الملل نافذة على صباح مشرق

مقال نيل بورتون*

ترجمة: أمل عبد الرحمن

نشر في موقع Aeon، فبراير 2020

*نيل بورتون: طبيب نفسي وفيلسوف، وزميل بكلية جرين تيمبلتون بجامعة أوكسفورد، وأحدث كتبه هو، «الجنة والنار: علم نفس العواطف».

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


لوحة أوجوست تولموش، عن wikipedia

ما هو الملل بالتحديد؟ هو حالة شديدة الإزعاج تنتج عن الاستثارة غير المشبعة أو الحماس غير المتحقق: فنحن متحمسون أكثر من كوننا قانطون، لكن لسبب ما أو لأكثر لا يمكن تلبية هذا الحماس أو توجيهه. هذه الأسباب يمكن أن تكون ذاتية –غالبًا فقر الخيال أو الدافع أو التركيز- أو خارجية مثل غياب المحفزات البيئية أو الفرص. فنحن نريد عمل شيء جذاب وممتع، إلا أننا نجد أنفسنا عاجزين عن فعل ذلك، ومع هذا الوعي المتزايد بالعجز، يصيبنا الإحباط.

الوعي أو الإدراك هو المفتاح الذي يمكن أن يفسر لماذا ترتفع عتبة الملل لدى الحيوانات - إذا ما كان يصيبهم الملل بالأساس. وبتعبير الكاتب الإنجليزي كولن ويلسون: «معظم الحيوانات تبغض الملل، لكن الإنسان يُعَذَّب به»، ولدى اﻹنسان والحيوان يحدث الملل أو يتفاقم بسبب فقدان السيطرة أو الحرية، ولذلك نجده شائعًا بين الأطفال والمراهقين، فبالإضافة إلى أنهم تحت إشراف الأكبر سنًا، تنقصهم الأدوات المعرفية –الموارد والخبرة والانضباط- للتخفيف من حدة مللهم.

دعونا ننظر عن كثب إلى تشريح الملل. لماذا هو أمر ممل للغاية أن نكون عالقين في صالة المغادرة مع استمرار رحلتنا في التأخر؟ هنا نكون في حالة من التأهب الشديد، فنحن نتوقع وصولنا الوشيك إلى بيئة جديدة مُحفزة. ومع حقيقة أنه يوجد العديد من المتاجر وشاشات العرض والمجلات حولنا، إلا أننا لا نبدي أدنى اهتمام بها، بل إنه وبتشتت انتباهنا بينها نجد أنها تفاقم مللنا. ومما يزيد الأمر سوءًا أن الوضع كله خارج عن سيطرتنا وغير متوقع – فالرحلة يمكن أن تتأخر أكثر وحتى يمكن أن تُلغى- ولا يمكن الفرار من ذلك. ومع كل مرة نتفقد ونعيد تفقد الشاشة يتزايد وعينا المرير بكل هذه العوامل وغيرها. وينتهي بنا الأمر عالقين في حالة من التأهب لا نستطيع تلبيته ولا الفرار منه.

إذا كانت حاجتنا إلى اللحاق برحلتنا نابعة من أن مصدر رزقنا أو حب حياتنا يتوقف علي هذه الرحلة (مع كوننا أكثر قلقًا أو انزعاجًا)، نكون أقل شعورًا بالملل من إذا كانت الرحلة تفصل بين السفر أو البقاء في المنزل. وعليه فالملل هو أداء معكوس لحاجة أو ضرورة ما مُتصورَة. فنحن يمكن أن يصيبنا الملل في جنازة أحد أقاربنا من بعيد، لكن ليس في جنازة أحد الأبوين أو الأخوة.

إلى هنا تبدو الأمور مفهومة، لكن يظل السؤال، لماذا الملل أمر مزعج لهذه الدرجة؟ يذهب آرثر شوبنهاور أنه لو أن الحياة في جوهرها ذات مغزى ومُرضية لم يكن الملل ليوجد. الملل إذن دليل على عبثية الحياة، ويفتح اﻷبواب أمام بعض المشاعر المزعجة جدًا والتي نصدها عادة بفورة من النشاط أو بالمشاعر المضادة. هذا هو جوهر الدافع الهوسيّ، والذي يتمثل في منع مشاعر العجز واليأس من الدخول إلى العقل الواعي عن طريق شغله بالمشاعر المضادة من بهجة ونشاط هادف وشعور بالسيطرة، وإذا ما فشل هذا، يشغله بأية مشاعر على الإطلاق.

وفي رواية السقطة (1956) لألبير كامو، يُفضي كلامنس –وهو بطل الرواية- بأفكاره إلى أحد الغرباء ويقول:

«عرفت رجلاً وهب من عمره عشرين سنة لامرأة مشتتة الذهن، مُضحيًا بكل شيء من أجلها، أصدقائه، وعمله، وحياته الجديرة بالاحترام، وأدرك في إحدى الليالي أنه لم يحبها أبدًا. لقد كان يشعر بالملل، هذا كل ما في الأمر، كان يشعر بالملل مثل معظم الناس. ومن ثم فقد صنع لنفسه حياة كاملة مليئة بالتعقيدات والدراما. فلا بد أن يحدث شيء ما - هذا ما يشرح معظم التزامات البشر. لا بد أن يحدث شيء ما، إن كان هذا الشيء عبودية غير محببة، أو حتى حرب أو موت».

إن الذين يعانون من الملل المزمن، أكثر عرضة لخطورة تطوير مشاكل نفسية مثل الاكتئاب والأكل المفرط وتعاطي الكحوليات والمخدرات. فإحدى الدراسات وجدت أنه بعد تعريض بعض الأفراد لحالة من الملل، في سياق تجريبي، اختار العديد منهم تلقي صعقات كهربائية مزعجة فقط لتشتيت أفكارهم أو انعدامها. وفي عالمنا الواقعي ننفق مبالغ معتبرة لمكافحة الملل. فالقيمة السوقية لصناعة الترفيه والإعلام من المتوقع أن تصل إلى 2.6 تريليون دولار بحلول عام 2023، وبمنتهى السخافة نجد الفنانين والرياضيين يتمتعون بمكانة وأجور مرتفعة. وقد وضعت التطورات التكنولوجية الأخيرة موادًا ترفيهية لانهائية في متناول أيدينا، إلا أن هذا لم يزد الأمور إلا سوءًا – ففي جزء منه يزيد من انفصالنا عن واقعنا. فبدلًا من أن نشعر بالاكتفاء والرضا، فإننا نصاب بالتبلد ونصبح في احتياج لمحفزات أكثر وأكثر - للمزيد من الحروب والمزيد من سفك الدماء والمزيد من المصارعة المتوحشة.

الخبر السار هو أن الملل يمكن أن تكون له إيجابياته، فالملل يمكن أن يكون طريقتنا لإخبار أنفسنا أننا لا نقضي وقتنا بأفضل شكل ممكن، وأننا يجب أن نفعل أمور أكثر إمتاعًا وأكثر إفادة وأكثر إرضاءً. ومن هذا المنطلق يكون الملل وسيلة للتغيير والتقدم ومحركًا للطموح، يفتح أمامنا آفاقًا لفرص أفضل مثل الراعي الذي يأخذ أغنامه لمراع خضراء فسيحة.

لكن حتى وإن كنا من القلة القليلة التي تشعر بالرضا والاشباع، فإن إنماء القليل من مشاعر الملل له منفعته، ما دام بالقدر الذي يهيئ لنا الشروط المسبقة لنتمكن من التعمق أكثر في ذواتنا، ونعيد التواصل مع الطبيعة وإيقاعاتها، ونقدر على البدء في الأعمال الطويلة الشاقة والانتهاء منها ونحن بكامل تركيزنا. مثلما يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه الفوز بالسعادة (1930):

«إن جيل يعجز عن تحمل الملل، هو جيل من الصبيان، ومن رجال منفصلين تمامًا عن السيرورات البطيئة للطبيعة، ومن رجال يتلاشى فيهم كل دافع حيوي كما لو كانوا ورودًا مقطوفة وموضوعة في زهرية».

وفي عام 1918 أمضى راسل أربعة أشهر ونصف في سجن بريكستون لمشاركته في مظاهرات الدعوة للسلام، لكنه وجد أن تلك الظروف العارية للسجن ملائمة وميسرة للإبداع:

«أجد أن السجن أمر لا بأس به من عدة جوانب.. فلا توجد لدي انشغالات، ولا قرارات صعبة لأتخذها، ولا خوف من المتصلين، ولا انقطاعات لعملي. فأنا أقرأ بنهم، وكتبت كتابًا، مقدمة في الفلسفة الرياضية وبدأت العمل على كتاب تحليل العقل.. في إحدى المرات عندما كنت أقرأ كتاب ستراتشي (الكتاب الفيكتوريون البارزون) ضحكت بصوت مرتفع جدا لدرجة أن السجّان جاء ليوقفني، قائلًا إنه يجب أن أتذكر أن السجن هو مكان للمعاقبة».

بالتأكيد ليس الجميع مثل برتراند راسل. فما هي أفضل طريقة يمكننا بها نحن البشر الفانون أن نتكيف مع الملل؟ إذا ما كان الملل -كما علمنا- هو حالة الوعي بالحماس غير المتحقق، يمكننا تخفيف وطأة الملل عن طريق تجنب المواقف التي نعجز عن السيطرة عليها، والتخلص من أية مشتتات، وتحفيز أنفسنا، وخفض سقف توقعاتنا، ووضع الأمور في نصابها الصحيح –فندرك كم نحن محظوظون بالفعل- وهكذا.

وعوضًا عن المقاومة الدائمة للملل، فمن الأسهل والأفضل تقبله واستيعابه. فإذا ما كان الملل نافذة على جوهر طبيعة الواقع، ومن ثم على الوضع البشري، فإن مقاومة الملل تشبه رفع الستار. نعم، إن الليل حالك، لكن النجوم تزداد ألقًا لأجله.

لهذه الأسباب، تشجع العديد من التقاليد الشرقية الملل، بوصفه طريقًا نحو وعي أفضل. وفيما يلي واحدة من نكاتي المفضلة عن الزِنْ:

يسأل أحد تلاميذ الزِنْ عن كم الوقت الذي يحتاجه لكي يكتسب البصيرة إذا ما التحق بالمعبد.

يجيبه المعلم: عشر سنوات.

ماذا إذا ما اجتهدت بشدة وبذلت كل ما في وسعي؟ يسأل التلميذ.

يجيبه المعلم: عشرون سنة.

لذلك، بدلًا من مقاومة الملل، سايره، وتسلى به، واستفد منه. باختصار، كن أنت نفسك أقل مللًا. يقول شوبنهاور إن الملل هو معكوس الافتتان، فكلاهما يقومان على الوجود خارج الموقف وليس داخله، وكل منهما يقود إلى الآخر.

ففي المرة القادمة التي تجد نفسك واقعًا في موقف ممل، الق بنفسك داخله تمامًا، بدلًا مما نفعله عادة من محاولة الخروج منه بقدر ما نستطيع. إذا ما بدا لك ذلك مطلبًا صعبًا، فعليك بما يدعو إليه ثيت نات هانه -وهو أحد معلمي الزِنْ- بأن تضيف كلمة «تأمل» إلى أي نشاط تجده مملًا، فمثلًا نقول: «تأمل الوقوف في الطابور».

وبكلمات الكاتب الإنجليزي في القرن الثامن عشر، صمويل جونسون: «بدراسة دقائق الأشياء نتقن فن امتلاك أقل ما يمكن من التعاسة وأكثر ما يمكن من السعادة».


اقرأ المزيد: ابذل جهدًا كي تستفيد من كسلك