الباب السحري

الفصل الأول من كتاب «العودة» لهشام مطر.

ترجمة: عائشة أحمد

الترجمة خاصة بـ Boring Books

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.

هشام مطر كاتب وروائي ليبي/بريطاني يكتب بالإنجليزية، أصدر إلى الآن روايتين: «في بلد الرجال» الصادرة عام 2006، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة المان بوكر، ورواية «تشريح اختفاء» صدرت عن دار بنجوين 2011. سيرة «العودة» الصادرة عام 2016 فازت بالبوليتزر. كما أصدر مطر في السنة الماضية كتاباً أقرب لليوميات والتأملات بعنوان «شهر في سيينا». 

في «العودة» يحكي مطر عن عودته إلى ليبيا بعد قيام الثورة في 2012، وبعد انقطاع دام أكثر من ثلاثة عقود، ولكنه يعود في سرده إلى أبعد من ذلك بكثير محاولًا تسليط الضوء على ملابسات اختفاء والده المعارض الليبي المعروف، جاب الله مطر.


هشام مطر، عن chagword

في الصباح الباكر من شهر مارس 2012، جلسنا أنا ووالدتي وزوجتي في صف من المقاعد المثبتة على أرضية صالات مطار القاهرة الدولي. أذاع صوت أن الرحلة رقم 835، والمتجهة إلى بنغازي، ستغادر في الوقت المحدد. بين حين وآخر كانت والدتي ترنو إليَّ بقلق. زوجتي ديانا أيضًا بدت قلقة عليَّ. وضعتْ يدًا على ذراعي وابتسمت. لا بد أن أقف وأتمشى قليلًا، قلت لنفسي. لكن جسدي ظل متصلبًا. لم أشعر يومًا أني قادر على السكون كما كان حالي آنذاك.

صالة المغادرين تقريبًا خالية. هناك رجل واحد فقط يجلس قبالتنا، سمين ومجهد، ربما في منتصف الخمسينيات من عمره. كان هنالك شيء في الطريقة التي جلس بها ينم عن الاستسلام، يداه متشابكتان على حجره، وجذعه يميل إلى اليسار قليلًا. أهو مصري أم ليبي؟ أهو في زيارة للبلد الجار أم عائد إلى موطنه بعد الثورة؟ أكان مع القذافي أم ضده؟ أو لربما كان من أولئك المترددين الذين يحملون تحفظاتهم قريبة من صدورهم، أينما حلوا.

عاد الصوت الذي يعلن عن الرحلات. كان وقت الصعود إلى الطائرة. وجدت نفسي واقفًا في بداية الطابور وديانا بجواري. كانت قد اصطحبتني في أكثر من مناسبة لزيارة مسقط رأسها في جنوب كاليفورنيا. أعرف طبيعة النباتات هناك والضوء، أعرف الأبعاد والمسافات حيث نشأت. وأخيرًا حان دوري لأخذها لزيارة بلدي. كانت ديانا قد وضبت بين الأمتعة كاميرتيها المفضلتين، الهاسلبلاد واللايكا، مع مئة لفافة من الأفلام. تعمل ديانا بإتقان عظيم. بمجرد أن تمسك بخيط، ستتبعه حتى النهاية. معرفتي بهذا الأمر يثير حماستي وقلقي معًا. أشعر بالتردد إزاء أن أعطي ليبيا أكثر مما أخذت مني حتى الآن. 

والدتي كانت تسير قريبًا من النافذة المطلة على مدرج الطائرات وهي تتحدث في هاتفها المحمول. بدأ الناس بالتوافد إلى الصالة، أغلبهم من الرجال. صرنا أنا وديانا في مقدمة طابور طويل، امتد وانحنى وراءنا مثل نهر. تظاهرتُ بأني نسيت شيئًا ما وانتحيت بها جانبًا. العودة بعد كل هذه السنوات كانت فكرة سيئة، خطر لي هذا فجأة. غادرت عائلتي الوطن عام 1979، أي قبل ثلاثة وثلاثين عامًا. كانت هذه السنوات هي الشق الذي فصل بين الرجل الذي صرته وبين الصبي ذي الثماني سنوات الذي كنته. كانت الطائرة ستعبر فوق الخليج. رحلات كهذه تنطوي على شيء من التهور والمغامرة بالطبع. هذه الرحلة بالذات قادرة على سلب مهارة بذلت الكثير من الجهد لاكتسابها، ألا وهي كيفية العيش بعيدًا عن الأماكن والناس الذين أحب. جوزيف برودسكي كان على حق. كذلك نابوكوف وكونراد. كانوا فنانين لم يعودوا إلى أوطانهم أبدًا. كل منهم حاول مداواة نفسه من وطنه بطريقته الخاصة. ما تركته وراءك اختفى. عُد وستواجه الغياب أو طمس ما كان عزيزًا عليك. لكن ديمتري شوستاكوفيتش وبوريس باسترناك ونجيب محفوظ كانوا محقين أيضًا في رأيهم: لا تترك بلدك الأم. ارحل وصلتك بالنبع ستنقطع. ستصبح مثل جذع شجرة ميت، يابس وأجوف.

ما الذي تفعله عندما لا تستطيع الرحيل ولا تستطيع العودة؟


في أكتوبر عام 2011 فكرت بعدم العودة نهائيًا إلى ليبيا. كنت في نيويورك حينها، أمشي في شارع برودواي، والرياح تهب باردة، في تلك اللحظة طرح هذا الحل نفسه. بدا حلًا نقيًا، فكرة استخلصها عقلي باستقلالية تامة. وكما في لحظات الشباب الثملة شعرت بالجرأة وكأني عصي على الهزيمة.

كنت قد وصلت إلى نيويورك الشهر الفائت، بدعوة من كلية برنارد، لأحاضر عن الروايات المتعلقة بالمنفى والغربة. لكن كان لدي ارتباط أقدم بالمدينة. انتقل والديَّ إلى مانهاتن في ربيع 1970 بعد أن عُيِّن  أبي سكرتيرًا أول في البعثة الليبية للأمم المتحدة. وولدت أنا في الخريف من السنة ذاتها. بعد مضي ثلاث سنوات، وفي 1973 عدنا إلى طرابلس. ومنذ ذلك الوقت زرت نيويورك أربع أو خمس مرات ربما، لكن لفترات قصيرة. لذا، ومع أنني كنت قد عدت للتو إلى مدينة مولدي، كانت نيويورك بالنسبة لي مكانًا لا أعرفه جيدًا.

خلال الست وثلاثين سنة التي تركنا فيها ليبيا، كونَّا أنا وعائلتي ارتباطات مع عدد من الحواضر البديلة للمدينة الأم: نيروبي حيث استقر بنا الحال بداية فرارنا من ليبيا عام 1979، وواظبنا على زيارتها منذ ذلك الحين؛ القاهرة حيث انتهى بنا المطاف بعد سنة كمنفى إلى أجل غير مسمى؛ روما حيث نقضي إجازاتنا؛ لندن حيث ذهبت في سن الخامسة عشر للدراسة وحيث كنت أحاول بعناد منذ تسع وعشرين عامًا  خلق حياة لنفسي؛ وباريس حيث انتقلت وأنا في بداية الثلاثينيات من لندن التي أتعبتني وناكفتني، مقسمًا ألا أعود لبريطانيا أبدًا، لأجد نفسي عائدًا إليها بعد سنتين فقط. في كل تلك المدن، تخيلت نفسي في يوم ما أعيش بهدوء في جزيرة مانهاتن حيث ولدت. وأتخيل أحدهم ممن التقيت بهم حديثًا، ربما في حفلة عشاء أو في مقهى أو في غرفة تبديل بعد شوط سباحة طويل، يطرح عليَّ ذلك السؤال المضني «من أين أنت؟» وأنا دونما اكتراث وخالٍ من الضيق المعتاد أرد بأريحية «نيويورك». في هذه الخيالات أرى نفسي مستمتعًا بهذا الجواب لأنه حقيقي وزائف معًا، كما هي الحيل السحرية.

أن أنتقل للعيش في مانهاتن وأنا في الأربعين، وليبيا تمزق نفسها، وأن يحدث هذا في الأول من سبتمبر، وهو ذات اليوم من العام 1969، الذي أطاح فيه عقيد في الجيش يدعى معمر القذافي بالملك إدريس. ومنذ ذلك الانقلاب بدأت آثار التغييرات تتجلى في السمات المهمة في حياتي - مكان إقامتي، اللغة التي أكتب بها، اللغة التي استخدمها الآن لكتابة هذا النص: كل هذا جعل الهروب من فكرة أن هناك يدًا إلهية تحرك الأشياء أمرًا صعبًا.


في أي سرد سياسي لتاريخ ليبيا، تقدم الثمانينيات من القرن المنصرم فصلًا بشعًا على وجه الخصوص. كان معارضو النظام يُشنقون في الميادين العامة وساحات الرياضة. والمنشقون الذين فروا من البلد تتم ملاحقتهم - بعضهم يُختطف أو يُغتال. كانت الثمانينيات أيضًا الحقبة التي امتلكت ليبيا فيها مقاومة مسلحة ذات عزيمة ضد الديكتاتورية. كان والدي من أهم قادة المعارضة. كان للمنظمة التي كان فردًا فيها مخيمًا للتدريب العسكري في التشاد، على الحدود الجنوبية لليبيا، بالإضافة لخلايا سرية داخل الوطن. مشوار والدي المهني في الجيش، والفترة القصيرة التي قضاها كدبلوماسي، والدخل الخاص الذي تمكن من الحصول عليه في منتصف السبعينيات عندما أصبح رجل أعمال ناجح – يستورد سلعًا مختلفة من سيارات الميتسوبيشي إلى أحذية كونفرس الرياضية للشرق الأوسط – كل هذا جعل منه عدوًا خطيرًا للنظام. حاولت الدكتاتورية أن تشتريه؛ وحاولت أن تخيفه. أذكر جلوسي جواره بعد ظهر يوم ما في شقتنا في القاهرة، كنت حينها في العاشرة أو الحادية عشر، وأحس بثقل ذراعه على كتفي، وعلى الكرسي المقابل رجل من الأشخاص الذين كنت أناديهم «عمي» – الأشخاص الذين كنت أعرف بطريقة ما أنهم موالون له أو من أتباعه. كانت كلمة «تسوية» تتردد، ووالدي يجيب «لن أفاوض. ليس مع مجرمين».

وعندما نكون في أوروبا كان يحمل معه مسدسًا. وقبل أن نركب السيارة، يطلب منا أن نقف بعيدًا من العربة. كان يجثو على ركبتيه متطلعًا أسفل هيكلها، وكان يشبك يديه معًا مقتربًا من النوافذ ومستطلعًا من خلالها عن أي علامة تدل على وجود توصيلات. رجال مثله قُتلوا  بالرصاص في محطات القطارات والمقاهي، وفُجرت سياراتهم. خلال الثمانينيات أيضًا، وعندما كنت لا أزال في القاهرة، قرأت في الجريدة عن موت اقتصادي ليبي مرموق. في محطة تيرمني في روما وهو ينزل من القطار، صوَّب غريب فوهة المسدس على صدره وضغط على الزناد. الصورة المطبوعة جوار المقال أظهرت الميت مغطى بصفحات الجرائد، غالبًا جرائد ذات النهار وهي تخفيه من رأسه حتى كاحليه، وهكذا ظهر حذاءه الجلدي اللامع بمقدمته المتجهة إلى أعلى. في مرة أخرى كان هناك تقرير عن طالب ليبي قتل في اليونان. كان يجلس في شرفة مقهى مطل على ميدان موناستيراكي في أثينا. توقفت دراجة نارية، والرجل الذي جلس خلف السائق وجه مسدسًا نحو الطالب وأطلق عدة رصاصات. كما اغتيل في لندن مقدم إخباري ليبي في الإذاعات العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية. وفي أبريل من العام 1984 قامت مظاهرة أمام السفارة الليبية في ساحة سانت جيمس. أحد موظفي السفارة أنزل زجاج نافذة في الدور الأول، وحمل بندقية آلية ورش الحشود بذخيرتها. مما أسفر عن مقتل شرطية اسمها إيفون فليتشر وإصابة أحد عشر ليبيًا متظاهرًا بجروح، وكان حال البعض منهم حرجًا للغاية.

حملة القذافي لمطاردة منتقديه المنفيين – والتي أعلن عنها موسى كوسا، رئيس الاستخبارات الخارجية، في تجمع جماهيري في بداية الثمانينيات – طالت حتى أسر المنشقين. شقيقي الوحيد، زياد، كان في الخامسة عشر عندما التحق بمدرسة داخلية في سويسرا. وبعد مرور بضعة أسابيع، وفي منتصف الفصل الدراسي عاد إلى القاهرة. ذهبنا جميعًا لاستقباله في المطار. عندما ظهر بين أولئك المتدفقين إلى صالة الوصول، بدا وجهه أكثر شحوبًا مما أذكر. قبل أيام فقط رأيت والدتي تُجري عدة اتصالات هاتفية، وأصابعها ترتعش وهي تدير الأرقام.

كانت المدرسة السويسرية في مكان ناء بين جبال الألب. أقرب المواصلات العامة للقرية المجاورة كانت على هيئة تلفريك، والذي يعمل فقط لساعات معينة منتصف النهار. لاحظ زياد خلال يومين متعاقبين سيارة تقف أمام المدخل الرئيسي للمدرسة. كان داخلها أربعة رجال. شعورهم طويلة كما راج بين أعضاء لجنة الثورة التابعة للقذافي آنذاك. في إحدى الليالي، تم استدعاء زياد للمكتب الذي فيه هاتف المدرسة في وقت متأخر. على الطرف الآخر من الخط صوت رجل، «أنا صديق والدك. لا بد أن تنفذ ما أقوله لك بالضبط. لا بد أن تغادر حالًا وتستقل أول قطار إلى بازل».

«لماذا؟ ماذا حدث؟» سأل زياد.

«لا أستطيع أن أخبرك. لا بد أن تستعجل. استقل أول قطار إلى بازل. سأكون هناك وسأشرح لك كل شيء».

«ولكنه منتصف الليل»، قال زياد.

لم يزد الرجل على ما قاله. ببساطة واصل تكرار «استقل أول قطار إلى بازل».

«لا أستطيع القيام بهذا. أنا لا أعرفك. من فضلك لا تتصل بي مرة أخرى»، قال زياد هذا وأغلق الخط.

بعدها اتصل الرجل بوالدتي، التي بدورها اتصلت بالمدرسة. قالت لزياد إنه لا بد أن يترك المدرسة في التوّ وأملت عليه ما يجب القيام به.

أيقظ زياد معلمه المفضل، شاب تخرج حديثًا من جامعة كمبريدج، والذي ربما ظن أنه أمر مشوق أن يقوم بتعليم الأدب الإنجليزي في الألب، والتزلج على الثلج بين الدروس. 

«سيدي، إن والدي على وشك الخضوع لجراحة طبية وطلب رؤيتي قبل الدخول إلى غرفة العمليات. لا بد أن أستقل أول قطار إلى بازل. هلا أوصلتني إلى المحطة من فضلك؟»

أتصل المعلم بوالدتي التي أكدت قصة زياد. كان لا بد من إيقاظ مدير المدرسة. وهو أيضًا اتصل بوالدتي، وبعد أن اطمأن هو كذلك، راجع المعلم جدول رحلات القطار، وكان هناك قطار متجه إلى بازل خلال أربعين دقيقة. إذا أسرعوا فقد يصلون في الوقت المناسب. 

كان لا بد من المرور بالسيارة القابعة أمام المدخل؛ لم يكن هناك طريق آخر. تظاهر زياد بأنه يربط شريط حذائه أثناء عبورهم بالرجال. قاد المعلم بحذر على الطرق الجبلية الملتوية. وبعد دقائق فقط ظهرت أضواء أمامية لسيارة تتبعهم. تظاهر زياد بعدم سماع معلمه عندما قال «أظنهم يلاحقوننا».

في المحطة، اندفع زياد إلى الباحة المركزية واختبأ في الحمامات العامة. سمع القطار يقترب. انتظر حتى توقف تمامًا، وعد لبضع ثوانٍ، المدة التي يحتاجها المسافرون للنزول والصعود، ثم انطلق راكضًا وقفز على متن القطار. أغلقت الأبواب وتحركت العربات. كان زياد واثقًا أنه ضللهم، لكن الرجال الأربعة ظهروا في الممر. لقد رأوه. أحدهم ابتسم له. لحقوا به من عربة إلى أخرى وهم يتمتمون «تظن نفسك رجلًا أيها الصبي؟ تعال إذن وأرنا الرجولة». في مقدمة القطار عثر زياد على المراقب وهو يثرثر مع السائق.

«هؤلاء الرجال يتبعونني»، قال بصوت يهزه الخوف ولا شك، بما أن المراقب صدقه رأسًا وطلب منه الجلوس بجواره. تراجع الرجال الأربعة إلى عربة أخرى عندما لاحظوا ذلك. لما وصل القطار رأى زياد رجالًا في ثياب عمل رسمية ينتظرون على رصيف المحطة. معاون والدي الذي اتصل به ذلك المساء كان يقف بينهم.

أذكر زياد وهو يخبرنا بهذه التفاصيل ونحن جلوس حوله على طاولة العشاء. غمرني شعور عارم بالأمان والامتنان، إلى جانب خوف جديد، حاد ونابض في أعماقي. لكن شيئًا من هذا لم يظهر على محياي. لن تدرك هذا بالنظر إليَّ. طوال الوقت، وزياد يحكي، كنت أتظاهر بالحماس لمغامرته. لكن لاحقًا وفي ذلك المساء أثقل كل ذلك عليَّ وعلى إدراكي للأمور ووعيي بها. واصلت التفكير فيما قاله الرجال، الكلام الذي أعاده علينا زياد هامسًا، وهو يقلد نبرة التهديد ولهجة أهل طرابلس: «تظن نفسك رجلًا أيها الصبي؟ تعال إذن وأرنا الرجولة».

بعد هذه الحادثة بفترة قصيرة، وعندما كنت في الثانية عشر، احتجت أن أرى طبيبًا مختصًا في العيون. وضعتني والدتي على طائرة سافرت على متنها من القاهرة إلى جنيف، حيث سيستقبلني والدي. تكلمنا على الهاتف قبيل مغادرتي إلى المطار.

«إذا لم تجدني في قاعة الوصول لأي سبب كان، اذهب إلى طاولة الاستعلامات واطلب منهم أن ينادوا هذا الاسم»، قال هذا وهو ينطق واحدًا من الأسماء التي كان يسافر باستخدامها. كنت أعرف الاسم جيدًا. «مهما حصل، لا تعطهم اسمي الحقيقي». أعاد عليَّ ذلك.

عندما وصلت إلى جنيف، لم أجده بين جموع المستقبلين. فعلت كما طلب مني وذهبت إلى طاولة الاستعلامات، لكن عندما سألتني المرأة وراء المنضدة عن الاسم، أصابني الهلع. لم أتذكره. ابتسمت المرأة عندما لاحظت اضطرابي ومررت الميكرفون لي. «هل تحب أن تقوم بالإعلان بنفسك؟» أخذته وناديت «أبي، أبي» كررت ذلك أكثر من مرة، حتى رأيته راكضًا تجاهي وابتسامة عريضة على وجهه. انتابني الحرج وأذكر أني سألته ونحن في طريقنا للخروج من المطار، «لماذا لا أستطيع أن أقول لهم اسمك الحقيقي ببساطة؟» تجاوزنا الحشد، وأثناء مرورنا بين الناس لاحظنا رجلين يتحدثان العربية بلهجة ليبية ممتازة. مصادفة لغتنا المحكية خلال تلك السنوت كانت دائمًا أمرًا مقلقًا لنا، تثير في داخلي الخوف والاشتياق بالتساوي. «كيف يبدو جاب الله مطر هذا في كل الأحوال؟» سأل أحدهم الآخر. صمت ولم أشتكِ بعدها من إجراءات واستعدادات سفر والدي المعقدة.  

كان من غير الوارد أن يسافر والدي بجوازه الحقيقي. لطالما استخدم وثائق مزورة بأسماء مستعارة. في مصر فقط شعرنا بالأمان. لكن في مارس 1990 اختطفت المخابرات المصرية والدي من شقتنا القاهرية، وسلمته للقذافي. أخذوه إلى سجن أبو سليم في طرابلس، والذي كان يعرف بـ «المحطة الأخيرة»- المكان الذي يرسل إليه النظام أولئك الذين يرغب بنسيانهم.

في منتصف التسعينيات، جازف عدد من الأشخاص بحياتهم لتهريب ثلاث رسائل من والدي إلى عائلتنا. في إحداها كتب لنا، «وحشية هذا المكان تفوق كل ما قرأناه عن سجن قلعة الباستيل، القسوة في كل شيء، لكني أظل أقوى من كل أساليب قمعهم ... جبهتي لا تعرف الانحناء».

في رسالة أخرى نقرأ هذه الجملة: «في بعض الأوقات تمر سنة كاملة دون رؤية الشمس أو مغادرة الزنزانة».

وفي نثر رصين ودقيق، وأحيانًا ساخر، ينم عن طاقة صبر مذهلة يكتب:

«والآن وصف لهذا المكان النبيل... الزنزانة عبارة عن صندوق من الخرسانة. تتكون الجدران من ألواح مسبقة الصنع. هناك باب من الفولاذ لا ينفذ من خلاله حتى الهواء. النافذة ترتفع عن الأرض بمقدار ثلاثة أمتار ونصف. أما الأثاث فعلى طراز لويس الرابع عشر: مرتبة قديمة مهترئة من كثرة السجناء الذين مروا عليها، ممزقة في عدد من الأماكن. يا لخواء العالم هنا».

من هذه الرسائل، ومن شهادات السجناء، التي استطعت أن أجمعها بمساعدة منظمة العفو الدولية، ومنظمة رصد حقوق الإنسان، والمنظمة السويسرية غير الحقوقية «ترايل»، عرفنا أن والدي كان في سجن أبو سليم على الأقل في الفترة الواقعة بين مارس 1990 إلى أبريل 1996، عندما تم نقله من زنزانته إلى جناح سري في ذات المعتقل، ونقل بعدها إما إلى سجن آخر أو تم إعدامه.


وقعت طرابلس في نهاية أغسطس 2011 في يد الثوار وصار معتقل أبو سليم في قبضتهم. كسروا أبواب العنابر، وهرع الرجال الذين اكتظت بهم هذه الصناديق الخرسانية إلى الساحات حيث الشمس. كنت في بيتي في لندن. قضيت ذلك النهار على الهاتف، وعلى الخط الآخر أحد الرجال يكسر الأبواب الفولاذية للزنازين. «انتظر، انتظر»، كان يصيح، وأنا أسمع مطرقته الثقيلة تعمل في الفولاذ الصلب. وتردد في داخلي صوت، لم يكن عاليًا كما هو رنين الجرس، ولكنه مخبوء في العمق، مثل ذاكرة بعيدة، أريد أن أكون هناك ولا أريد أن أكون هناك.

أصوات عديدة كانت قد تعالت الآن، «الله أكبر!» أعطى الرجل الذي يكلمني المطرقة لرجل آخر، وسمعته يلهث، ومع كل نفس يرجع صدى النصر وبلوغ الهدف. أريد أن أكون هناك ولا أريد أن أكون هناك. وصلوا إلى زنزانة تحت الأرض، كانت الأخيرة. الكثير من الصياح الآن، الشباب يتنافسون لتقديم المساعدة. سمعت رجلًا ينادي، «ماذا؟ في الداخل؟» كان هناك لغط. ثم سمعت الذي يحدثني يصيح: «هل أنت متأكد؟» عاد إلى الهاتف وقال إنهم يعتقدون أن من في الزنزانة سجين مهم من أجدابيا، مسقط رأس والدي، وأنه كان في السجن الانفرادي لسنوات طويلة. لم أتمكن من النطق. أريد أن أكون هناك وأريد أن أكون هناك. «ابق معي»، قال لي الرجل على الهاتف. كل بضعة ثوان يكررها، «ابق معي». لا أستطيع الجزم إن كان الأمر استغرق عشر دقائق أو ساعة. وعندما تمكنوا في النهاية من كسر الباب، وجدوا رجلًا كهلًا وكفيفًا في غرفة دون نوافذ. بشرته لم تتعرض للشمس لسنوات. ولما سألوه عن اسمه قال إنه لا يعرف. لأي عائلة ينتمي؟ لا يعرف. كم مضى عليه هناك؟ يبدو أنه فقد ذاكرته. كان في حوزته شيء واحد فقط، صورة لوالدي. لماذا؟ ما كانت علاقته به؟ لم يحر جوابًا. ومع أنه لم يتمكن من تذكر أي شيء، كان سعيدًا بحريته. كانت هذه الكلمة التي استخدمها الرجل الذي على الهاتف: «سعيد». أردت أن أسأل عن الصورة، هل كانت صورة حديثة أم قديمة؟ معلقة على الحائط أم مخبئة تحت المخدة، أو ربما وجدوها على الأرض جوار سرير الرجل؟ لكن هل يوجد سرير في الزنزانة؟ هل كان للسجين سرير خاص به؟ لم أطرح أيًا من هذه الأسئلة. وعندما واصل الرجل حديثه معتذرًا «أنا آسف»، شكرته وأغلقت الخط. 


في أكتوبر، كنت أحاول التركيز على التدريس في نيويورك، كل السجون السياسية وقعت، وكل معتقل سري تحت الأرض وقع، سقط الواحد تلو الآخر في أيدي الثوار. الزنازين تم فتحها، والرجال داخلها تم تحريرهم وإحصاءهم. لم يكن والدي داخل أي منهم. ولأول مرة كانت الحقيقة واضحة، لا مفر منها. كان جليًا أنه قتل رميًا بالرصاص أو شُنق، أو تم تجويعه أو عذب حتى الموت. لا أحد يعلم متى، أو أن أولئك الذين عرفوا أموات الآن، أو هربوا، أو خائفين أو لا يبالون بما يكفي ليتحدثوا. هل كان ذلك في السنة السادسة من احتجازه، عندما توقفت رسائله؟ هل كان خلال المذبحة، التي حدثت في ذات السنة وذات السجن، إذ جُمع ما يقارب 1270 رجل في ساحة السجن وقتلوا رميًا بالرصاص؟ أم كان موتًا انفراديًا، ربما في السنة السابعة أو الثامنة أو التاسعة؟ أم كان في السنة الواحدة والعشرين عندما اندلعت الثورة؟ ربما أثناء واحدة من العديد من المقابلات التي تمت معي وأنا أجادل في القضية ضد الديكتاتورية. أو لربما لم يمت والدي كما واصل زياد إيمانه، حتى بعد أن تم فتح جميع السجون. ربما ما تمناه زياد، أن والدي خرج وبسبب عجز ما، فقدان في الذاكرة، أو خلل في النطق أو السمع، لم يتمكن من إيجاد طريقه إلينا، مثلما ضل جلوستر في الجرود في مسرحية «الملك لير». «أعطني يدك، أنت الآن على بعد قدم من حافة الهاوية». قال إدجار لوالده الضرير، الذي خلص إلى إنهاء حياته، هذا السطر الذي عاش معي في الخمس وعشرين سنة التي خلت.

لا بد أن حكاية السجين الذي فقد ذاكرته هي التي جعلت زياد مؤمنًا أن والدي ما زال حيًا بطريقة أو بأخرى. بعد وصولي إلى نيويورك بأيام، اتصل زياد طالبًا مني إيجاد شخص قادر على رسم صورة لوالدي كما قد يبدو عليه الآن لكي ننشرها عبر البلاد وعلى مواقع الإنترنت. قال: «قد يتعرف أحد عليه». تواصلت مع فنانة طب شرعي في كندا. طلبت مني نسخًا من كل ما يمكن العثور عليه من صور لوالدي، وأشقائه وجداي. بعد أن أرسلتها اتصلت بي ولديها قائمة من الأسئلة عن الطعام الذي كان يتناوله، احتمالية تعرضه لتعذيب أو مرض؟ وبعد عشرة أيام، وصل الرسم. بقسوة صورت الفنانة الخدين بتهدل واضح، والعينين غائرتين، كما بالغت في إظهار ندبة على الجبهة كانت في الأصل صغيرة وباهتة. كان أسوأ ما في الرسم مصداقيته. جعلني هذا أفكر في أشياء أخرى. ماذا جرى للأسنان على سبيل المثال؟ الأسنان التي كان يكشف عنهم للدكتور مازوليني في روما خلال فحصنا الروتيني السنوي. كان طبيب الأسنان الايطالي يقول لنا دائمًا، مثيرًا فينا الفخر، «لا بد أن تكونوا ممتنين إلى ليبيا ومعادنها للحصول على أسنان ممتازة كهذه». وماذا عن اللسان الذي كان له طريقة خاصة في تشكيل اسمي، والحنجرة الضخمة وكل أجزائها التي تردد الصدى، الرأس والمنخار والتجاويف، ثقل العظام، واللحم والدماغ- وكيف تغير الصدى لذلك الصوت اللطيف؟ كيف سيكون ذلك الصوت الجديد الكهل؟ لمْ أرسل الصورة لزياد، وتوقف هو عن السؤال عنها. أريته إياها عندما تقابلنا في المرة التالية. نظر إليها للحظة ثم قال «ليست دقيقة». وافقته وأنا أعيد الصورة في مظروفها. أضاف: «لا تريها لماما».

في نيويورك وخلال شهر أكتوبر البارد ذاك، بدأ الشك ينتابني تجاه قدرتي على العودة إلى ليبيا ورغبتي بعدم الرجوع. دخلت إلى شقتنا في الجهة الغربية العليا ولم أقل لديانا عن الفكرة «النقية» التي خطرت لي أثناء المشي. جمعت الصحون وغسلتها ببطء. بعدها استمعنا إلى الموسيقى، وتمشينا في الشوارع المظلمة. بالكاد أغمض لي جفن تلك الليلة. أدركت أن عدم العودة إلى ليبيا يعني عدم السماح لنفسي بالتفكير فيها مرة أخرى، وهذا قد يؤدي إلى نوع آخر من المقاومة، وأنا انتهيت من المقاومة، لا طاقة لي بالاستمرار.

تركت البناية حيث أقطن مع بزوغ النهار. كنت سعيدًا بلا مبالاة نيويورك. كنت أفكر بمانهاتن كما قد يفكر يتيم بالأم التي تركته عند باب المسجد: لم تعنِ شيئًا لي، لكنها كانت أيضًا كل شيء. كانت في لحظات الكآبة تقدم احتمالًا أخيرًا لأن أغش نفسي وأهرب من فكرة المنفى. قدماي ثقيلتان. انتبهت كم تقدم بي العمر، لكن الصبيانية ما زالت موجودة فيَّ أيضًا، وكأن جزءًا مني توقف عن النمو في اللحظة التي تركنا بها ليبيا. كنت أشبه أوفيد كما تخيله ديفيد معلوف[1] وهو في منفاه – وقد حوله المنفى لطفل. اتجهت إلى مكتبي في الكلية. أردت أن أغرق نفسي في العمل. حاولت أن أفكر في المحاضرة التي كنت سألقيها بعد الظهر، عن«محاكمة» كافكا. فكرت في رقة ك. تجاه الرجلين اللذين جاءا لإعدامه؛ استسلامه السوداوي والبطولي؛ الكلمات التي قالها لنفسه: «الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أفعله الآن هو أن أحافظ حتى النهاية على العقل المخطط بهدوء»؛ ثم استدراكه المليء بالندم إذ يكتشف نفسه: «كنت دائمًا أسعى للدخول في العالم بعشرين يد»... قلت لنفسي إنه من الجيد أن لدي محاضرات أنشغل بها. وعلى الرصيف عبرت فوق غطاء بشبكة معدنية. تحته كانت غرفة، ارتفاعها بالكاد يتسع لقامة رجل واقف، وبالتأكيد ليست عريضة بما يكفي لتسمح له بالاستلقاء. صندوق رمادي داكن اللون محفور في الأرض. لم تكن لدي أدنى فكرة عن سبب وجوده هناك. ودون أن أدري كيف حدث هذا، وجدت نفسي جاثيًا على ركبتي متطلعًا إلى الداخل. ومهما أجهدت نفسي بالبحث لم أتمكن من العثور على باب سحري، أو ماسورة أي شيء يصل الغرفة بالخارج. حط عليَّ هذا فجأة، وبكيت وكنت أسمع نشيجي.


[1]  ديفيد معلوف (1934)، كاتب أسترالي من أصول لبنانية، ويعد من أهم كتاب أستراليا المعاصرين.