مقال لحسين الحاج

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

من فيلم نادي القتال

مين أول واحد قال "دا شعب ما يمشيش إلا بالبيادة"؟ هل هو نفسه كان عايز بيادة تمشيه؟ أو هو عنده بيادة أصلاً؟ مش مهم. السؤال اﻷهم: هو ليه لازم بيادة من اﻷساس؟ الكلام عن رغبة الجماهير في الخضوع للقوة مش جديد على التحليل النفسي الجماعي. جوستاف لو بون (Gustave Le Bon) في كتاب "سيكولوجية الجماهير" في نهاية القرن التسعتاشر سبق الكل في دا، وجاوب على سؤال "ليه لازم بيادة من اﻷساس؟". لو بون كان شايف إن الجماهير مالهاش عقل واعي، إنما هي كلها لاوعي خالص، لاوعي غرايزه العنيفة بتتحكم فيه طول الوقت، عشان كدا بتحتاج لوعي متمثل في زعامة فرد قوي قادر يمشيها بالبيادة ويشوف لها مصلحتها.

بس بالنسبة للفيلسوف جيل دولوز (Gilles Deleuze) والطبيب النفسي فليكس جواتاري (Felix Guattari) الرغبة في القمع بتيجي من تصديق الناس لفكرة إنهم لازم يقمعوا رغباتهم، ومن خلال الكبت الناس بتكون جاهزة لتقبل الحكم الفاشي. دولوز وجواتاري شافوا إن الفاشية مش مجرد سياسة للحكومات، واستعاروا من لغة الاقتصاد عشان يفرّقوا ما بين سياستين: السياسة الكلية والسياسة الجزئية. الفاشية الكلية هي مجموع الفاشيات الجزئية في عقل كل واحد فينا، اللي بتتمثل في رغبتنا الواعية إننا نكون جزء من بنية السلطة، زي لما بناخد صف اﻷغلبية وبنحتقر اﻷقلية، وساعتها بيصبح مصدر الفاشية الكلية هو غرامنا بإننا دايما نكون محكومين. وبالتالي، الجديد هنا هو التحليل اللي بيقدموه للعلاقة بين الجماهير والسلطة الاجتماعية.

في رأي دولوز وجواتاري، فيه سلطة خاصة مش بس بتدعم السلطة الاجتماعية، إنما هي كمان بتشارك في تطوير آليات السلطة دي، وهي سلطة التحليل النفسي. الاتنين كانوا شايفين إن المدرسة الفرويدية في التحليل النفسي بتخلي الناس تقبل الاستبداد، ومش بتسمح للرغبة من إنها تتحرر من حب الخضوع والقمع. عشان كدا دولوز وجواتاري قدموا نوع جديد من التحليل مش مبني على فكرة نموذجية عن السواء النفسي ولا السلطة وقمعها اسمه "التحليل الفصامي" (schizoanalysis).

التحليل الفصامي مفهوم طوره دولوز وجواتاري في كتابهم "أوديب المضاد" (1972). المفهوم بيوسع أفكار فلهلم رايش (Wilhelm Reich) في الطب النفسي، اللي سموها الطب النفسي المادي. رايش اتبع الطريقة دي بعد تفسيره لأساس القمع النفسي في بيئة القمع الاجتماعي، وإن لما دافع اللذة بيتقمع جوانا، السلوك الاجتماعي العدواني بيكون ردة فعلنا، وبالتالي بيشوف الطريقة اللي الناس بتعبر بيها عن نفسها مرتبطة بالبيئة اللي اﻷفراد بيتربوا فيها. فلو اتربوا في بيئة بتكبت الرغبة وبتنكر دافع اللذة، اﻷمر هينتهي بيهم بتأييد سياسات السلطة، ﻹن بعد قمع كل الرغبات الناس ما بيبقاش قدامها غير الرغبة في قمعها من نفسهم.

التحليل الفصامي بيهدف للتخلص من البنيات السلطوية النفسية السياسية دي عشان يوصلنا لمجتمع ما بيكبتش الرغبة وما بينكرش الدافع الجنسي، واﻷهم من كدا إنه رد فعل على الطرق السلطوية في ممارسة التحليل النفسي، حيث إن التحليل النفسي الفرويدي اللاكاني (نسبة للمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان) مش بس فشل في نقد المنظور اﻷوسع من العوامل الاجتماعية والتاريخية اللي نشرت اﻷمراض النفسية، لكنه بيعلم الجماهير إنكار رغباتها وأي خيالات أو ميول مش متطابقة مع اﻷعراف الاجتماعية، ويبقى أي استسلام للرغبات دي انحراف مرضي، وأي قمع ليها طبيعي وصحي. دولوز وجواتاري كانوا شايفين إن المفروض إن المعالجة النفسية الثورية تنتقد النماذج السياسية النفسية دي من التحكم.

بس إشمعنى الفصام؟ منظومة الطب النفسي بتشوف إن الفصام مرض موصوف بالهلاوس والضلالات وتدهور في تجربة الفرد للواقع، يعني الناس اللي بتتشخص بالفصام عندهم مشكلة في معرفة الواقع من الخيال، وأحيانا بيختبروا مشاعر مختلفة بالذات بتسيطر على عقولهم بتبان من خلال هلوسات ذهانية من اﻷصوات والرؤى. مريض الفصام دايما كلامه وأفكاره مش مترتبين وبيعاني من خلل واضح في العلاقات الاجتماعية ﻹن قدراته الطبيعية على التواصل بايظة. كل اﻷعراض دي مالوش إرادة فيها وفاقد السيطرة عليها، عشان كدا الطب النفسي بيوصف ذاتية مريض الفصام بإنها هذيان ذهاني والفصام بإنه أعنف اﻷمراض النفسية وأعقدها.

التحليل الفصامي بيبني على قدرة مرضى الفصام إنهم يلاقوا ثغرات وعيوب واختلالات في النظام السياسي النفسي، لأن الإنفصام في عقولهم بيكشف التجارب المتشظية الكتيرة للواقع أثناء النوبة الذهانية. في المقابل التحليل الفرويدي اللاكاني مركز على حل وتسوية أي انقسامات داخل نفس المريض، وبالشكل دا الطب النفسي بيحاول سد ثغرات الواقع من خلال إخضاع المريض لتفسير طبي سلطوي، لكنه كمان بيسد معاه ذاتيته وبيلجمها، أما التحليل الفصامي بيتعاطى مع ذاتية المريض بناء على تدفق الرغبة جواه مش بكبتها، ومن هنا بيبقى هدفه مش معالجة مريض الفصام، لكن معالجة النظام اللي بيسبب الفصام ويمد في بقاءه.

التحليل النفسي التقليدي في رأي دولوز وجواتاري بيساهم في تحسيس الناس بإنهم ناقصين، وبشكل ما، هو مُصمَّم عشان يحسسنا بالمرض بدافع إنه يبيع لنا الدوا، بس في النهاية اﻷدوية بتعالج اﻷعراض المرضية اللي بيفسرها دكاترة الطب النفسي على إنها مجرد اختلالات في كيميا المخ ومالهاش علاقة بقمع السلطة الاجتماعية لينا، لكن دور التحليل الفصامي تحديد مصدر اختلالات الواقع اللي حاصلة عند المريض النفسي، وفي النهاية تساعده على خلق نوع جديد من الذاتية.

دولوز وجواتاري ما كانوش لوحدهم المهتمين بعلاقة الرأسمالية بالفصام (الاجتماعي بالنفسي)، زي ما كتبوا تاني عنهم في كتاب "اﻷلف هضبة" (1980)، كمان الطبيب النفسي الاسكتلندي رونالد ديفيد لانج (Ronald David Lang)، واللي هو علم من أعلام الحركة المضادة للطب النفسي، اشتغل كتير على اﻷساس الاجتماعي واﻷسري للفصام في كتبه زي "الذات المنقسمة" و"سياسات اﻷسرة" اللي قال فيه، "مرة ماركس قال: تحت كل الظروف الزنجي جلده إسود، بس تحت ظرف اجتماعي واقتصادي معين هو مجرد عبد. برضه تحت كل الظروف ممكن الواحد يتزنق ويتوه عن نفسه، ويلف حوالين روحه ويرجع طريق طويل عشان يلاقي نفسه من تاني، بس تحت ظرف اجتماعي واقتصادي معين هيعاني من فُصام في الشخصية".