الصديق
مقال لجورجيو أجامبن
ترجمه عن الإنجليزية: طارق عثمان
عن ترجمة ديفيد كيشيك وستيفان بيداتيلا من الإيطالية
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
1
ترتبط الصداقة على نحو وثيق للغاية بتعريف الفلسفة، لدرجة تسوِّغ لنا القول بأن الفلسفة لن تكون ممكنة فعليًّا من دون الصداقة. فالحميمية بين الصداقة والفلسفة عميقة لدرجة أن الفلسفة Philosophy تتضمن كلمة «صديق» Philos في اسمها نفسه،[1] وكما يحدث غالبًا في مثل هذه الحالات من القرب المُغالي، تكون احتمالية الفشل في فهمها على وجهها كبيرة. في العالم الكلاسيكي، كانت هذه التمازجية، هذه الوحدة الجوهرية تقريبًا، بين الصديق والفيلسوف، تؤخذ على محمل البداهة. لا ريب، إذن، في أن نية الفيلسوف المعاصر (دولوز)، كانت ترمي بقدر ما إلى استعادة هذا الربط العتيق، ليكون قادرًا على أن يكتب -حينما طرح السؤال الكبير: «ما الفلسفة؟»- قائلًا: وهذا سؤال ينبغي أن يُناقش entre amis، فيما بين الأصدقاء. أما في أيامنا هذه، فقد سقطت العلاقة بين الصداقة والفلسفة من عليائها بالفعل وأضحت مكللة بالعار، فبشيء من الحرج وعذاب الضمير يحاول محترفو الفلسفة اليوم أن يتصالحوا مع هذا الشريك غير المريح والسري، إذا جاز القول، لفكرهم.
قبل سنوات خلت، قررتُ وصديقي جان-لوك نانسي أن نتبادل بعض الرسائل حول موضوع الصداقة. إذ كنا مقتنعين بأن هذه هي الطريقة المُثلى للاقتراب من -وعرض- مسألة تبدو مستعصية على المعالجة التحليلية بأية طرق أخرى. كتبتُ الرسالة الأولى وانتظرت رده بشيء من القلق. وليس هذا المكان المناسب لمحاولة استيعاب الأسباب -أو إساءات الفهم ربما- التي أدت إلى نهاية المشروع حالما وصلتني رسالة جان-لوك نانسي. لكن المتيقن منه أن صداقتنا -التي افترضنا أنها ستفتح لنا بابًا واسعًا للولوج إلى المسألة- شكلت حجر عثرة أمامنا عوضًا عن ذلك، وأنها قد أعتمت بعض الشيء، من جراء ذلك، ولو مؤقتًا على الأقل.
إحساس مشابه، وواع ربما، بعدم الراحة هو ما دفع جاك دريدا، على الأرجح، إلى أن يختار كثيمة لكتابه عن الصداقة قولًا مُلغزًا، يُنسَب إلى أرسطو بحكم العادة، قولًا ينفي الصداقة بنفس الإيماءة التي يبدو أنه يثبتها بها: «O Philoi, Oudeis Philos»، «أيها الأصدقاء، لا يوجد أصدقاء». والواقع، أن إحدى ثيمات هذا الكتاب هي نقد ما يعتبره المؤلف فكرة متمركزة قضيبيًّا[2] عن الصداقة قد هيمنت على تقليدنا الفلسفي والسياسي.[3] وعندما كان دريدا بصدد إعداد المحاضرة التي ستكون أصل الكتاب، تناقشنا معًا حول مسألة فيلولوجيّة غريبة متعلقة بهذا القول أو المثل المنسوب لأرسطو. فبوسعنا أن نجده عند مونتاني[4] وعند نيتشه،[5] وقد يكون كلاهما أخذه من ديوجين اللايرتي.[6] لكننا إذا فتحنا طبعة حديثة لكتاب الأخير «سير مشاهير الفلاسفة» على الفصل المخصص لسيرة أرسطو (21.5)، لن نجد العبارة محل النقاش وإنما سنجد عبارة أخرى تكاد تكون مطابقة لها في الظاهر، لكن دلالتها مختلفة وأقل إلغازًا منها بكثير، وهي:Philoi, Oudeis Philos Ōi، «من لديه أصدقاء (كُثر) ليس لديه صديق واحد».[7]
زيارة مني إلى المكتبة، كانت كل ما تطلّبه الأمر لحل هذا اللغز. ففي عام 1616، صدرت طبعة جديدة من كتاب «سير مشاهير الفلاسفة» بتحقيق الفيلولوجي السويسري الكبير إسحاق كازابو.[8] وعندما وصل في تحقيقه للمخطوطات إلى الفقرة المعنية -والتي كانت لا تزال تُقرأ O Philoi (أيها الأصدقاء...) في الطبعة التي أصدرها حموه هنري إتيين[9] -صححها كازابو، دونما تردد، إلى Ōi Philoi (من لديه أصدقاء...)، ومن ثمّ، غدت العبارة المُلغَّزة واضحة تمامًا، لدرجة جعلت المحققين المحدَثين يعتمدونها في طبعاتهم.
وبما أنني قد أطْلَعتُ دريدا من فوري على نتائج بحثي، أصابتني الدهشة عندما لم أجد أدنى أثر لهذه القراءة الثانية عندما صدر كتابه «سياسات الصداقة».[10] وإذا كان دريدا قد أثبت القول -المنحول على أرسطو وفقًا لفقهاء اللغة المُحدّثين- في نسخته الأولى، فإن ذلك لم يكن، يقينًا، بسبب النسيان، وإنما هو فعل ذلك لأن هذه النسخة أساسية لإستراتيجية الكتاب: بيان أن الصداقة من شأنها أن تُثبت وتُلغى في الوقت عينه.
وبهذا المعنى، تكون إيماءة دريدا تكرارًا لإيماءة نيتشه. فعندما كان طالبًا يدرس الفيلولوجيا، كان نيتشه قد شرع في إنجاز عمل حول مصادر كتاب ديوجين اللايريتي، وبالتالي، لا شك أنه كان على معرفة تامة بالتاريخ النصي لكتاب السيَر (ومن ثمّ، بتعديل كازابو). لكن لما كان التوكيد على ضرورة الصداقة، مع قدر من الارتياب في الأصدقاء في الوقت عينه، أمرًا أساسيًّا لإستراتيجيته الفلسفية، لجأ نيتشه في كتابه إلى النسخة التقليدية غير المصححة التي كان الزمن قد عفا عليها بالفعل حينئذ (أثبتت طبعة هيوبنر الصادرة في 1828، النسخة الحديثة المصححة، مع إضافة هذه الحاشية: «اعتمدنا تصحيح كازابو لـ O Philoi»).
2
من الممكن أن تكون المكانة الدلالية المخصوصة لمصطلح «صديق» قد ساهمت في خلق عدم الارتياح هذا لدى الفلاسفة المحدثين. من باب المعرفة الشائعة أن لا أحد استطاع أبدًا أن يقدم تعريفًا مُرضيًا لهذا التركيب اللغوي «أنا أحبك»؛ ومن الشائع بنفس القدر أن يظن المرء أن لهذا التركيب طبيعة أدائية: أي أن معناه يتطابق مع فعل التلفظ به.[11] اعتبارات مشابهة يمكن أن تُطرح فيما يخص تعبير «أنا صديقك»، بيد أن اللجوء بفكرة الأدائية يبدو مستحيلًا هنا (فقولي لك «أنا صديقك» لا يجعلنا أصدقاء). ما أراه، عوضًا عن ذلك، أن لفظ «صديق» ينتمي إلى صنف الألفاظ التي يُعرِّفها اللسانيون بأنها ألفاظ غير إسنادية؛[12] أي تلك الألفاظ التي لا يمكن أن تُشكَل منها فئة تشتمل على كل الأشياء التي يمكن إسناد المُسنَد المعني إليها. إن «أبيض» و«صلب» و«جذاب» هي، بالتأكيد، ألفاظ إسنادية؛[13] لكن هل من المقبول أن نقول إن «صديق» هو، أيضًا، لفظ يشير إلى فئة متسقة وفق هذا المعنى (فكما أن هناك فئة «الأبيض» التي تشمل جميع الأشياء البيضاء، وفئة «الصلب» التي تشمل كل الأشياء الصلبة، وفئة «الجذاب» التي تشمل كل الأشياء الجذابة، هل يمكن أن تكون هناك فئة «الصديق» التي تشمل على كل الأشخاص الأصدقاء)؟ لا. ولفظ «صديق» يتشارك ذلك، ومهما بدا ذلك غريبًا، مع صنف آخر من الألفاظ غير الإسنادية هو الشتائم. فاللسانيون قد أوضحوا لنا أن الشتائم لا تهين من تُطلَق عليهم لأنها تشملهم ضمن فئة بعينها (كالبراز، على سبيل المثال، أو الأعضاء التناسلية للرجل أو المرأة، حسب كل لغة) - وهو أمر قد يكون مستحيلًا، ببساطة، أو خاطئًا على أية حال. وإنما شتيمة ما تكون فعالة تحديدًا لأنها لا تعمل كعبارة خبرية وإنما كاسم عَلَم؛ لأنها تستعمل اللغة لكي تعطي اسمًا، اسم لا يمكن لمن يُسمى به أن يقبله ولا يمكن له أن يدافع عن نفسه ضده (كما لو أن شخصًا يصر على أن يسميني جاستون بينما هو يعلم أن اسمي هو جورجيو). إن المهين في الشتيمة هو، وبعبارة أخرى، تجربة محضة للّغة، وليس إحالة إلى شيء ما في العالم.
وإذا كان ذلك صحيحًا، فلن يكون لفظ «صديق» مشابهًا لغويًّا للشتائم فقط وإنما للمصطلحات الفلسفية كذلك - المصطلحات التي، وكما هو معلوم، لا تحيل على شيء موضوعي في العالم، وإنما هي، مثل المصطلحات التي كان مَنَاطِقة القرون الوسطى يدعونها بالمصطلحات «الترنسندنتالية»، تحيل على الوجود (الكينونة) ببساطة.
3
ضمن مقتنيات المعرض الوطني للفن العتيق بروما، توجد لوحة لجيوفاني سورديني (1600-1630)، تصور لقاء حواريي المسيح بطرس وبولس وهما في طريقهما إلى الاستشهاد (اللوحة موجودة في صدر النص).
يشغل القديسان الساكنان منتصف اللوحة، وتحيط بهما الإيماءات البربرية للجنود والجلَّادين الذين يسوقونهما نحو العذاب. وغالبًا ما علَّق النقاد على التضاد الذي تجليه اللوحة بين الإقدام البطولي للحواريَّيْن وهرج الحشد الملتف حولهما وبلبلته، بلبلة تبرزها هنا وهناك نقاط الضوء المنثورة على نحو يكاد يكون عشوائيًّا على الأذرع والوجوه والأبواق. لكن من جهتي، أرى أن ما جعل هذه اللوحة فذَّة بحق، أن سورديني قد صور الحواريَّيْن على مقربة شديدة للغاية من بعضهما البعض (فجبهة كل منهما تكاد تلتصق بالأخرى) لدرجة لا تسمح لأحدهما بأن يرى الآخر. ففي طريقهما لملاقاة حتفهما، ينظر كل منهما إلى الآخر دون أن يكون بوسعه أن يتعرف عليه. وهذا الانطباع بالقرب المغالي جدًا، إذا جاز القول، تعضده تلك الإيماءة الصامتة لليدين المتصافحتين المرئيتين بالكاد أسفل اللوحة. إن هذه اللوحة قد بدت لي على الدوام الرمز، المجاز الأكمل تعبيرًا عن الصداقة. فأي شيء هى الصداقة، في واقع الأمر، سوى قرب يتأبى على الوصف والتجريد الفكري؟[14] فأن تتعرف على شخص ما كصديق يعني أنك غير قادر على أن تتعرف عليه كـ«شيء ما». فدعوة شخص ما بـ«الصديق» ليست كدعوته بـ«الأبيض»، أو بـ«الإيطالي»، أو بـ«الجذاب»، وذلك لأن الصداقة ليست سمة ولا خصيصة لهذا الشخص.
4
والآن قد آن أوان الشروع في قراءة فقرة لأرسطو كنت أخطط لأن أعلق عليها. فالفيلسوف قد خصص لموضوع الصداقة رسالة، هي التي تؤلف الكتابين الثامن والتاسع من «الأخلاق إلى نيقوماخوس». وبما أننا هنا بصدد واحد من أكثر النصوص المحتفى بها والمناقَشة على نطاق واسع في تاريخ الفلسفة برمته، أفترض أنكم على دراية بأطروحته الشهيرة: أنه لا يمكننا أن نعيش دون أصدقاء؛ وأن علينا أن نميز بين الصداقة القائمة على المنفعة أو اللذّة، والصداقة الفاضلة، التي يُحبَ فيها الصديق بما هو كذلك؛ وأنه ليس من الممكن أن يكون لدينا العديد من الأصدقاء؛ وأن الصداقة النائية تميل إلى الامّحاء، وهكذا. والحال أن هذه الأفكار هي من قبيل المعرفة العامة. لكن ثمة فقرة في هذه الرسالة، يبدو لي أنها لم تسترع قدرًا كافيًا من الاهتمام، وذلك على الرغم من أنها تتضمن الأساس الأنطولوجي، إذا جاز القول، لنظرية الصداقة عند أرسطو. أتحدث عن الفقرة: (II70a28 إلى II71b35 من الكتاب التاسع)، تعالوا نقرأها معًا:
«من يرى يحس (يدرك، يشعر، يعي) بأنه يرى، ومن يسمع يحس بأنه يسمع، ومن يمشي يحس بأنه يمشي، وهكذا هو الحال في جميع الأفعال الأخرى، ثمة شيء يحس أننا نقوم بها. وهكذا، إذا أحسسنا فإننا نحس بأننا نحس، وإذا فكرنا فإننا نحس بأننا نفكر. وأن نحس بأننا نحس ونفكر يعني أن نحس بأننا موجودون: فالوجود يعني، في واقع الأمر، الإحساس والتفكير.
وأن نحس بأننا أحياء هو بحد ذاته أمر عذب وسارّ، إذ أن الحياة طيبة، خيّرة، بطبيعتها، ومن دواعي السرور أن نحس بأن هذا الخير موجود فينا.
إن العيش أمر مُحبب ومرغوب، خاصة للطيبين الأخيار، لأن الوجود بالنسبة إليهم شيء طيب وسار (إذ يسرهم أن يحسوا بأن هذا الخير موجود فيهم بوصفهم أحياء).
وبالنسبة إلى الرجال الطيبين الأخيار، تشارُك الإحساس (Synaisthanomenoi) هو شعور عذب المذاق، لأنهم يتبينون فيه الخير نفسه، وما يشعر به الرجل الخيِّر حيال ذاته، يشعر به أيضا حيال صديقه: فالصديق هو، في واقع الأمر، ذات أخرى (Heteros Autos). وبما أن جميع الناس يجدون أن وجودهم أمر مرغوب فإنهم يجدون أن وجود أصدقائهم أمر مرغوب بنفس القدر أو يكاد. إن الوجود مرغوب لأن المرء يحس بأنه شيء طيب، وهذا الإحساس (Aesthesis) هو بحد ذاته عذب وسار. وعليه، لا بُدَّ للمرء أن يحس، أيضًا، بوجود صديقه مع إحساسه بوجوده، وهو ما يحدث عن طريق العيش معًا وعن طريق مشاركة الأفعال والأفكار معًا. وبهذا المعنى، نحن نقول إن البشر يعيشون معًا، بخلاف الأبقار التى تتقاسم نفس المرعى...
الصداقة، في الواقع، مشاركة؛ كما يكون المرء لنفسه يكون لصديقه. وكما أن إحساس المرء بوجوده أمرٌ مرغوب عنده وسارٌّ له، فإن إحساسه بوجود صديقه أمرٌ مرغوب عنده وسارٌّ له كذلك».
5
نحن نتعامل هنا مع فقرة كثيفة على نحو غير عادي، لأن أرسطو يعبر فيها عن بعض أطروحات الفلسفة الأولى (الأنطولوجيا) التي لن تتكرر بهذا الأسلوب في أي من كتاباته الأخرى، وهي:
- ثمة إحساس بالوجود المحض، وأرسطو يكرر هذه الفكرة مرات عِدة عن طريق استعمال المفردات التقنية لمعجم الأنطولوجيا.
- هذا الإحساس بحد ذاته إحساس حلو وعذب.
- ثمة تطابق بين الوجود والعيش، بين إحساس المرء بوجوده وإحساسه بحياته. وهذه الأطروحة بمثابة استباق جلي للأطروحة النيتشوية القائلة: «الوجود - ليس لدينا أي طريقة أخرى لتخيله سوى (العيش)»[15] (دعوى مشابهة، وإن كانت أكثر عمومية، نجدها في كتاب «عن الروح» لأرسطو في الفقرة، 415b13: «الوجود بالنسبة إلى الأحياء هو الحياة»).
- ضمن هذا الإحساس بالوجود، ثمة إحساس آخر، وهو إحساس بشري حصرًا، يتخذ شكل إحساس مشترك بوجود الصديق. و«الصداقة هي حالة ذلك (الإحساس المشترك) بوجود الصديق ضمن الإحساس بالوجود نفسه». وهو ما يعني أن الصداقة تتمتع بمكانة أنطولوجية وسياسية.[16] وواقع الأمر، أن الإحساس بالوجود هو دومًا إحساس مُتقاسَم ومُتشَارَك، والصداقة هي اسم هذه «التشاركية». لكن هذه التشارك ليس له أية علاقة مطلقًا بالكايميرا[17] الحديثة: البين-ذاتيّة،[18] العلاقة بين الذوات. فالوجود نفسه هو المُتقاسَم والمُتشارَك هنا، والأنا والصديق هما وجهي أو طرفي هذه القسمة أو المشاركة.
- وبالتالي فالصديق ذاتٌ أخرى، Heteros Autos (لصديقه)، ولهذا المفهوم، في ترجمته اللاتينية: Alter Ego، تاريخٌ طويل لا يسعنا تقصِّيه في هذا المقام. لكن من المهم أن نلاحظ أن معاني هذا التعبير اليوناني أكثر ثراءً مما تفهمه منه الأذن الحديثة. والأكثر أهمية أن اللغة اليونانية، كما اللاتينية، تتضمن لفظين للتعبير عن الغَيرية: Allos (في اللاتينية: Alius) وهي الغيرية بوجه عام، وHeteros (في اللاتينية: Alter) وهي الغيرية بمعنى التضاد والتباين بين اثنين، ومنه كلمة Heterogeneity (التباين، انعدام التجانس، ...). وعلاوة على ذلك، لفظ Ego اللاتيني (أنا) ليس بترجمة دقيقة للفظ Autos اليوناني، الذي يعني «ذات». إن الصديق ليس أنا أخرى، وإنما آَخَريَّة مُحايثة للذاتية (أي متأصلة فيها، حَالَّة فيها، ملازمة لها)، هو آخر ملائم ومناسب (وليس مُباين ومضاد) للذات. وعند النقطة التي أحس عندها بأن وجودي طيبٌ وعذب، يمر إحساسي بحالة إحساس مشترك، حيث ينتقل ويتحرك نحو صديقي، نحو ذاتي الأخرى (لأحس بأن وجوده طيب وعذب كذلك). هذا الانقسام الذي تمر به الذات وهي في قلب إحساسها الأشد حميمية (إحساسها بوجودها وبعذوبيته)، هو الصداقة.
6
يسعنا عند هذه النقطة أن نعتبر المكانة الأنطولوجية التي تتمتع بها الصداقة في فلسفة أرسطو بمثابة مُسلَّمة. إن الصداقة تنتمي إلى الـProte Philosophia، إلى الـفلسفة الأولى، وذلك بما أن نفس التجربة للوجود، نفس «الإحساس» بالوجود، هو ما على المحك في كل منهما. ومن هنا يفهم المرء لماذا لا يمكن للفظ «صديق» أن يكون مُسنَدًا[19] حقيقيًّا يُضاف إلى شيء ما بغرض إدراجه ضمن فئة بعينها. ومستعملًا للمصطلحات الحديثة، يمكن للمرء أن يقول إن لفظ «صديق» هو لفظ وجودي[20] وليس تصنيفيًا.[21] لكن هذه الوجودية -والتي لا يُمكن تجريدها فكريًا بحد ذاتها- لا تزال متخللَّة بشدَّةٍ تُكسبها ما يشبه الإمكانية السياسية. هذه الشدة هي الـSyn، الـ«سويًّا»، الـ"«معًا»، التي تقسِّم، توزع الإحساس بالوجود، الإحساس بعذوبة الوجود، وتجعله قابلًا للمشاركة (وإن كان، في واقع الأمر، إحساسًا مُتشَارَكًا على الدوام).
والدلالة السياسية لهذا التشارك عند أرسطو مُضمَّنة في فقرة من النص الذي حللته سلفًا، وهذه فرصة للعودة إليه كرة أخرى:
«لا بُدَّ للمرء من أن يحس، أيضًا، بوجود صديقه مع إحساسه بوجوده، وهو ما يحدث عن طريق العيش معًا وعن طريق مشاركة الأفعال والأفكار معًا. وبهذا المعنى، نقول أن البشر يعيشون معًا، بخلاف الأبقار التى تتقاسم نفس المرعى».
والتعبير الذي ترجمناه بـ«تتقاسم نفس المرعى» هو في اليونانية En toi Autoi Nemesthai. لكن الفعل Nemo —وهو، كما نعلم، فعل ثري بالدلالات السياسية (ويكفينا أن نفكر في الاسم المشتق منه Nomos، الناموس[22])—يعني، أيضًا، في صيغته الوسطى[23] «المشاركة»،[24] وبالتالي يمكن لهذا التعبير الأرسطي أن يعني «المشاركة في نفس المرعى». وعلى أية حال، فإن الأمر الهام أن الجماعة البشرية مُعرَّفة هنا، وعلى العكس من الجماعة الحيوانية، من خلال العيش معًا، ومَعيَّة العيش هذه ليست تشَارُكًا في شيء ما مشاع، وإنما تشارُكٌ وجوديٌّ بحت، إنها تشارُكٌ مُفتَقِر، إذا جاز القول، إلى شيء يتم تشاركه: فالصداقة هي تشارُك الإحساس بمحض الوجود. إن الأصدقاء لا يتشاركون شيئًا ما (الميلاد، القانون، المكان، الذوق): وإنما ما يجمعهم، ما يتشاركون فيه، هو تجربة الصداقة نفسها. الصداقة هي التشارُك السابق على كل تشارُك آخر، بما أن ما يتم تشارُكه فيها هو الوجود نفسه، الحياة نفسها. وهذا التشارُك دون موضوع، دون شيء يتم تشارُكه، هذا التشارُك الأصلي، هو ما يُشكّل السياسي.
لكن كيف تحول هذا «التصاحب الحسي» Synaesthesia،[25] السياسي على نحو أصيل، مع مرور الزمن، إلى الإجماع الذي تعهد إليه ديمقراطيات أيامنا هذه بمصيرها في هذا الطور الأخير والمغالي والمنهك من أطوارها؟ هذه، وكما يُقال، قصة أخرى، أترككم للتفكير فيها.[26]
اقرأ المزيد لأجامبن: السحر والسعادة
[1] في اليونانية، Philos تعني عزيز أو صديق، وهي مشتقة من philein، والتي تعني أن نحب. (م).
[2] Phallocentric
[3] وهي أن الصداقة لا تكون إلا بين رجلين، ولا يمكن أن تكون بين رجل وامرأة أو بين امرأتين. (م).
[4] ميشيل دو مونتاني (1533-1592)، فيلسوف النهضة الفرنسي. والقول موجود، في كتابه المقالات.، الفصل السابع والعشرون، المعنون بـ«عن الصداقة». (م).
[5] القول موجود في الكتاب الأول من إنساني مفرط في إنسانيته، ص 282، 283، من ترجمة على مصباح. وهاكم الاقتباسين المذكور فيهما هذا القول:
«لكم هي هشة هذه الأرضية التي تقف عليها ارتباطاتنا وصداقاتنا، وكم قريبة هي الزخات الباردة والتقلبات الجوية السيئة، وأي وحدة يقف داخلها كل إنسان! وإذا ما رأى المرء كل هذا، ورأى علاوة عليه أيضا أن كل آراء معاصريه في اختلاف أنواعها ودرجات قوتها إنما هي على نفس القدر من الضرورة واللاإرادية التي عليها أفعالهم، وإذا ما غدت له عين ليرى تلك الضرورة الداخلية للآراء داخل تشابك غير قابل للانفصام لعناصر الطبع والمَشْغلة والموهبة والمحيط—فإنه قد يتخلص من مرارة وحدة ذلك الإحساس الذي عبر عنه ذلك الحكيم مرة مناديا: "أيها الأصدقاء، ليس هناك أصدقاء».
«وربما تحل على كل منا تلك الساعة السعيدة التي ينادي فيها: (أيها الأصدقاء، ليس هناك أصدقاء)، هكذا صاح الحكيم المحتضر. (أيها الأعداء، ليس هناك أعداء)، هكذا أصيح، أنا الأحمق الحي.» (م).
[6] المؤرخ اليوناني (180-240م)،
ترجم لفلاسفة اليونان في كتابه الشهير سير
وأقوال مشاهير الفلاسفة. (م).
[7] Diogences Laertius. The lives of Eminent Philosophers. vol. I, trans. R. D. Hicks (Cambridge, Mass.: Harvard. University Press. (972), 465.
[8] Isaac Casaubon
[9] Henry Estienne
[10] Jacques Derrida. Politics of Friendship, trans. G. Collins
(London: Verso. 1997).
[11] الألفاظ الأدائية أو الإنجازية (Performative) هي تلك التي «تؤدي» أو «تنجز» فعل ما بمجرد التلفظ بها، مثل: أنا مستقيل، أنتِ طالق، ... إلخ. وفي فلسفة اللغة، نجدها مفحوصة في نظرية أفعال الكلام، كما طورها أوستن وسيرل من بعده. (م).
[12] Nonpredicative
[13] Predicative
[14] Conceptualization
[15] Friedrich Nietzsche, The Will to Power, trans. W Kaufmann and R. J . Hollingdale (New York: Vintage Books, (968). 311 . §582.
(يجدر التنبيه هنا على أن الطبعة النقدية لأعمال نيتشه، التي حققها جورجيو كولي ومازينو مونتناري، وهي الطبعة المعتمدة حاليا، لا تتضمن كتابا بعنوان إرادة القوة. فكولي ومونتناري قد أثبتا أن نيتشه لم يؤلف هذا الكتاب وإنما هو عبارة عن شذرات جمعت ونشرت بعد موته تحت هذا العنوان) (م).
[16] بالمعنى (اليوناني) الواسع
لكلمة سياسي، أي متعلق بـ(تدبير) الاجتماع البشري. (م).
[17] وحش أسطوري، أنثى تنفث نارًا، برأس أسد وجسد عنزة وذيل حيّة. يُستعار اسمه للتعبير عن الوهم، عن المشتهى بعيد المنال، وللتعبير عن الأمر المختلط والملتبس (والمعنى الأخير هو المقصود في هذا السياق على الأرجح). (م).
[18] Intersubjectivity
[19] Predicate
[20] Existential
[21] Categorical
[22] يُحيل مفهوم الـ Nomos، عامة، إلى القانون، المعيار، التنظيم، القاعدة، وما إلى ذلك. ولكن كارل شميت يرفض بشراسة اختزال معنى الناموس في القانون، ويرده، في المقابل، إلى أصله اليوناني المرتبط بالمكان، بالأرض، بالتراب: أن نقسّم وأن نرعى، أي تقسيم الأرض ورعيها. المعنى الأساسي للناموس، إذن، هو المعيار الذي تُقسَم به الأرض وتُوزَع في نظام ما، وهو أيضًا شكل النظام السياسي والاجتماعي والديني الذي يتحدد على أساس هذه العملية. (م).
[23] Middle voice
هي صيغة وسط بين صيغتي
المبني للمعلوم والمبني للمجهول. (م).
[24] Partaking
[25] لا يقصد أجامبين هنا، حرفيا، حالة الإدراك الحسي النادرة (التي كان رست كول/ماثيو ماكونهي مصابًا بها في True Detective): أن يُنشِّط مثير حسى حاسة أخرى غير الحاسة المعنية به، كأن تنشط قراءة الكلمات حاسة التذوق مثلا. وإنما يقصد تصاحب الأصدقاء في الحس بوجود بعضهم البعض. (م).
[26]يربط أجامبين الإجماع السياسي وحاجة الديمقراطيات المعاصرة إليه بـ«التمجيد» (بالمعنى اللاهوتي للكلمة، أي التسبيح والتهليل) وعلاقته ببنية السلطة السياسية الغربية. فالإجماع، بحسبه، هو "تمجيد" معلمن. يقول: «إن وظيفة التهليل والتمجيد، في شكلهما الحديث المتمثل في الرأي العام والإجماع، لا تزال موجودة في مركز الجهاز السياسي للديمقراطيات المعاصرة. فإذا كانت وسائل الإعلام تتمتع بأهمية بالغة في الديمقراطيات المعاصرة، فليس هذا هو الحال لأنها تمكّن من السيطرة على الرأي العام وإدارته وحسب، وإنما لأنها، وقبل كل شيء، تدير وتوزع التمجيد، أي الجانب التسبيحي والتهليلي للسلطة الذي بدا أنه قد اختفى في ظل الحداثة.» (the kingdom and the glory، صفحة xii).
One Reply to “جورجيو أجامبن: الصديق”
شكرا جزيلا على الترجمة المصدر الإنجليزي اذا توفر مع وافر الشكر والتقدير