لعلنا ننام: مشقة النهوض من الفراش؛ مشقة الاستلقاء على الفراش[1]                         

مقال لآرون شوستر *

ترجمة: طارق عثمان

*  آرون شوستر، مدرس الفكر النظري بمعهد ساندبرج بأمستردام

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الاخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


بيتر هاريسون نائمًا، لوحة لجون سنجر سارجنت، عن wikiart

أعلنت دعاية إشهارية جديدة لشركة «بيوتيريست» (Beautyrest) لصناعة المراتب عن أن «إنجاز النوم هو الإنجاز الجديد»، وشبَّهتْ النائمين بالسبَّاحين والدرَّاجين والعدَّائين: ففي طلب التفوق البشري، ما يهم حقًا هو الكمال التقني.[2] وعلى الرغم من أنني لستُ من هواة الرياضة، أعترف بأن فكرة اعتبار النوم ضرب من التمرين البدني، بل حتى ضرب من المهارة الرياضية، قد راقت لي على الفور: هل سيجعلون من النوم، عما قريب، حدثًا أوليمبيًّا، له فئاته الفرعية المتمثلة في النعاس الخفيف، والإغفاء القصير، و-أكثرهم جاذبية- السُبات العميق؟ على الأقل ثمة شيء واحد هنا يُشبه الأولمبياد: مع الاستعمال الشائع جدًا للأدوية المنومة، رياضة النوم المعاصرة بمثابة فضيحة مخدرات عملاقة.

مِن علامات زمننا النيوليبرالي الكاشفة، استعمار النوم بواسطة واجبات الإنجاز والابتكار والتفوق. من وجهة نظر اقتصاديَّة تقليديَّة، النوم مَضْيَعةٌ تامَّة للوقت (المال لا ينام أبدًا!)، لكن هذا الحكم يتغيَّر بمجرد أن نفكر في وقت النوم لا باعتباره خسارة مؤسفة، وإنما باعتباره استثمارًا ثمينًا في مستقبل اليقظة المُنتِجة. ومن هنا نجد الصراع الطبقي في النوم: مَن سيتحكم في وسائل الراحة والهجوع، ما التقنيات التي ستعزز من نجاعة ساعات سباتنا، وأيَّة شركات ستتربح من وراء بيعها للجموع المنهكة تمامًا من فرط التعب؟ فكلما غدت الحياة محكومة بضغط الإنجاز، ساء نومنا، واحتجنا إلى المنومات حتى نعزز من راحتنا، وأضحت أحلام ليالينا أحلام بالسبات المطلق بعيد المنال.

متناولًا لهذه العِلة المعاصرة، ربما يكتب كافكا جديد، يوما مًا، قصة فنان، «فنان النوم» هذه المرة، وليس فنان الجوع،[3] قصة تدور حول أستاذ في النعاس، مايسترو، يجذب الجماهير للفرجة على عروض نومه الأسطورية. في البداية، يُسْحَر المتفرِّجون بقدرة فنان النوم على الغفو كما يحلو له، دون الحاجة إلى حبوب منوِّمة أو عصابات رأس ماركة سونيك أو نظارات ضابطة للإضاءة أو غيرها من الأدوات العصرية الرائجة، ومهما كانت الأوضاع غير مواتية. تحتشد الجموعُ حول فراشه -وهو شيء لا يستحق النظر، مجرد حصيرة بالية (تمامًا كالقش الموجود في قفص فنان الجوع)- وتحدق تلك الجموعُ في ملامح وجهه المطمئنة على نحو خارق، والتي لها تأثير مُهدئ، بل وحتى مُنَوِّم على الجمهور. وأولئك الذين يغلبهم النعاس، دومًا ما يستيقظون قبل الفنان نفسه، الذي يتفوَّق عليهم، بكل يسر، في مآثر الغياب عن الوعي. لكن هذه الموهبة الإعجازية على ما يبدو، لم تكن في عين فنان النوم شيئًا استثنائيًّا على الإطلاق، وذلك بما أنه ينام دونما مجهود يُذكَر (كفنان الجوع الذي يصوم دونما مجهود يُذكَر). وعلى مَن يسأله عن سبب نومه، يرد الفنان قائلًا: «صدقني، لو كنتُ وجدت شيئًا يستحق الاستيقاظ من أجله، لاستيقظتُ مثل أي شخص آخر» (معيدًا لصياغة رد فنان الجوع على مشرف السيرك عندما سأله عن سبب صيامه: «صدقني، لو كنتُ وجدت الطعام الذي يُمتِعني، لأكلتُ مثل أي شخص آخر»). ثم تنتهي القصة بنهاية حزينة: في نهاية المطاف، يسأم الناس من هذه العروض الناعسة -والمثيرة لضرب من القلق، والنفور من الخواء- ويتوقفون عن المجيء لمشاهدة العروض. ومع اضمحلال شهرته، ينبري فنان النوم لأداءٍ أخير، يحطم به الرقم القياسي، سبات يفوق كل سبات آخر، سبات لن يستيقظ منه أبدًا، أو على الأقل لم يستيقظ منه حتى الآن - فلا أحد يعرف هل مات بالفعل، أم أنه لا يزال يؤدي أعظم عرض نوم في مسيرته الفنية، ولا أحد يريد حتى أن يتجشم عناءَ التثبُت من الأمر (تمامًا كحال فنان الجوع المنسي في قفصه داخل السيرك). وفي أحد الأيام، كُنِس الفنانُ الغائب في سباته، وحصيرتُه البالية، بفظاظةٍ (تمامًا كفنان الجوع وقشِّه)، وحلَّ محلَ راحته السابق متجرٌ جديدٌ برَّاق لبيع المراتب (كما حلَّ النمرُ محلَ فنان الجوع).

وكما عرف أبلوموف،[4] أعظم فنَّاني نوم الأدب الروسي قاطبةً، تتألف شِعريَّةُ الفراش من طرحها، عند كل صباح، لسؤال هاملت الوجودي: «"أكون أو لا أكون!"- رفع أبلوموف نفسه قليلًا من على كرسيه، لكنه جلس على الفور، مرة ثانية، بعدما فشل في العثور على خُفَّيه تحت قدمه».[5] لقد اختار ألا يكون إذن. إنها تفصيلة صغيرة التي أفسَدَتْ كل خطط أبلوموف؛ وجود خُفَّيه في الموضع الخطأ هو العقبة الصغيرة جدًا، لكن الحاسمة، التي حالت بينه وبين النهوض. إن الفرق بين الوجود وعدم الوجود مُجْمَلٌ في هذا الاختيار المبتذل بين السرير والشبشب الذي يشتمل على الدراما الميتافيزيقية برمتها (أو الاختيار بين الكرسي والشبشب، في حالتنا هذه، فأبلوموف قد نجح بعد عناءٍ في النهوض من سريره والجلوس على مكتبه). لا يتعلق الأمر هنا بمجرد مشقة بسيطة، فالشبشب الضائع يكتسب أهمية استثنائية بترميزه لوضعية الشخص «الأبلوموفي»: عطالة تقاوم القوة الدافعة للحياة، وترفض الخضوع لضغط الإنجاز. نظير مناقض لمأزق أبلوموف هذا نجده في قصة دانييل خارمس[6] الهزلية التي تدور حول معضلة النوم. يتعلق الأمر بواقعة حدثت لبيتراكوف، وهي شخصية بوسع المرء أن يتخيَّل باستر كيتون عجوزًا، في نحو السن الذي مَثَّلَ فيه فيلمَ صمويل بيكيت، فيلم (1965)،[7] يؤدي دورها. وإليكم الواقعة:

«أراد بيتراكوف، ذات مرة، أن يأوي إلى الفراش، وملقيًا لنفسه، سقط على الأرض عوضًا عن السرير، سقطةً عنيفة لدرجة أنه ظل مطروحًا على الأرض عاجزًا عن النهوض.  

ثم استجمع بيتراكوف ما تبقى من قواه، ونهض على يديه وركبتيه. لكن خارت قواه وسقط على بطنه كرةً أخرى، وظل طريحًا هناك.

ظل منطرحًا على الأرض لنحو خمس ساعات. في البداية كان مستيقظًا، لكن النوم غلبه بعد ذلك.

أنعش النوم قوة بيتراكوف. فاستيقظ منتعشًا، ووقف على قدميه، وتمشى في أرجاء الغرفة، ثم استلقى على السرير بحذر هذه المرة. وفكر قائلًا: «حسنًا، الآن بمقدوري أن أنام». لكن الآن هو لا يشعر بحاجةٍ شديدة إلى النوم. لذلك ظل بيتراكوف يتقلَّب في الفراش يأكله الأرق.

وهذا كل ما جرى، تقريبًا».[8]

في حالة خارمس، ليست المشقة في أن ينهض المرء من الفراش وإنما في أن يستلقي فيه. وبذلك يكون لدينا صنفيْن أساسيَّيْن من الفشل فيما يخص الفراش، يمكن تسميتهما بـ«مناورة أبلوموف» (الفشل في النهوض من الفراش: ضياع الشبشب) و«واقعة بيتراكوف» (الفشل في الاستلقاء على الفراش: السقوط على الأرض). فراش بيتراكوف معادل للخيبة البشرية. لكن في هذا المصير أيضًا -وهنا تكمن الكوميديا- ثمَّة إشباع غير متوقع يجد سبيلَه إلينا رغمًا عن كل القيود الإنسانيَّة، المفرطة في إنسانيتها. تتضمَّن الواقعةُ التي يصفها خارمس إخفاقًا طريفًا للرغبة: لم يحصل بيتراكوف على النوم الذي يشتهيه، لكنه لم يكن، في نهاية المطاف، مُتعَبًا على أيَّة حال (وهو ما أغضبه أكثر). ما جرى هو أن نومة هانئة في الفراش قد جُنِيَتْ ثمرتها، على نحو أكثر مباشرةً واختصارًا، بواسطة غفوةٍ قاسية على الأرض. إن عبارة خارمس الختاميَّة المتهكمة «وهذا كل ما جرى، تقريبًا» تُخفي ورائها المعنىَ الأعمق لواقعة بيتراكوف. أليس هذا مصير الرغبة البشرية مُخْتَصَرًا في أساسيَّاته المجرَّدة: أن تفشل في الحصول على ما ترغب فيه، ثم تتوقف عن الرغبة فيه، بفضل إشباعٍ شارد تجده في أثناء سعيك إليه؟ فعلى الضد من فِتنة مراتب الأداء العالي، كل ما تحتاج إليه، أحيانًا، هو أن تحتضن الأرضية. لندع تقنيي النوم (techno-sleepers)ينالون راحتهم مُفرطة النجاعة؛ أما نحن فسنجد نومنا في أي مكان يتيسر لنا الحصول عليه فيه.


[1] Aaron Schuster, perchance to sleep: Trouble getting out of bed; trouble getting into bed, cabinet, 11 march, 2019.

*العنوان الأساسي للنص: perchance to sleep، بمثابة إعادة صياغة لعبارة هاملت «to sleep, perchance to dream» -من المونولوج الشهير في المشهد الأول من الفصل الثالث من المسرحية، الذي يبدأ بـ«أكون أو لا أكون؟ تلك هي المسألة»- التي  يتمنى فيها النوم، أي الموت، لكنه يخشى أن يكون الموتى يحلمون كما النائمين، وبالتالي حتى لو مات سيظل مطاردًا بالكوابيس، بنفس الطوام التي تؤرقه وهو حي. (م).

[2] شاهد الإعلان هنا:  https://www.youtube.com/watch?v=KCcfxKn9Fpc. (م).

[3]  فنان الجوع، قصة قصيرة لكافكا، تحكي عن فن الصيام، الذي كان رائجًا في الأيام الغابرة، لكنه لم يعد كذلك للأسف، فقديمًا كان يؤدي فنان الجوع عروض صومه المطلق أمام جماهير غفيرة تأتي من كل حدب وصوب للفرجة على فنه. أما الآن، ومع انحطاط فنه، يطوف فنان الجوع في قفص، مع متعهده الخبير، من مدينة إلى مدينة، ليعرض صيامه أمام نظرات البالغين المُستَغرِبة ونظرات الأطفال المرتاعة. يجلس فنان الجوع في قفصه لا يفعل شيئًا سوى أنه لا يأكل، وذلك لمدة أربعين يومًا فقط، لأن بعد هذه الفترة، بحسب المتعهد، لا يمكن جذب انتباه الجمهور، ثم يقطع الفنان صومه (رغمًا عنه، فهو يريد أن يستمر في صيامه)، وينتهي العرض ليبدأ عرض جديد. وللتأكد من أنه لا يأكل خلسةً، يُكلَّف ثلاثة أفراد، جزارين عادة، بمراقبة الفنان. لكنهم لم يكونوا يبالون به قط، كانوا ينامون، ويلعبون الورق أمام القفص، وكان الفنان، ومن باب رشوتهم، يشتري لهم وجبة الفطور كل يوم، لعلهم يمحضوه انتباههم، ويسهروا على مراقبته. ينتهي الحال بالفنان في السيرك، بجوار الحيوانات في أقفاصها، الفرق أن لا أحد كان ينتبه إليه قط، ونُسِيَ تمامًا، إلى أن انتبه أحد المشرفين إلى أن ثمَّة قفص فارغ مُهدَر، ففتح القفص، ووجد الفنان محتضرًا، فسأله عن سبب استمراره في الصيام، وسأله الفنان، بدوره، عن مدى إعجابهم بفنه، بعدما تأسف له! فدفنوه مع قشِّه، بكل بساطة، ووضعوا نمرًا في مكانه. (م).

[4] بطل رواية أبلوموف الشهيرة لإيفان غونتشاروف، الصادرة في 1859، وقد تُرجمت إلى العربية مرتين. (م).

[5] Ivan Goncharov, Oblomov, trans. David Magarshack (London: Penguin, 2005), p. 175.

[6] الشاعر والكاتب السوفيتي الطليعي (ت. 1942).

[7]  شاهد الفيلم هنا: https://www.youtube.com/watch?v=CmJ3A9sFyGM.(م).

[8] Daniil Kharms, Today I Wrote Nothing, trans. Matvei Yankelevich (New York: Overlook, 2007), p. 56.