ابذل جهدًا كي تستفيد من كسلك

مقال نيل بورتون*

مراجعة نيجيل واربرتون

ترجمة: أمل عبد الرحمن

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.

نيل بورتون: طبيب نفسي وفيلسوف، وزميل بكلية جرين تمبلتون بجامعة أوكسفورد، صدر آخر كتاب له عام 2019، بعنوان: «صحة عقلية مُفرطة: التفكير فيما وراء التفكير»

نُشر في مجلة Aeon، أكتوبر 2019


لوحة لوليام جون جودوورد، عن wikiart

نعتبر كسالى إذا كان هناك عمل ما يجب علينا تأديته، إلا أننا ننفر منه بسبب الجهد الذي يتطلبه، فإما نؤديه بشكل سيء أو نؤدي أمرًا آخر أقل إرهاقًا أو أقل مللًا، أو نستمر في تكاسلنا. بعبارة أخرى، نكون كسالى إذا كان ما يُحفزنا لتوفير الجهد على أنفسنا يتغلب على ما يُحفزنا لأداء الأمر الصحيح أو الأفضل أو المتوقع – على فرض أننا نعلم أصلًا ما هو هذا الأمر.

وفي التقليد المسيحي، يعتبر الكسل إحدى الخطايا السبع المهلكات لأنه يقوض المجتمع، ومخطط الرب، ويغري بالخطايا الأخرى. ففي سفر الجامعة –على سبيل المثال- يندد الكتاب المقدس بالكسل: «بالكسل الكثير يهبط السقف وبتدلي اليدين يكف البيت. للضحك يعملون وليمة والخمر تفرح العيش أما الفضة فتحصل الكل».[1]

واليوم، يرتبط الكسل بالفقر والفشل بدرجة كبيرة، فالشخص الفقير يُعتبر دومًا كسولًا، بصرف النظر عن مدى جده بالعمل.

لكن من الممكن أن يكون الكسل جزءًا من جيناتنا. فأسلافنا البدو وجب عليهم توفير طاقتهم لصالح تنافسهم حول الموارد المحدودة، وهربهم من المفترسات، ومحاربتهم للأعداء. فبذل مجهود على أي شيء غير ذي جدوى على المدى القصير كان يمكن أن يهدد بقاءهم. وعلى أي حال ففي ظل غياب وسائل الراحة الحديثة مثل: المضادات الحيوية، البنوك، الطرق، الثلاجات يصبح التفكير طويل الأمد أمرًا أقل معقولية، أما اليوم فالبقاء المحض تم تنحيته جانبًا، وأصبحت الرؤى طويلة المدى والالتزامات هي الطريق نحو تحصيل أفضل العوائد. ومع ذلك فحدسنا يظل يدفعنا نحو توفير الطاقة، وينفرنا من أي مشاريع مجردة ذات فوائد بعيدة وغير مؤكدة.

ومع ذلك فأشخاص قليلون سيختارون أن يكونوا كسالى، وكثير ممن يُلقبون بأنهم كسالى هم فقط لم يجدوا بعد ما يريدون فعله، أو غير قادرين على فعل بما يريدونه لسبب أو ﻵخر. ولكي تزداد الأمور سوءًا فالوظيفة التي تؤمن لهم دفع الفواتير وتشغل أفضل ساعات يومهم، قد تكون تحولت إلى مهمة شديدة التخصص والتجريد لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على استيعاب غايتها أو نتاجها، أو دورهم في تحسين حياة الأشخاص الآخرين. فعلى خلاف الطبيب أو البنًّاء، لا يستطيع نائب أو نائبة مساعد المراقب المالي في شركة ضخمة متعددة الجنسيات أن يتأكد أو تتأكد أبدًا من ثمرة أو محصلة عمله أو عملها – فلم العناء؟ 

ثمة عوامل سيكولوجية أخرى تؤدي إلى الكسل، ومنها الخوف والقنوط. فبعض الأشخاص يخافون النجاح، أو لا يعتدون بأنفسهم بدرجة كافية تجعلهم يهنأون بالنجاح، ويكون الكسل وسيلتهم لإتلاف أنفسهم. وفي مسرحية أنطونيو وكليوباترا يُعرِب شكسبير عن هذه الفكرة بفصاحة وإيجاز في هذه الجملة: «إن القدر ليعلم أنه كلما اشتد بنا مكرًا اشتددنا به هزاء».[2] وهناك آخرون يخشون الفشل لا النجاح، والكسل أثير للفشل، فالرابطة بينهما غير مباشرة، حيث يمكنهم أن يقولوا لأنفسهم «أنهم لم يفشلوا» لكنهم «فقط لم يحاولوا أبدًا».

بعض الأشخاص كسالى لأنهم قانطون من وضعهم لدرجة تُعجِزهم عن مجرد البدء بالتفكير مليًا فيه، ناهيك عن محاولة التصرف حياله. وبما أن هؤلاء الأشخاص عاجزون عن مواجهة ظروفهم، فيمكننا أن نجادل بأنهم ليسوا كسالى حقيقة، وإلى حد ما هذا ما يمكننا أن نقوله عن جميع الكسالى، فمفهوم الكسل في حد ذاته يفترض القدرة على اختيار ألا تكون كسولًا، أي يفترض وجود إرادة حرة.

وفي حالات قليلة، يكون الكسل خلاف ما يبدو عليه. وعادة ما نخلط بين الكسل والعطالة، لكن العطالة –بمعنى ألا تفعل أي شيء- ليست بالضرورة مماثلة للكسل، فنحن يمكننا اختيار أن نظل خاملين لأننا نعطي قيمة أكبر للخمول وعوائده مما نعطي لأي شيء آخر يمكن أن نقوم به. ويُمجد اللورد ملبورن –رئيس الوزراء المُفضل للملكة فيكتوريا- فضائل ما يسميه «العطالة المُتقنة»، ومؤخرًا يقضي جاك ويلش –المدير التنفيذي ورئيس جنرال إليكتريك- ساعة يوميًا فيما يسميه «وقت التطلع من النافذة». وفي عام 1865 زعم الكيميائي الألماني أوجست كيكوله أنه اكتشف البنية الحلقية لجزيء البنزين بينما كان مستغرقًا في حلم يقظة عن ثعبان يعض ذيله. ويستخدم أتباع هذا النمط من العطالة الإستراتيجية لحظات خمولهم في عدة أشياء منها: تأمل الحياة، وحشد الإلهام، والحفاظ على صوابهم، وتجنب الهراء والتفاهة، وزيادة الكفاءة، وتجنب عيش نصف حياة، وحفظ الطاقة والصحة للمشاكل والمهام الضرورية بالفعل. وقد تمُاثل العطالة الكسل، لكنها قد تكون كذلك الطريقة الأذكى للعمل. إن الوقت أمر عجيب جدًا، وهو ليس خطيًا على الإطلاق، وأحيانًا تكون إضاعته هي أفضل طريقة لاستخدامه.

وغالبًا ما يتم إضفاء الرومانسية على العطالة، فكلمة العطالة بالإنجليزية idleness هي مُختصر للتعبير الإيطالي «dolce far nienta» الذي يعني عذوبة فعل اللاشيء. فنحن نخبر أنفسنا أننا نعمل بجد رغبةً في العطالة، لكن في الواقع نجد صعوبة في تحمل حتى فترات العطالة القصيرة. وتقترح الأبحاث أننا نختلق مبررات للبقاء مشغولين والشعور بمزيد من السعادة حيال ذلك، حتى عندما يكون الانشغال مفروضًا علينا. وعندما نعلق في ازدحام مروري نفضل تغيير الطريق - حتى ولو كان الطريق البديل أطول - على الانتظار في الزحام.

ثمة تناقض هنا، فنحن نميل للكسل ونحلم بالعطالة، وفي نفس الوقت نرغب دائمًا في أن نفعل شيئًا ما ونحتاج دائمًا إلى ما يشتت انتباهنا. فكيف بإمكاننا أن نسوي هذه المفارقة؟ ربما ما نريده حقيقة هو نوع صحيح من العمل بالتوازن الصحيح. ففي عالم مثالي سنؤدي عملنا نحن وفقًا لشروطنا الخاصة لا عمل الغير وفقًا لشروط الغير. فنحن سنعمل ليس لأننا نحتاج أن نعمل، بل لأننا نريد أن نعمل، وليس لأجل المال أو المكانة لكن لأجل السلام والعدالة والحب، رغم خطورة أن يبدو هذا مبتذلًا.

على الجانب الآخر من المعادلة، من السهل جدًا التعامل مع العطالة كأمر مُسَلم به. فالمجتمع يؤهلنا على مدار سنوات لنكون ذوي جدوى وفقًا لما يراه المجتمع، لكن لا يمنحنا أي تدريب أو أي فرصة صغيرة للخمول. لكن العطالة الإستراتيجية فن راق وليس من السهل النجاح فيه، لأسباب من أهمها أننا مُبرمجون على أن نفزع بمجرد أن نجد أنفسنا خارج حالة «جري الوحوش». وهناك فرق دقيق جدًا بين العطالة والملل، ففي القرن التاسع عشر زعم آرثر شوبنهاور أنه لو أن الحياة في جوهرها ذات مغزى ومُرضية لم يكن الملل ليوجد. فالملل إذن دليل على عبثية الحياة، ويفتح اﻷبواب أمام بعض الأفكار والمشاعر شديدة الإزعاج والتي نصدها عادة بموجة من الأنشطة أو بأفكار ومشاعر مضادة - أو في الحقيقة بأية مشاعر على الإطلاق.

وفي رواية السقطة (1956) لألبير كامو، يُفضي كلامنس –وهو بطل الرواية- بأفكاره إلى أحد الغرباء ويقول:

«عرفت رجلاً وهب من عمره عشرين سنة لامرأة مشتتة الذهن، مُضحيًا بكل شيء من أجلها، أصدقائه، وعمله، وحياته الجديرة بالاحترام، وأدرك في إحدى الليالي أنه لم يحبها أبدًا. لقد كان يشعر بالملل، هذا كل ما في الأمر، كان يشعر بالملل مثل معظم الناس. ومن ثم فقد صنع لنفسه حياة كاملة مليئة بالتعقيدات والدراما. فلا بد أن يحدث شيء ما-هذا ما يشرح معظم التزامات البشر. لا بد أن يحدث شيء ما، إن كان هذا الشيء عبودية غير محببة، أو حتى حرب أو موت».

وفي مقال «الناقد فنانًا» (1891) يكتب أوسكار وايلد أن «أصعب شيء في العالم هو ألا تفعل شيئًا على الإطلاق، هذا هو الأكثر صعوبة والأكثر ذكاء».

سيصبح العالم مكانًا أفضل بكثير، إذا استطعنا جميعًا أن نقضي عامًا من «التطلع من نافذتنا».


 عن الترجمة العربية للكتاب المقدس.[1]

 [2]  هذه هي ترجمة د. لويس عوض لهذه الجملة في ترجمته لمسرحية أنطونيو وكليوباترا، وقد صدرت الترجمة عن دار الكتاب العربي للطباعة والنشر عام 1968.