شوبنهاور متفائلًا

مقال لدونكان ريكتر*

نُشر بمجلة Philosophy Now

أكتوبر 2019

ترجمة: سارة شاهين

دونكان ريكتر: أستاذ فلسفة بمعهد فرجينيا العسكري

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.

***

شوبنهاور
شوبنهاور، عن Ne criterion

شوبنهاور المتشائم معروف جيدًا. يرى الحياة مثل بندول يتأرجح بين الألم (عندما نريد ما لا نمتلك)، والملل (عندما نمتلك شيئًا فقدنا الاهتمام به). وهو أيضًا يعتقد أن مفتاح فهم الحياة هو التأمل في الكفاح من أجل البقاء، وخاصة من ناحية الحصول على الغذاء. فكر في بيتزا البيبروني: بالنسبة إلى الخنازير والأبقار التي صنع منها البيبروني، الأمر كابوس لا يمكن تصوره: أن تنشأ سجينًا، تذبح، وتقطع، وتؤكل. (الحياة في البرية ليست أفضل كثيرًا، فبدلًا من العيش في مكان مغلق، هناك حياة قوامها الخوف، والكفاح المستمر من أجل البقاء، وغالبًا ما تنتهي بالافتراس حيًا من قبل قطيع حيوانات لاحمة). الجانب الطيب للموضوع أن أحدهم يحصل على وجبة حارة ودهنية. لكن نسبيًا، الجانب الطيب ليس طيبًا بهذا القدر. في ذلك المثال، كما في كل مكان في الحياة، يتفوق مقدار الألم على مقدار اللذة، بشكل هائل.

ويمكن قول شيء مماثل، وإن كان أقل وحشية، عن حياة معظم الناس. نكره المدرسة، ونتلهف على البلوغ، نمقت وظائفنا (أو بطالتنا)، ونتلهف على التقاعد؛ ثم نضيق ذرعًا بآلام وملل وذل الشيخوخة. ومثل الأبقار والخنازير، يكون الموت أفضل بالنسبة لنا.

هذا نمط التفكير الذي ينسبه الناس إلى شوبنهاور، لكنها ليست الصورة الكاملة بأية حال، فشوبنهاور المتفائل لديه أنباء طيبة للمقتنعين بتلك الرؤية الكئيبة. أتظن أن من الأفضل لنا أن نموت؟ حسنًا، كلنا سنموت قبل مرور وقت طويل – وليس لدينا روح يُحتمل أن تعاني الجحيم الأبدي. عندما نموت، نموت، وما كناه يصير إلى تراب.

أهذه أنباء طيبة؟ حقًا؟

نعم! أتظن أن تحولك إلى تراب شيء سيء؟ ربما لمقولة «خلقنا من تراب وإليه نعود» وقع كئيب، لكن التراب عظيم. كما يعبر شوبنهاور في العالم إرادة وتمثلًا:

«تَعَلَّم أن تعرفها قبل أن تحتقرها. تلك المادة الكامنة هناك في صورة تراب ورماد، ذائبة في الماء، ستشكل من ذاتها كريستالة، وتلمع مثل معدن، ثم تطلق شرارة كهربية، وبواسطة شدتها الجلفانية، ستظهر قوة من شأنها أن تحلل التراكيب الأقرب، وتختزل التربة إلى معادن؛ كلا، بل بإرادتها الخاصة، ستشكل من نفسها النبات والحيوان، ومن رحمها الغامض، ستخلق تلك الحياة التي يؤلمك القلق من خسارتها، لأنك ضيق الأفق».

ستموت، لكن المادة التي خلقت منها ستحيا. هذه أنباء طيبة للغاية، لأن المادة مذهلة، وحياتك مفعمة بالألم. المادة التي خلقت منها لا يمكن تدميرها، وستتحول إلى كريستالات ومعادن ونباتات، بل حتى حيوانات. أمر رائع. من ناحية أخرى، أنت -المخلوق من مواد مذهلة - واقع تحت وطأة الضغوط والمعاناة. سيكون من الأفضل أن تنقضي تلك الضغوط وتلك المعاناة.

ليست المادة وحدها هي المذهلة. كل شئ فاتن. لذلك يرسم الفنان البارع أو يلتقط صورة لأي شيء، فتخرج تحفة فنية. غالبًا ما نغفل عن تلك الفتنة الكونية بسبب غرورنا. بكلمات أخرى، نهتم بأنفسنا أكثر مما نهتم ببقية العالم. نحن أميل لعدم الاكتراث بشأن الأشياء التي لا نريدها، أما الأشياء التي نريد، فتشعرنا بالغيظ، لأنه لا يمكننا الحصول عليها، وفي النهاية، يصيبنا الملل ما إن نحوزها.

أهلًا بك في عالم الإرادة

لكن ماذا لو تمكننا من أن نخطو خارج الرغبة، وخارج أفكار الامتلاك؛ بعيدًا عن الخوف، وعن فكرة لكن ماذا سأستفيد من هذا؟ ماذا لو تركنا الأشياء تحدث؟

هذه هي الاحتمالية التي تقدمها لنا لوحة الحياة الساكنة. لا يمكننا أكل الفاكهة في اللوحة، أو شراء المزرعة في المنظر الطبيعي. وعندما تتنحى احتمالية الاستغلال أو التملك -عندما نتحرر من إرادتنا القابضة والمريرة- وتتجه عقولنا للتأمل البسيط، حينها سنتمتع بالسلام النفسي، ونرى مدى جمال الأشياء، كل الأشياء. الفن قادر على أن يرينا ذلك، ويُعجبنا لهذا السبب: لكن إذا تمكنت من وضع عقلك في الحالة الصحيحة، ستختبر الأشياء اليومية كما لو كانت فنًا من دون الحاجة لإنفاق الملايين على التحف الفنية. العالم في جوهره تحفة هائلة، والاستمتاع بها مجاني.

هناك المزيد. كتاب شوبنهاور العظيم اسمه «العالم إرادة وتمثلًا»، لأنه يتصور العالم متأصل فيه هذين الجانبين. التمثل هو الكيفية التي تبدو بها الأشياء بالنسبة لنا، مجرد مظهر خارجي، لا تزيد حقيقته عن حقيقة حلم. أما الإرادة فهي طبيعة العالم الحقة والباطنة.

ما معنى ذلك؟ إذا أردنا تبسيط حجة شوبنهاور فهي كالآتي: أنا أعلم أنني في جوهري الداخلي والحقيقي عبارة عن إرادة، إرادتي؛ ولأن الاعتقاد بأني مميز بطريقة ما هو ضرب من الجنون، لذا كل شيء هو إرادة.

كيف عرفت أنني إرادة؟ أعرف أنني لست جثة، الفرق بيني وبين الجثة أني أفعل أشياءً، بالإضافة لأني لا أتحلل ببطء. أفعالي إذن هي ما تجعلني الشخص الذي أنا عليه. وتعبر أفعالي عن إرادتي، فأنا ما أفعل، وأنا أفعل ما تمليه علي إرادتي. حتى لو كنت أفعل شيئًا لا أرغبه، مثلًا حينما أكون في العمل، ففي هذه الحالة أنا أقوم بفعل اخترته لسبب ما، رغبتي في الحصول على المرتب مثلًا.

أنا إذن تجسد لإرادتي. وأنا لست مميزًا في هذا الشأن، أنت أيضًا تجسد لإرادتك، وكذلك الحيوانات، وكل الكائنات الحية؛ بل عند شوبنهاور، الأشياء غير الحية أيضًا. النباتات غير واعية، لكنها تنمو بطريقة تمكنها من إيجاد الشمس والماء وفرص التكاثر. تقودها إرادة الحياة. حتى الأشياء غير الحية تفعل – تصب الأنهار في البحار، تكبر الجبال ببطء أو تنهار، وهكذا. لا يعني شوبنهاور أن الأنهار «تريد» أن تصب في البحار، لكن تدفقها رغم ذلك، هو تعبير عن الإرادة.

نعرف أن الكائنات الحية تتصرف وفقًا للإرادة -غالبًا في صورة إرادة الحياة- وأن الكائنات الحية مصنوعة من نفس مادة الأشياء غير الحية. لذلك يمكننا أن نتصور مثل شوبنهاور أن كل الأشياء تحفزها القوة الأساسية ذاتها، والتي نطلق عليها الإرادة.

هذه الإرادة لا يروى لها ظمأ، لأن طبيعتها أن تسعى للمزيد، لا يحكمها المنطق، فهي ترغب بصورة عمياء. لهذا الكلام وقع مخيف، مثل فم يقضم طوال الوقت. ومع ذلك، يرى شوبنهاور إمكانية أن نقول إن العالم موسيقى، بنفس الدقة التي نقول بها إنه إرادة.

الموسيقى والمادة والمعنى 

يقول شوبنهاور إن الموسيقى تهزنا بقوة، رغم أنها لا تعبر عن أي شيء في العالم المتمثل. يرينا هذا أولًا أن الموسيقى تمثيل مباشر للإرادة، بدون أي وسيط. قد تخيفنا قصة أو فيلم عن وحش أو معركة، إذ تؤثر على ذواتنا بجعلنا نفكر فيما نرهب. أما الموسيقى، وبدون أي تدخل من الأفكار، تتحدث مباشرةً باسم الإرادة، لذلك يعتقد شوبنهاور أن الموسيقى قد تكون تجسيدًا مباشر للإرادة.

توجد حجة أخرى، هي أن الموسيقى تشبه الإرادة قليلًا. الإرادة العمياء التي يتصورها شوبنهاور مبطنة لحقيقة الواقع، ليس لديها هدف: إنها تريد فقط، لكن لا تريد شيئًا محددًا كي يرضيها. إنها، إذا جاز القول، لها هدف، لكنه ليس محددًا. وهو ما يجعلها شبيهة بالفن كما يعرفه كانط، واحد من أبطال شوبنهاور. يرى كانط أن الفنون، وخاصة الفنون الجميلة، هي «غائية بدون غاية». وعندها يكون ما هو حقيقي «الإرادة» مشابه لما هو جميل «الفن العظيم، مثلًا». ويعد شوبنهاور الموسيقى أسمى أشكال الفن. ولذا تشبه الموسيقى الواقع التام، مما يعني أن الواقع التام يشبه الموسيقى. «نحن -إذا شئنا- يمكن أن نقول: إن العالم موسيقى متجسدة، مثلما هو إرادة متجسدة».

يرى جوته أن العمارة موسيقى متجمدة، لكن شوبنهاور يعتقد أن كل شيء موسيقى متجسدة. وكما رأينا، فهو يعرف الأشياء المادية، ليس بما هي مصنوعة منه (ففي النهاية، كل شئ مادة)، بل بما تفعل. فكل تصرف هو تمثيل مادي أو تجسيد للموسيقى. العالم رقصة كبيرة، أو ما ينبغي أن نطلق عليه موسيقى متحركة ثلاثية الأبعاد.

تتحرك القطارات، وتتصرف أسماك القرش بصفتها أسماك قرش، والبراكين باعتبارها براكين، وهكذا. بينما تتمشى في الشارع، فكل شيء يقوم برقصته الخاصة، معبرًا عن الإرادة بطريقته. كل نبات هو تفجر بطيء من الأغصان والأوراق، والنوار. والتلال، بطريقة ما، تحيا في موسيقاها الساكنة. لكن الأمر ليس بالفردانية التي صورته بها، فوفقًا لشوبنهاور، الكل واحد.

فبينما تتصرف القطط مثل القطط، وأقواس القزح كأقواس القزح، فكل هذا جزء من سيمفونية هائلة. الطبيعة تناغم. تتحرك بإرادة واحدة. كتب ت. إس. إليوت في قصيدة «الحطام الجاف»: «أنت الموسيقى / ما دامت الموسيقى». هذا ما يعتقده شوبنهاور، لكنه سيضيف أنني أيضًا موسيقى، وت. إس. إليوت موسيقى، وكل شخص، وكل شئ آخر. وبينما لا يدوم شئ للأبد، تبقى الموسيقى. لأنها خالدة. 

خلاص شوبنهاوري

من خلال الفن، وخاصة الموسيقى -ومن خلال أي شيء يحملنا على تأمل الواقع، دون الاشتباك مع إرادتنا- نحن نُمنح ترياقًا ضد الرغبة والملل، التي لفت شوبنهاور المتشائم نظرنا إليها. ربما تمل من الأشياء التي تملكها، لكن ماذا عن الأشياء العديدة التي لا تمتلكها؟ ماذا عن حقيقتك، أيها التراب الفاتن؟ كلها أشياء رائعة، لو أنك تغلبت على غرورك بما يكفي لكي تقدرها.

نجح شوبنهاور بطريقة ما في إحراز نوع من النشوة بعجائب الطبيعة. لقد تاه مرة حرفيًا وهو يحلم بين الزهور في حديقة بدرسدن. ولما رآه أحد المسؤولين يتصرف بغرابة سأله عن هويته؛ رد شوبنهاور: «أرغب أن تخبرني أنت، من أنا؟»

إذا تبنيت فلسفته، قد تصبحَ غريبَ الأطوار وسط الزهور.

لكن للأسف، لا توفر فلسفة شوبنهاور علاجًا للألم. لكنها أيضًا لا تسبب الألم: هي ببساطة توضح مقدار المعاناة الموجودة بالفعل. بالإضافة لذلك، فهي ترينا مدى جمال وروعة العالم، وربما بعدها نصبح أميل للامتناع عن أكل الخنازير المذهلة (لم يكن شوبنهاور نباتيًا، لكن قد توحي أخلاقيات التعاطف خاصته بضرورة ذلك). إذا استبدلنا بيتزا البيبروني، بأخرى خضرية، سنقلل مقدار المعاناة في العالم. ربما لن نقلل حينها من معاناتنا الشخصية، طبعًا، لكن كلما زاد اهتمامنا بالزهور، والأبقار، وكل الأشياء، حينها قد يقل اهتمامنا بمشاكلنا، وهي بعد كل شئ، عابرة وتافهة، مثلما هي حتمية.

الاختلافات بيننا لا تهم؛ لون الشعر، العمر، العنوان، إلى آخره. لكن ما يجمعنا هو شئ أهم بكثير: إنسانيتنا المشتركة. وما يجمعنا بكل الأشياء الحية وغير الحية، هو شئ أكثر أهمية : كلنا تجليات للإرادة الأبدية. الوجود في حد ذاته هائل. عندما أموت ستصحبني التوافه للموت، لكن الأشياء المهمة تستمر. ما هو مهم في جوهره يبقى للأبد. وهذه أنباء طيبة للغاية.