ألبير قصيري.. راجل حَب الناس اللي ربنا نسيها

مقال لأندرو جالي

نشر في جريدة الجارديان - 8 يوليو 2008

ترجمة: ميرهان فؤاد

عن صفحة العالم بالمصري

تم النشر بإذن من المترجمة والناشر الأصلي

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.

***

ألبير قصيري عن francebulture

ألبير قصيري كان أسطورة حية، وحلقة من الحلقات الأخيرة إللي بتربطنا بالأيام العظيمة لما كانت باريس عاصمة الثقافة في العالم، ولما كان حي سان چيرمان ديه بريه هو مركز إشعاعها.

وبعد ما داق طعم المتع المثيرة في منطقة مونبارناس، قرر قصيري إنه يغيَّر محل إقامته للضفة الشمال لنهر السين في باريس سنة 1945، وهناك كان بيتفسَّح بالليل مع چينيه، وچكوميتي، وجريكو، وكينو، وسارتر، وتزارا، وفيان. وكتابه الأول «بشر نسيهم الله» اتنشر بفضل توصية هنري ميللر، اللي كان واحد من أكبر معجبينه . قصيري كان بيتمشى مع كامو في الحي اللاتيني في باريس، وبعد شوية اتشهر هناك باسم فلانتينو الشرقي. وطبعًا في أوائل التسعينات قصيري كان بيتفاخر إنه نام مع تلتلاف ست! لو ده كان حقيقي فعلا فده هيحطه في نفس المجموعة مع چورچ سيمنون، اللي نام مع عشرتلاف ست، زي ما هو بيقول يعني. عشان كده لما الخدمة السرية الأمريكية شَكِّت إنه جاسوس وسألت عنه الكاتب البريطاني لورانس داريل اللي كان صديق قريب منه في الوقت ده، لورانس رد بإن قصيري ما عندوش وقت لحاجة غير إنه ينام مع الستات.

والخدمة السرية كان عندها سبب وجيه عشان تقلق من الأناركي الشيك، اللي كان معروف باسم «فولتير النيل» واللي تريقته كانت بتشوي زي شمس الصحرا، وكانت بتقلل من كل أشكال السُلطة. وفي روايته «العنف والسخرية» المناضلين كانوا بيستخدموا التريقة والسخرية بدل من العنف كسلاح سياسي ضد جبروت الدولة.

قصيري كان واخد صف الناس المنسية طول حياته زي الحرامية وبنات الليل والعمال اللي أصحاب الشغل بيستغلوهم، والناس المشردة الجعانة، واحتقر الماديَّة وبعد عن جري الوحوش؛ ورا الشهرة والفلوس. وفي رواية «شحاذون نبلاء» اللي اتنشرت في سنة 1955، واللي بتُعتبر دايما أهم أعماله، بطلها أستاذ جامعة لقى راحته في إنه يبقى صايع، عشان يثبت إن الشحاتين كمان ليهم حرية الاختيار. وفي «كسالى الوادي الخصيب» واللي اتنشرت سنة 1948 تلقى شخصية قررت باختيارها تنام سنة كاملة، وشخصية تانية قرر ما يتجوزش بس عشان خايف من تغيير مواعيد نومه، وفي قصة قصيرة قبلهم كان السكان في الحي الفقير بيتخانقوا مع أي حد يحاول يمنعهم إنهم يشخَّروا لحد الضهر.

كان النوم وأحلام اليقظة وخيالات دماغ الحشيش عبارة عن طقوس روحانية بالنسبة للكاتب وأبطاله الصايعين. والبطالة بالنسبة له ما كانتش مجرد أسلوب حياة، دي كانت بتوفر له أعظم رفاهية وهي الوقت إنه يفكر وبالتالي بتدي له الفرصة يستمتع بالحياة دقيقة بدقيقة. ورسالته الواضحة للناس اللي ربنا نسيهم (واللي بالرغم من كده هما ما نسيوش ربنا) كانت إن الجنة مش ضايعة، لكن معظمنا بقى مشغول عن إنه يلاقيها في متع الدنيا البسيطة.

وبالرغم من كده، كان فيه رسالة تانية كئيبة مستخبية. في الواقع، الحياة دقيقة بدقيقة كانت في نفس الوقت معناها إننا نعيش نفس الدقيقة مرة بعد مرة بعد مرة. وكأن الوقت وقف بالنسبة لقصيري بمجرد إنه استقر في باريس. في سنة 1945 حجز أوضة صغيرة في فندق في باريس اسمه لا لويزيان في شارع السين، وفضل هناك لحد ما مات، كان بيصحى كل يوم على الضهرية زي أبطال رواياته، وبيلبس بشياكة زي عادته وبيروح يتغدّي في مطعم براسيري ليب. ومنه يطلع على كافيه دو فلور أو ليه دو ماجو ويقعد يتفرج على اللي رايح واللي جاي. بعدها ييجي معاد قيلولته المقدسة. وعيد من الأول وكرر لما لا نهاية. وقصيري اللي وصف النوم بإنه أخو الموت، عاش حياة متحنطة غريبة بتفكرنا بمقولة لصامويل بيكيت: «النوم لحد الموت / وصفة مريحة / لعلاج مرض الحياة».