اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.

ترجمات هذه السلسلة جرت ضمن أعمال الدورة الرابعة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – ربيع 2019.

قائمة مكروم | لوليتا لفلاديمير نابوكوف

نُشر بموقع الجارديان 23 فبراير 2015

ترجمة: سارة إبراهيم ومحمد مصلح

الترجمة خاصة بـ Boring Books وسيلاس الإسكندرية

يحتفظ المترجمان بحقهما في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهما دون إذن منهما

***

من فيلم ستانلي كوبريك عن الرواية (1962)
من فيلم ستانلي كوبريك عن الرواية (1962)

في عام 1962، أي بعد 10 سنين تقريبًا من نشر رواية «لوليتا»، حكى نابوكوف للبي بي سي قائلًا: «لكتاب (لوليتا) معزة خاصة عندي. هو كتابي الأصعب؛ لأنه تناول موضوعًا يبعد أشد البعد عن حياتي العاطفية الشخصية، فكان لكتابته متعةٌ خاصة لأنه تطلب مني استعمال موهبتي التجميعية في خلقه».

شغف الكاتب نفسه بروايته التراجيكوميدية هو جزءٌ من سحرها. يعلم الكاتب أنه يتعدى حدود الذائقة الحسنة، لكنه يتألق في انفصاله عن المعتاد على أي حال. كل شيءٍ متاح هنا. من الجملة الافتتاحية، نجد أن «لوليتا» تمثل افتتان كاتبٍ بالقدرة الإمكانية للغة الإنجليزية: «لوليتا، يا نور حياتي، يا نار شهوتي. يا خطيئتي، يا روحي. لو-لي-تا: يمضي طرف لساني في رحلة من ثلاث خطوات، من أعلى الفم إلى مؤخرة الأسنان، ويدق عليه ثلاثًا. لُوْ. لِيْ. تَا». إن رواية نابوكوف تحفةٌ فنية، وهي لعْبٌ عنيف مخل باللياقة الاجتماعية كذلك. أو كما وصفها (مارتن أميس)، أحد المبشِّرين بالرواية: «هي رواية لا تُقاوَم، وقراءةٌ لا تُغتَفر».

تحت عنوان «اعترافات أرمل أبيض»، تمثل الرواية مزيجًا مُسمِمًا من الاعتذار، ومذكرات السجن، ونداء عاجل لأعضاء هيئة المحلفين من قبل مُدعى عليه يبلغ من العمر 38 عامًا، يدعى د. همبرت همبرت، أستاذ الأدب. اتُهم همبرت، المهووس بالحوريات (فتيات نابوكوف)، أي الفتيات اللواتي على حافة البلوغ، بقتل كلير كويلتي، الكاتب المسرحي. بينما تتكشف اعترافات همبرت في جزئين غير متكافئين -الأخير منهما هو رحلة السفر التي دفعت كريستوفر آشروود إلى المزاح بأنه «أفضل كتاب رحلات كتب على الإطلاق عن أمريكا»– سيدرك القارئ أن دفاعه يتلخص في أنه ارتكب «جريمة عاطفية»: لقد قتل كويلتي بدافع حبه لدولوريز هيز، «لوليتاه».

على الرغم من أننا نراه يتعاطى موضوع حبه في أحلامه، يصعب أن نعتبر أن همبرت انتهك البراءة. في مفارقة تجعل القراءة غير مريحة في سياق القلق المعاصر بشأن انتهاك الأطفال، يثبت نابوكوف أن لوليتا مبكرة النضوج جنسيًا. وعندما يتعلق الأمر بالوقت الذي يصبح فيه لوليتا وهمبرت «عاشقين في الواقع»، لجأ نابوكوف للانعكاس النفسي المبهر: «هي من أغوتني».

ملاحظة على النص

لغة نابوكوف الأم هي الروسية، كما كانت البولندية هي لغة جوزيف كونراد اﻷصلية. لكن نابوكوف، مثل كونراد، ينال مقامه باعتباره خبيرًا باللغة الإنجليزية (الأمريكية). تمنح شهادة نابوكوف الاسترجاعية، التي حملت عنوان «حول كتاب بعنوان لوليتا»، والتي يعود تاريخها إلى 12 نوفمبر عام 1956، السردية الأساسية لمراحل بداية الرواية.

يقول نابوكوف: «أول خفقان محدود شعرت به نحو لوليتا أصابني في باريس في نهاية عام 1939، أو بداية 1940». ويكمل أنه في ذلك الوقت، «كان التهاب الأعصاب الوربية قد هاجمني وأقعدني». كانت نتيجة هذا الخفقان المحدود قصة قصيرة من ثلاثين صفحة كتبت باللغة الروسية. لكن نابوكوف كان مستاء من هذا المخطط الأولي للرواية، ويقول إنه دمره في وقت غير محدد بعد انتقاله الى أمريكا عام 1940.

لكن جرثومة حمى تحفته الفريدة كانت قد استقرت في مخيلته. في عام 1949، استمر «الخفقان الذي لم يتوقف على الإطلاق، عاد ليُصيبني مرة أخرى». بدأ بنسخة جديدة تظهر الكتابة فيها الآن باﻹنجليزية، مع احتمال انتقالها للأمريكية، وكان تطور الكتابة بطيئًا بشكل مؤلم. يُعقّب: «تدخلت كتب أخرى»، لكنه ظل غير قادر على إقناع نفسه على إلقاء مشروعه غير المُكتمل إلى المحرقة.

في هذه الأثناء، لم يستطع نابوكوف المنفي، وجامع الفراشات المتميز، أن يقاوم إغراء الفراشات الهائمة. قال ذات مرة: «الأدب والفراشات، هما من أجمل أشكال الشغف التي عرفها الإنسان». يتجه كل صيف هو وزوجته غربًا إلى (كولورادو) أو (أريزونا) أو (وايومنج) سعيًا وراء ورد حجل الحشيش الملون والفراشات الزرقاء.

كان هناك، في (تلوريد)، عندما استأنف كتابة لوليتا، «في المساء، أو في الأيام الغائمة». بحلول ربيع 1954، كان قد أكمل مسودة الرواية وبدأ في البحث عن ناشر لها.

لقد بدأ المرح اﻵن. أجاب الناشرون الأمريكيون الأربعة الذين أُرسلتْ إليهم مسودة الرواية -(فرار شتراوس) و(فايكنج) و(سيمون وشوستر) و(نيو دايركشنز)- على الفور بأنهم لن يقْرَبوا الرواية.

صاح أحد المحررين، ذو روح خجولة: «هل تظن أنني مجنون ؟» وعبَّر الآخرون عن مخاوفهم من الملاحقة القضائية، وأشاروا بسوداوية إلى خطورة التعرض للسجن.

تحول نابوكوف يائسًا إلى دار نشر (أولمبيا برس) في فرنسا مع موريس جيوردياس، وهي متخصصة فيما وصف بأنه قائمة «خراء اباحي».

وقَّع نابوكوف بفتور عقد مع (أولمبيا برس) لنشر الكتاب، والذي لن يظهر بشكل مجهول -كما روج له في أمريكا، لكن سيخرج في شكل مجلد (مجلدين، في الواقع) باسمه الحقيقي.

نُشرت لوليتا في سبتمبر عام 1955، في كتابين ذوي غلاف ورقي باللون الأخضر محتوية على أخطاء مطبعية. رغم ذلك، نفدت أول خمسة آلاف طبعة، رغم أن أحدًا لم يراجعها. وبنهاية عام 1955، اختار (جراهام جرين) كُتب صحيفة (صنداي تايمز) الأفضل لذلك العام، واصفًا الرواية بأنها أفضل كتب السنة.

أثار هذا البيان محرر صحيفة (صنداي اكسبريس)، الذي وصف الرواية بأنها «من أكثر الكتب التي قرأتها قذارة على الإطلاق وأكثرها احتواءً على مجازات إباحية بلا أي قيود».

مُنعت الرواية بشكل لا يمكن تخيله اليوم، وظلت الرواية محظورة من قبل السلطات تطاردها الجمارك البريطانية.

في نهاية المطاف، رأى الناشر الصغير «جورج ويدنفيلد» فرصته. ففي عام 1959 ابتاع حقوق نسخة إنجليزية متحديًا القانون. بعد مواجهة متوترة، قرر المدعي العام عدم مقاضاة الناشر. حقق ويدنفيلد ثروته الأولى، وأصبحت «لوليتا» من بين الأساطير الأدبية البريطانية. في أمريكا، طبعت أول نسخة بواسطة دار نشر «بوتنام» في أغسطس سنة 1958. وصدرت الرواية بعدة طبعات وقيل إنها الأولى منذ رواية مارجريت ميتشل «ذهب مع الريح» التي بيع منها مائة ألف نسخة في أول ثلاثة أسابيع من إصدارها.

واجه أحد أوائل داعمي رواية لوليتا، الناقد الكبير «ليونيل تريلينج»، ما يمكن اعتباره قضية أساسية في قلب الرواية المثيرة للجدل، عندما حذر من الصعوبة الأخلاقية في تأويل الكتاب مع مثل هذا الراوي البليغ: «وجدنا أنفسنا مصدومين عندما أدركنا أثناء قراءتنا للرواية، أننا توصلنا فعليًا إلى التغاضي عن الانتهاك الذي تمثله، حيث أُغرينا بالتواطؤ مع الانتهاك، لأننا سمحنا لخيالاتنا بتقبل ما نشمئز منه».

لم يسمح الزمن ولا الأسلوب بدخول العديد من ردود الفعل النقدية الأدبية المبدعة لهذا الكتاب. لم يتوقف عن إثارة فزع بعض القراء وإعجاب بعضهم الآخر. وكما يقول التعبير اللاتيني «في مسائل الذوق، لا يمكن أن تكون هناك نزاعات».

بالعودة إليها، أوضح نابوكوف أن «لوليتا» هي تسجيل «علاقة حبه مع اللغة الإنجليزية».

أعلن نابوكوف عن مأساته الخاصة بسخرية: «كان علي التخلص من لغتي الأصلية، الروسية الغنية بلا حدود مُقيِدة، لصالح الحصول على جودة إتقان اللغة الانجليزية، جودة من الدرجة الثانية -تلك التي تخلو من تعبيرات لغوية مثل المرآة المحيرة، الخلفية المخملية السوداء، الروابط والتقاليد الضمنية- التي يمكن للخيال اللغوي الأصيل الذي لا ينضب أن يستخدمها بطريقته السحرية الخاصة لتجاوز التراث». جودة من الدرجة الثانية؟ لا بد أننا محظوظون جدًا.