آثار اﻷسنان: 3 قصائد مبكرة ﻷلبير قصيري

مقال لآنا ديلا سوبين

ترجَمت القصائدَ للإنجليزية: جوسلين سبار

باريس ريفيو 3 ديسمبر 2013

ترجمة: أحمد طارق عبد الحميد

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه


قصيري، عن trouw

مِثلُ صديقه وصَفِيِّه وابنُ برج العقرب ألبير كامو، كان ألبير قصيري ليحتفل الشهر الماضي (نوفمبر 2013)  بعيد ميلاده المائة أيضًا. وافت المنيةُ القديس الشفيع للكسل -الذي يكتب فقط عندما لا يكون لديه شيء أفضل للقيام به- في العام 2008. لكن يمكننا أن نتخيل أن قصيري لو عاش حتى هذا العقد، لظل هو قصيري نفسه كما كان في أي سن. الروائي المصري المتأنق، المُهندم بامتياز، والذي لا يفرِّط قَطّ في روتينه. على مدار ما يقرب من ستين عامًا، وحتى وفاته، عاش قصيري في غرفة متقشفة بفندق «لا لويزيان» في حي «سان جيرمان دي بري». ينام كل يوم في وقت متأخر من الليل، ولا يغامر بالخروج إلا في أوقات العصر، ليتشمّس وهو يشاهد الفتيات اللاتي يرتدن حدائق لوكسمبورج، أو ليتناول طبقًا من العدس ومياهًا غازية في مقهى الزهور «كافيه دي فلور» ويبقى لساعات، دون القيام بأي شيء. حتى عندما كان يتلقى الرعاية الطبية من أجل عملية جراحية، قرب نهاية حياته، هرب قصيري -وهو لا يزال يرتدي منامة المستشفى- وتوجّه إلى المقهى، تدفعه على الكرسيّ المتحرك فتاةٌ شقراءُ جميلة.

«ها قد جاء توت عنخ آمون»، يهمس النُّدُلُ من وراء ظهره. وهكذا بالضبط أيضًا تعود كتابات قصيري دائمًا للمشاهد والقوالب نفسها -المُحتاجون والمُهرِّجون، الثُّوارُ الخائبون والفلاسفةُ المساطيل- للحفاظ على تناغم مُحدد على امتداد العقود. إن ألبير الصغير، الذي درَج في المدارس الفرنسية بالقاهرة وهو صبي، بدأ كتابة روايته الأولى وهو في العاشرة من عمره. وفي السابعة عشر، نشر ديوان شعر عنوانه «لي مورسيور» (Les Morsures)، أي «آثار الأسنان» أو «العضّات». وعلى حد علمنا فقد ضاع الكتاب، كما رفض قصيري نفسه بخجل حتى وفاته مساعدة أي قارئ مخلص للعثور على نسخة منه. بالرغم من ذلك حُفظت لنا ثلاث قصائد من الديوان في المختارات الضخمة «بويت أون إيجيت [شعراء من مصر]» (Poètes en Egypte)، التي أعدها جان موسكاتيلّي في القاهرة عام 1955. وهذه المختارات، التي جمعت ما يزيد عن خمسة وخمسين كاتبًا مصريًا فرنسيًا، قد احتفظت بالإنجازات المشتركة لهذا المجتمع الأدبي في غروبه الأخير. كما اشتملت على نصوص لأصدقاء قصيري: جورج حنين وإدموند جابيس، بالإضافة إلى جويس منصور وحورس شنودة -الذين رحلوا جميعًا في وقت قريب أو كانوا قد غادروا بالفعل للمنفى في باريس، بعد انقلاب جمال عبد الناصر.

إننا بالاطلاع على القصائد المحفوظة -«الشحاذون» و«الشقاء» و«ليلة»، التي ترجمتها إلى الإنجليزية لأول مرة جوسلين سبار، نجد أن آثار الأسنان تنتمي لبودلير، و«سخافات التحلُّل المُريعة»، على حد ماسكاتيلّي، تنتمي لـ«أزهار الشر» [ديوان بودلير]. بل يبدو أحيانًا أن قصيري ينقل أبياتًا من إله صِباه: وقد أشار الباحث باسم شاهين، على سبيل المثال، إلى أوجه التشابه بين أول سطر شعري من قصيدة بودلير «الشمس» وقصيدة قصيري «الشحاذون». بل ويستدعي الحشدُ العطِن الهزيلُ كجثة، رائحةَ [قصيدة بودلير] «جثة» المنتنة. وكذلك يبدو أن فاتنة بودلير مصاصة الدماء في قصيدته «مصّاصة الدماء» تعود مجددًا في قصيدة قصيري «ليلة»، كامرأة غامضة «تعضُّ حُلمي / في أزمنةٍ بعيدةٍ كالقمر». لكن قصيري، بخلاف بودلير المنكسر، يبقى أمامها صلبًا.

«تحمل الأبيات بالفعل أثر حياة مسكونة بكل ما هو فانٍ»، يكتب موسكاتيلّي، «إن مزاج ألبير قصيري يألف سوداوية الحياة بأكثر مما يألف زُرقتها». وباستراق النظر إلى هاوية [الشاعر] المراهق، نعثر على ومضات مما سيأتي به. لعل كتيبة الأموات في قصيدة «الشحاذون» هم أنفسهم المُدقعون المقيمون في «منزل الموت الأكيد» (1944)، أولى روايات قصيري، الذين ينتظرون الانهيار الوشيك لمساكنهم المُهملة على رؤوسهم. ولو أن المتحدث في قصيدة «شقاء» مشّط شعره، ربما تكشّف لنا عن البطل المتسكع النشّال أسامة، الذي يتجاهل باستخفاف مبادرات النساء الغرامية بينما يهاجم فساد البرجوازية في رواية قصيري الأخيرة «ألوان العار» (1999). وتستدعي أنشودة «الليل» المُبارَك الحلم اللانهائي بـ«كسالى في الوادي الخصيب» (1948) التي تدور حول عائلة تنام طوال اليوم مُكفّنين في بطاطين، تُمثِّل بطالتهم رفضًا للمشاركة في شرور هذا العالم ومَذلّاته. إن منزلهم هادئ تمامًا كمقبرة مونبارناس، حيث يلتقي قصيري ببودلير.

قصائد لألبير قصيري

-1-

الشحاذون

بطول جدارٍ حزين، على أطراف حارةٍ قديمة

مثل دُمى تنقُصها الخيوط،

يكشف الفقراءُ المُنهَكين في ضوء النهار

خِرَقهم التي لا تُحصى للهَوَام الفَظَّة.

إن هذه الخُردة المزعجة المُخيفة، الصمّاء ببشاعة

البلهاء، تجُرُّ بطول الجدار جُثثها النحيلة الطويلة

التي تُقدِّم حسرتها للسيدات اللاتي يعبرن الطريق

فيمنحنها قرشًا ليفُزن بنعيم السماء.

ومن أفواهها عديمةِ الأسنان، أنفاسٌ مُنتنة

تَصَّاعد كالبخور نحو الزُرقة البديعة...

لعل المرء يفكّر، وهو يراهم في غاية البِلَى،

أن كتيبة موتى، بفتنتها المُبتذلة-

بعدما أعادتها للحياة أصابعُ ساحر-

قد جاءت لتتقيأ آثامًا قديمة مُقرَّرة.

-2-

شقاء

لاشمئزازي من مشاجرتهم الحقيرة

كان البرجوازيون يوجّهون لي نظراتٍ ثائرة،

وكمتشرّد في أرض غريبة،

سِرتُ كالمجنون، بشعر مُلبَّد.

وبهيئةِ الملابس المُمزقة البُوهيميَّةِ هذه،

تطلّعت إليّ ذوات المساحيق المُلونة بغرور مُحطَّم...

لكنِّي واصلتُ السَّيرَ، شاردًا في أحلامي المُجنحة،

أتثاءبُ بكآبةٍ في وجوه العابرين بسرعة.

مُضطربًا بفعل الجوع الثقيل

الذي يعجز هيكلي الضعيفُ عن حمله-

أخشى أني مُضطرٌ، ببالغ الأسف، لأن أعهرَ بروحي،

كما أني، ذات يوم، من أجل رغيفٍ زهيد

تطلُبُه أمعائي، بعدما تسأم انتظار الأفضل،

قد أبيع في السوق الرخيصة الصباحي عبقريتي.

-3-

ليلة

إلى جان ماسكاتيلّي

يا ليلة مُرصَّعة بدموعي

-دموعٌ تهرب لليأس-

أنتِ الزِنجِيَّةُ التي تسحَرُ

جزيرةَ الذهبِ والسوادِ لديّ.

يا ليلةً داعرةً، يا ليلةً من لحمٍ بُنِّيّ

أنتِ جِنسُ امرأةٍ ضالَّةٍ

تعضُّ حُلمي

في أزمنةٍ بعيدةٍ كالقمر.

حتى الآن، يا ليلةً مُبارَكة،

رفضتُ عِبءَ جِنايةِ العَار:

إنني وحيدٌ كجُثَّةٍ جميلة،

في ليلتها الأولى بالقبر.


اقرأ المزيد: ألبير قصيري.. راجل حَب الناس اللي ربنا نسيها