السحر والسعادة

جورجيو أجامبن

ترجمة: سامح سمير

من كتاب Profanations لجورجيو أجامبن (2005)

عن ترجمة Jeff Fort للإنجليزية

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

Giorgio Agamben - boundary2

ذات يوم قال فالتر بنيامين إن أول خبرة للطفل بالعالم لا تتمثل في إدراكه «أن الكبار أقوى منه بل بالأحرى في اكتشافه أنه لا يملك قدرات سحرية».[1] وكون هذه العبارة قد كُتبت تحت تأثير جرعة مقدارها 20 ملليجرام من عقار الميسكالين (عقار هلوسة) لا ينتقص من أهميتها في شيء. والواقع، أنه من المرجح تمامًا أن ذلك الحزن الذي لا يُقهر الذي يجتاح الأطفال في بعض الأحيان ينبع تحديدًا من وعيهم بهذا العجز. فما نستطيع تحقيقه عن طريق الجهد والجدارة، لا يمكنه أن يجعلنا سعداء بحق. وحده السحر هو الذي يقدر على ذلك. تلك الحقيقة لم تفت العبقرية الطفولية لموتسارت، حين ألمح بكل وضوح إلى تلك الرابطة الخفية بين السحر والسعادة في رسالة إلى جوزيف بولينجر: «الحياة الكريمة والحياة السعيدة شيئان مختلفان كل الاختلاف، ولا سبيل لبلوغ العيش السعيد إلا عن طريق نوع من السحر؛ ولكي يتأتى هذا لا بد من وقوع حدث خارق بحق» .[2]

شأن مخلوقات الأساطير، يعرف الأطفال أنه إذا أردتَ أن تكون سعيدًا عليك أن تكسب جنِّي المصباح إلى صفك، وأن تحتفظ في دارك بالحمار الذي يتغوط عملات ذهبية، والدجاجة التي تبيض ذهبًا. وأيًا كان الموقف الذي تجد نفسك فيه، فإن معرفة المكان الصحيح الذي ينبغي التواجد فيه، والكلمات الصحيحة التي ينبغي النطق بها، أهم بكثير من تجشم عناء بلوغ الهدف عبر الطرق القويمة. فالسحر معناه، على وجه الدقة، أنه ما من أحد جدير بالسعادة، وأن السعادة المستحقة، كما عرف القدماء، هي دائمًا وأبدًا محض خيلاء، وثمرة للكبرياء والغلو. لكن لو كان باستطاعة المرء التأثير على الأقدار بواسطة الحيلة والخداع، ولو أن ما يناله من سعادة لا يعتمد على ما هو عليه في ذاته بل على تعويذة سحرية أو «افتح يا سمسم»، عندها، وعندها فقط، يستطيع أن يعتبر نفسه حائزًا لبركة السعادة الحقة.

هذه الحكمة الطفولية التي تشدد على أن السعادة ليست شيئًا يُمكن أن نناله عن جدارة واستحقاق، دائمًا ما كانت تُقابل بالاعتراض من جانب النزعة الأخلاقية السائدة. فلنأخذ، على سبيل المثال، كلمات كانط، وهو الفيلسوف الأقل قدرة على فهم الفارق بين الحياة الكريمة والحياة السعيدة: «ثمة شيء بداخلك يسعى وراء السعادة، هذا هو الهوى؛ وفي المقابل، ثمة شيء آخر يقيد هذا الهوى ويرهنه باستحقاقك للسعادة وجدارتك بها، ذلك هو العقل».[3] بيد أننا (أو الطفل الذي بداخلنا) لن نعرف أبدًا ماذا نفعل بسعادة نلناها عن استحقاق. ويا لهول أن تعشقك امرأة لا لشيء إلا لكونك جديرًا بذلك! وكم هو مضجر أن تنال السعادة كمكافأة على عمل أديته بإتقان.

هذه الرابطة بين السعادة والسحر ليست ببساطة رابطة لاأخلاقية، والدليل على كونها تشير إلى منظومة أخلاقية أكثر سموًا يمكن تلمسه في الحكمة القديمة التي تقول إنه في اللحظة التي يدرك فيها المرء أنه سعيد فإنه لم يعد سعيدًا. وهذا معناه أن ثمة علاقة إشكالية بين السعادة والذات. فالشخص السعيد لا يستطيع أن يعرف ذلك؛ والذات السعيدة ليست ذاتًا قائمة بنفسها ولا تتخذ صورة الوعي أو الضمير. هنا يتجلى السحر بوصفه استثناءً، بوصفه السبيل الوحيد الذي يتيح للإنسان أن يكون سعيدًا وأن يعرف ذلك في الوقت ذاته. فمن يستمتع بشىء ما عن طريق الافتتان إنما يفلت من ذلك الغلو الذي ينطوي عليه الوعي بالسعادة. ذلك لأن السعادة التي يعرف أنها بحوزته هي، بمعنىَ ما، ليست ملكه. وهكذا، فعندما اتخذ زيوس هيئة أمفيتريون وعاشر ألكمين الجميلة، فإنه لم يستمتع بها باعتباره زيوس ولا حتى، على عكس الظاهر، باعتباره أمفيتريون. فاستمتاعه بها يكمن كليًا في افتتانه بها، ووحده الشىء الذي نبلغه عبر الطرق الملتوية للسحر هو ما نستطيع أن نجد فيه متعة خالصة وواعية بذاتها. وحده الشخص المفتون هو من يستطيع أن يقول «أنا» بابتسامة على شفتيه، والسعادة الوحيدة المستحقة بحق هي تلك التي لا نستطيع أن نحلم يومًا باستحقاقنا لها.

ذلك هو السبب الجوهري وراء المبدأ القائل بأنه ثمة طريقة واحدة لبلوغ السعادة على الأرض: الإيمان بالفردوس والإحجام عن التطلع لبلوغه (ثمة تنويعة ساخرة على هذا المبدأ نجدها في محادثة بين كافكا وجوستاف جانوش، حين يؤكد كافكا أن ثمة الكثير من الأمل –لكن ليس لنا).[4] هذه الأطروحة النسكية في ظاهرها تغدو مفهومة فقط إذا فهمنا  المقصود بـ «ليس لنا». فليس المقصود أن السعادة مقصورة على الآخرين (فالسعادة، على وجه الدقة، لنا) إنما المقصود أننا نلتقي السعادة فقط حيث تكون غير مقدرة لنا. وبكلمات أخرى: السعادة يمكن أن تكون لنا فقط من خلال السحر. في ذلك الموضع، حيث ننتزعها من يد الأقدار، تتطابق السعادة كليًا مع وعينا بأنفسنا ككائنات تمتلك قدرات سحرية، مع تلك الحركة التي نزيح بها عن كواهلنا حزن الطفولة ذاك مرةً واحدة وإلى الأبد.

فلو كان الأمر كذلك، لو أنه ما من سعادة إلا في الشعور بامتلاك قدرات سحرية، فإن تعريف كافكا المبهم للسحر يغدو واضحًا. فهو يقول إننا لو نادينا الحياة باسمها الصحيح لهرعت إلينا، لأن «هذا هو جوهر السحر. فالسحر لا يخلق الشيء بل يستحضره».[5] هذا التعريف يتفق مع التقليد القديم الذي كان كهنة القبالة ومحضرو الأرواح يتبعونه بمنتهى الدقة والذي يرى أن السحر في جوهره هو علم الأسماء السرية. فكل شيء وكل كائن له، إلى جانب اسمه الظاهر، اسم آخر سري، لا يتقاعس أبدًا عن الاستجابة له. وأن تكون ساحرًا معناه أن تعرف تلك الأسماء الأصلية وأن تستحضرها. ومن هنا تلك النقاشات التي لا تنتهي حول الأسماء (الشيطانية أو الملائكية) التي يؤكد مُحضِّر الأرواح من خلالها سلطانه على القوى الروحية. فالاسم السري، بالنسبة له، ليس سوى خاتم سلطانه على حياة وموت الكائن الذي يحمله.

لكن بحسب تقليد آخر أكثر إشراقًا، فإن الاسم السري ليس شفرة خضوع الشيء لكلمات الساحر بقدر ما هو الطغراء التي تسمح له بالانعتاق من ربقة اللغة. فالاسم السري هو الاسم الذي كان يُنادى به الكائن في جنة عدن. وما أن يُنطق به حتى يتحطم الاسم الظاهر –بل وبابل الأسماء بأسرها- إلى شظايا متناثرة. ولهذا فإن السحر، بحسب تلك العقيدة، هو دعوة للسعادة. والاسم السري هو الإيماءة التي تُعيد الكائن إلى ذلك الشيء الذي لا سبيل للتعبير عنه. والسحر، في التحليل الأخير، ليس معرفة الأسماء بل إيماءة، تحرر من ربقة الاسم. ولهذا السبب فإن الطفل لا يشعر أبدًا بسعادة أكبر من تلك التي يشعر بها حين يخترع لغة سرية. وحزنه لا ينبع من جهله بالأسماء السحرية بقدر ما ينبع من عجزه عن التحرر من ربقة الاسم الذي فُرض عليه. فما أن ينجح في اختراع اسم جديد، حتى يجد بين يديه تذكرة المرور إلى السعادة. فأن يكون لك اسم معناه أن تكون مذنبًا، والعدالة، شأنها شأن السحر، لا اسم لها. سعيدًا، بلا اسم، يطرق الكائن بوابات مدينة الساحر الذي لا يتحدث إلا بلغة الإشارة.


[1]
See Walter Benjamin, "Fritz Frankel: Protocol or the Mescaline Experiment
of May 22, 1934," On Hashish, ed. Howard Eiland (Cambridge, MA:
Belknap Press, 2006), p. 87.

[2]
Wolfgang Amadeus Mozart to Joseph Bullinger, Aug. 17, 1778, The Letters  of Mozart and His Family, ed. Emily
Anderson, 2nd ed., ed. A. Hyatt King and Monica Carolan (London: Macmillan,
1966), vol. 2, p. 594.

[3]  Immanuel Kant, The Metaphysics of Morals,
trans. Mary Gregor (Cambridge: Cambridge University Press, 1991), pp. 269-70.

[4]
Quoted in Walter Benjamin, "Franz Kafka," Selected Writings,
Volume 2, /927-1934
, ed. Michael W. Jennings, Howard Eiland, and Gary
Smith, trans. Rodney Livingstone (Cambridge, MA: Harvard University Press,
1999), p. 798.

[5]
Franz Kafka, Diary entry for October 18, 1921, The Diaries of Franz Kcifka,
1910-1923
, ed. Max Brod (New York: Schocken, 1948-49), P: 393.