لماذا يُشبه تعلُّم لغةٍ ثانية علاقة حبٍ مُحرمة؟

مقال لماريانا بوجوسيان*

*ماريانا بوجوسيان أستاذة في علم النفس الثقافي بمعهد التعليم الدولي للطلاب بأمستردام (IES Abroad)، وبكلية PPLE (السياسة وعلم النفس والقانون والاقتصاد) بجامعة أمستردام في هولندا.

نشر على موقع aeon، ديسمبر 2019

ترجمة مريم ناجي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


نابوكوف يدون ملاحظاته، عن aeon

يُشبه تعلّم لغةٍ جديدة دخول علاقةٍ جديدة. ستُصادقك بعضهن بسرعة، وأخريات سيزحفن مُتسللاتٍ من ذاكرتك مثل المعادلات الحسابية والتواريخ شديدة الأهمية للامتحان في اليوم الأخير من المدرسة. وأحيانًا، سواءً بالصدفة البحتة أو كنتيجةٍ لأوديسةٍ تستمر مدى الحياة، ستؤول بكَ بعض اللغات إلى حافة الحب.

هناك لغاتٌ ستستهلكك بأكملك بينما تحاول تطويعها لتكون لغتك؛ تشَرّح تراكيب الجمل، تسردُ تصريفات الأفعال، تُعبّئ دفاترك بأنهارٍ من أحرفٍ جديدة، تجري بقلمك على منحنياتها ونتوءاتها مرارًا وتكرارًا، مثلما تمشي بأصابعك على وجه حبيبك. تزدهر الكلمات على الورق، تتضافر الفونيمات لتكوّن ألحانًا، تتذوق الطعم العاطر للجُمل، حتى عندما تخرج من فمكِ متعثرة بغرابةٍ مثل قوالب مبنيةٍ من رموزٍ غريبة. تحفظُ عن ظهر قلبٍ النثر وكلمات الأغاني وعناوين الصُحف فقط لتُبقيهم على شفتيك بعد كل مغيبٍ  للشمس وبزوغ لها.

أفعالٌ بعد أحوال، أسماءٌ بعد ضمائر، وتتعمق جذور علاقتِكما. رغم ذلك، كلما اقتربتَ منها أكثر، أصبحتْ أكثر وعيًا بالهوّة الأشبه بالسراب بينكما. كم هي شاسعةٌ هوّة المعرفة؛ تلزمكَ حياةٌ كاملة لتقطعها. لكنكَ لا تهاب شيئًا، بما أن الطريق لحبيبك يشع فضولًا وتساؤلًا مُلحًّا. ما الحقائق التي ستكتشفها وسط الحروف والأصوات الجديدة؟ حقائقٌ عن العالم؟ عن نفسك؟

وكما في كل العلاقات، تفتر النشوة في النهاية. لكنك، وبمجرد أن تستعيد رشدك، تستمر في التشريح والحفظ والاستماع والتحدث. لُكْنَتُك حَرُون، أخطاءكَ حَتْمِيّة، والقواعد لا نهائية، كما هي الاستثناءات. كلماتٌ مثل (رونق، كان يا ما كان، بُورِكتَ) تفقد سحرها. لكن اِنكبابكَ عليها وحاجتك لها غدت أكثر جديةً مما سبق. أبحرتَ بعيدًا جدًا عن الوطن على أن تُديرَ ظهركَ وتعود الآن. تشعر بالالتزام والهشاشة، وأنت تثق في لطفِ هذه الكلمات. وجزاءً لعهودكَ المتجددة، تأتي اللغة حاملةً عطايا الإلهام والتواصل -ليس فقط للوافدين الجدد، لكن لنسخةٍ جديدةٍ منك.

عربَدَ كتُّابٌ مشهورون كُثر في عطايا لُغاتهم الثانية. مثلًا، عاش «فلاديمير نابوكوف» في الولايات المتحدة لسنواتٍ قلائل قبل أن يكتب «لوليتا» (نُشرت في 1955)، الرواية التي وُصِفت بأنها «رسالةُ حبٍ للغة من شخصٍ ثنائي اللغة» ولُقِب نابوكوف بـ«جَهْبَذ النثر الإنجليزي». كتب الإيرلندي «صمويل بيكيت» بالفرنسية ليهرب من فوضى الإنجليزية. نجح الكندي «يان مارتل» في الكتابة، ليس بالفرنسية، لغته الأم، بل بالإنجليزية؛ لغةٌ قال عنها إنها تمنحه «بُعدًا كافيًا للكتابة». هذا البعد، كما قالت الروائية التركية «إلِيف شافاك» عن الكتابة بالإنجليزية [لغتها الثالثة]، يُقرّبها أكثر إلى الوطن.                 

عندما جلس «هاروكي موراكامي» على طاولة مطبخه ليكتب روايته الأولى، شعر أن لغته اليابانية تُعيق طريقه. تنبَثق أفكاره منه كما لو أنها تأتي من حظيرةٍ مكتظةٍ بالماشية، كما قال عام 2015. ثم حاول الكتابة بالإنجليزية، بمفرداتٍ محدودة وصياغةٍ بسيطة في متناول يديه. وبينما هو يُترجم («يُعيد غرس» كما يسميه) جُمَله الإنجليزية المُوجزة «والمجردة من كل الزوائد الدخيلة» إلى اليابانية، نَتج الأسلوب البسيط المميز الذي أصبح مرادفًا لنجاحه العالمي بعد عقود. عندما بدأت الروائية «جومبا لاهيري»، الحائزة على البوليتزر، الكِتابة بالإيطالية -اللغة التي وقعت في حبها وعكفت على تعلُّمها لأعوام- شَعَرت وكأنها تكتبُ بيدها الأوْهنَ. كانت «عارية وحائرة وضعيفة التسليح». رغم ذلك، كتبت في عام 2015، أنها شعرت بالخفة والحرية، وبأنها محميةٌ ومبعوثةٌ من جديد؛ مكّنتها الإيطالية من إعادة اكتشاف لماذا تكتب؛ «الجذل والعوّز».

لكن يندر أن تترك شؤون القلب أي شيءٍ بلا مساس، بما في ذلك لغتنا الأولى. تحتفظُ جدتي بمجموعةٍ من الرسائل التي كتبتُها لها بعدما انتقلتُ من أرمينيا إلى اليابان. ومن حينٍ لآخر، تُخرج حُزْمة من الأظْرُف تحمل طوابع يابانية وتحتفظ بها بجانب جواز سفرها، وتقرأها بتمعنٍ شديد. تحفظُ كلمات الرسائل عن ظهر قلب، لكنها تُصر بكبرياءٍ على إعادة قراءتها. وفي أحد الأيام، بينما نجلس متقابلين وبيننا شاشةٌ وقارة، هزتْ جدتي رأسها.

تُخبرني بتشاؤمٍ وهي تتفحص كتابتي بنظارتها الكبيرة أن شيئًا ما تغيَّر. مع كل رسالة، شيءٌ ظل يتغير.

أردُ عليها بأنه طبعًا يا جدتي هناك شيءٌ تغيّر. لقد انتقلت لليابان. أصبحتُ مشهورة. أنا...

لا. تتحسر بتأنيب ضمير معلم، تغّيرت طريقة كتابتكِ. في البداية كانت الأخطاء الغريبة في التهجئة بين كل سطرٍ وآخر. ثم بدأت تظهر الأفعال والأسماء فجأةً في المواضع الخطأ.

يحلُّ الصمت علينا، وأُبقي عينايَّ على موكب الحروف الإنجليزية على لوحة المفاتيح.

تخبرني أنه ليس بالأمر الجلل، لتعزي نفسها على الأغلب، لكنه أمرٌ عظيمٌ كفاية لأحبس أنفاسي كلما تعثرتُ في أخطاء ما كنتُ أقع فيها من قبل.

تفتح ظرفًا آخر.

ثم تتأوه، علامات الترقيم! هنالك الكثير من الفواصل، من حيث لا نحتسب. ثم نقطة واحدة في جُملكِ.

ترفع نظارتها وتضعها على شعرها الأبيض المنتفخ وتبدأ في طي كنوزها وتُعيدها في منديل جدي المتوفي.

ثم تقول بابتسامةٍ مصطنعة ومهزومة بأن الرسالة الأخيرة التي أرسلتها هي حيثما كل شيءٍ تغير. كتبت بحروف لغتنا، استخدمت كلماتنا، لكنها كتابةٌ ما عادت تبدو أرمينية.

الحقيقة هي أن بِدء علاقةٍ حميمية مع لغةٍ جديدة يلوّن في العادة كل شيء. تتوقع عيوننا لقاء الكلمات الجديدة. تَألَفُ آذانُنا الأصوات الجديدة. تَصمّ أقلامنا الأحرف الجديدة. وخلال استيلاء الهوس على حواسنا، يَثبُت تشريح اللغة في عقولنا. تتموضع المسارات العَصبيّة، وتتكون الوصلات، وتندمج شبكات الدماغ. تزداد المادة الرمادية كثافةً، وتزداد المادة البيضاء قوةً.[1] ثم، تظهر شذراتٌ من الألوان الجديدة في الرسائل المُرسلة للجدات.

يُسمي علماء اللغويات هذه العملية «التداخل اللغوي»؛ عندما تشوش اللغة الجديدة على القديمة، مثل حبيبٍ جديد يُعيد ترتيب غرفة نومك، كما لو أنه يقول «هكذا ستسير الأمور هنا من الآن فصاعدًا». تكشف الكتابة، بطريقةٍ ما، هذا التداخل (هذا الغدر، من وجهة نظر جدتي) أكثر مما يظهره التحدث. ربما بسبب أن كلماتنا، عندما ننطقها، تكون تحت رحمة تعبيرات وجوهنا ومستويات أصواتنا، وكما يقول الكاتب الفرنسي «جي دو موباسان»: «إنما الكلمات السوداء على ورقةٍ بيضاء ما هي إلا الروح عارية».

رغم مرور عقدين على آخر مرةٍ كتبت فيها بالأرمينية، ما كان على جدتي أن تنوح على لغتي المندثرة؛ نسيان اللغة الأم، مثل الحب الأول، شاقٌ جدًا. إنها وفيةٌ وغفورة. حتى عندما يذوي كلامنا أو تمتلىء كتابتنا بالزلات. حتى عندما تبدو حروف لغتنا الأصلية غريبةً علينا، وتدوي أصواتها بصدى مهجور. في النهاية، لُغتنا الأم هي من ربَّتنا. عَرِفتنا عندما لم نعرف ذواتنا. راقبتنا ونحن نتعلم كيف نتكلم، وكيف نكتب، وكيف نُمنطق الأمور. علمتنا كيف نُحب وكيف نحزن. أطلعتنا على القواعد والاستثناءات. تدرك أن صداها سيدوي بين حوائطنا بعدما نصبح ضيوفًا في منازلنا: ابتداءً من الطريقة التي نُرَّكب بها الكلمات الجديدة، ووصولًا إلى الطريقة التي نهمس بها صلواتنا القديمة. لذا هي تحرسنا بهدوءٍ ودون مشاكسة، بينما نحن ننجرف إلى أحضان لغةٍ أخرى. هناك، في التراصف بين الجهل والتساؤل، التقييد والحرية، المهابة والإجلال، الخيبة والبهجة، ستشاهد كتَّابها يمارسون ما دعاه موراكامي بحقهم المكتسب في «أن يخوضوا تجاربهم مع إمكانيات اللغة». هناك، في غمرة الانتماء والانعزال، ستجد اللغة الأم أن أبناءها وبناتها يعثرون على ذواتهم.


 المادة الرمادية والبيضاء هما مادتين مكونتين للجهاز العصبي المركزي.[1]