سلطوي وتحرري). إيزنك دعم فكرته بدليل إحصائي مبني على بيانات دراسات استقصائية. لكن الصحفي وكاتب الخيال العلمي اﻷمريكي جيري يوجين بورنيل (Jerry Eugene Burnell) كان أول واحد صمم الرسم البياني دا فعلًا في رسالته للدكتوراه في العلوم السياسية في 1963، واللي اتطور أكتر على اﻷناركيين ستيورات كريستي (Stuart Christie) وألبرت ملتزر (Albert Meltzer) في كتابهم «بوابات اﻷناركية» في أوائل السبعينيات، وكمان على إيد السياسي التحرري اﻷمريكي ديفيد نولان (David Nolan) في مقالته «تصنيف وتحليل اﻷنظمة السياسية الاقتصادية» في نفس الفترة.
في إعادة لتطبيق دراسة إيزنك، الناشط التحرري اﻷمريكي مارشال فريتز (Marshall Fritz) استخدم رسم نولان عشان يشرح إزاي إن التحررية (الليبرتارية) مختلفة عن المحافظية والليبرالية الدولتية، وصمم في 1987 اختبار من عشر أسئلة سياسية يقدر يصنف بيهم الناس بين خمس مواقف سياسية: التحرري والليبرالي اليساري والوسط واليمين المحافظ والدولتي. اﻷسئلة مقسومة على خمس أسئلة اقتصادية وخمسة شخصية، واﻹجابات متحددة بين موافق وغير موافق ويجوز. الموافق بياخد عشرين نقطة والمش موافق بياخد صفر واللي مش متأكد بياخد عشر نقط، والنتايج بتتجمع لكل مجموعة لوحدها وممكن تبقى صفر أو ميت نقطة، وبعدها عدد النقط في المجموعتين بيحدد موقع اللي بيجاوب في الرسمة، وبتوضح له أنهي تصنيف سياسي بيميل ليه. الاختبار دا هو أشهر اختبار سياسي على اﻹنترنت سواء في شكله القديم أو شكله الجديد.
سر النظرية في البوصلة السياسية the political compass هي إننا نقدر نقيس الأيدلوجيات السياسية عن طريق محورين بيقطعوا بعض. المحور اﻷول (اليسار / اليمين) بيقيس الرأي في طريقة إدارة اقتصاد المجتمع: اليسار بيعبر عن الرغبة في اﻹدارة الجماعية للاقتصاد، واليمين بيعبر عن الرغبة في فتح اﻷسواق والمبادرة الفردية في تنظيم الاقتصاد. أما المحور الثاني (التحرري / السلطوي) بيقيس الرأي في اﻹدارة السياسية للمجتمع: التحررية بتعبر عن الرغبة في الحريات الفردية، والسلطوية بتعبر عن ضرورة خضوع الفرد لسلطة الدولة. ومن هنا ممكن نلاقي إن مش من الضروري الرغبة في فتح السوق في إدارة الاقتصاد توافق الرغبة في الحريات الفردية، وﻻ إن الرغبة في اﻹدارة الجماعية تتوافق مع ضرورة خضوع الفرد لسلطة الدولة. ممكن الإدارة الجماعية اللي يأيدها اليسار يبقى معناها حكم جهاز الدولة المركزي، أو تنسيق بين شبكات أفقية من البلدات الشيوعية المستقلة، ودا معناه -نظريًا- إن فيه يسار تحرري (ومثاله اﻷناركية الاجتماعية) ويسار سلطوي (ومثاله الستالينية) زي ما فيه يمين سلطوي (ومثاله الفاشية) ويمين تحرري (الليبرتارية الاقتصادية).
ممكن نظرية البوصلة السياسية تبقى بديهية بزيادة بالنسبة للمهتمين بالنظرية السياسية الحديثة. كل الناس عارفة إن السياسات الاجتماعية والاقتصادية متقاطعة دايمًا ومش ممكن فصلهم عن بعض، لكن ممكن نظرية الحكم البولياركي للمنظر السياسي اﻷمريكي روبرت دال (Robert Dahl) تبقى إضافة مهمة في إعادة التفكير في النظرية اللي بترسم محاور البوصلة دي.
دال ابتكر مصطلح «بولياركي» Polyarchy عشان يوصف أنظمة الحكم اللي السلطة بتنقسم فيها بين أطراف كتيرة. في اليوناني العتيق، «بولي» معناها كتير أو متعدد، و«آركي» معناها الحكم. دال يقصد بالبولياركية إنها الطريقة اللي النظم السياسية بتقرب من النموذج المثالي للديمقراطية، باعتبار إن الديمقراطية هي نظام الحكم اللي بيخضع تمامًا لسلطة كل مواطنيه بلا استثناء. وبالنسبة لمواصفات دال، فيه صفتين أساسيتين للبولياركية: الأولى هي وسع مساحة المشاركة في صناعة القرار، واﻷخرى هي تعميم الحق في المشاركة على كل الناس. اﻷولى بتتسمى التحرر (المعارضة) والتانية الاحتوائية (المشاركة).
دال في كتابه «البولياركية: المشاركة والمعارضة» في سنة 1970 قدم رسمة توضيحية فرقت بين أربع أنظمة سياسية. اﻷولى هي «الهيمنات المقفولة (اﻷوتوقراطيات، حكم الفرد)» اللي بتنخفض فيها مستويات التحرر والاحتوائية، والتانية هي «الهيمنات الشاملة» اللي بتنخفض فيها مستوى التحرر ويرتفع فيها مستوى الاحتوائية، والتالتة هي «اﻷوليجاركيات التنافسية (حكم القلة)» اللي بيرتفع فيها مستوى التحرر وينخفض فيها مستوى الاحتوائية، والرابعة «البولياركيات» اللي بيرتفع فيها مستويات التحرر والاحتوائية. ممكن نطابق رسمة دال مع البوصلة السياسية من حيث إنها بتميز بين أربع أنظمة سياسية مختلفة، والبوصلة بتوصلنا لتصنيف المواقف السياسية عن طريق توزيعها على اتجاهاتها اﻷربعة.
في النهاية اللي ممكن نقوله إن فهم السياسة أعقد شوية من تصنيف المبسط اليسار واليمين والوسط، لكن ممكن تعقيدها يخف لما نشوفها بأبعاد أكتر. النظرية السياسية اللي ورا البوصلة والبولياركية هي نظرية معيارية، وﻹنها معيارية فإحنا ممكن نعيّر بيها المواقف السياسية بكل وضوح. صحيح العالم فيه شرق وغرب، لكن كمان فيه شمال وجنوب، ليه ما يبقاش فيه اتجاهات أكتر من اليمين واليسار؟