ثوب الفردوس المفقود

مقال لجورجيو أجامبن

ترجمه عن الإنجليزية: طارق عثمان

نُشر النص الأصلي في مجلة Frankfurter Allegmeine Zeitung في أبريل 2005، وترجمه إلى الإنجليزية كريستيان نيلسون. 

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.


*في الثامن من أبريل من عام 2005، قدمت فنانة الأداء والمصوّرة الإيطالية فانيسا بيكروفت[1] عرضًا فنيًا في المتحف الوطني الجديد ببرلين، متحف الفن الحديث الشهير. وكان العرض عبارة عن مئة امرأة ــ تتراوح أعمارهن من الثامنة عشر إلى الخامسة والستين، دُربن على يد خبير نفساني، وأطعمن وجبات نباتية، ودُهِنّ بزيت اللوز ــ واقفات في صفوف داخل «الفترينة» التي صممها المعماري الألماني ميس فان دير روي، عرايا إلا من جوارب نسائية طويلة من النايلون.

 وتحكي إحدى الحضور، وهي الكاتبة الأمريكية جينيفر ألن، أن بجانبها في الصف كان يقف مواطن فانيسا بيكروفت جورجيو أجامبن، وأنه «عندما ألصقنا أنوفنا أخيرا بفترينة ميس فان دي روي العظيمة، لم يستطع أجامبن أن يُخفي استيائه، قائلًا: جوارب نايلون ... كلا كلا!». «وبينما كنّا نتحدث عنla vita nuda، الحياة المُعرّاة»، تتابع ألن، «سألني الفيلسوف الإيطالي سؤالًا أرقه لعقود: كيف تتخيلين الناس في العالم المثالي: مرتدين للثياب أم عُراة؟».[2]

بعد حضوره العرض، وكحاشية عليه، كتب أجامبن هذا النص القصير، الذي نُشر بالألمانية في 2005 بعد العرض بأيام معدودة.

المترجم


من عرض فانيسا بيكروفت، عن Numero

الانطباع الأول الذي تركه عرض فانيسا بيكروفت على الجمهور الحاضر في المتحف الوطني الجديد ببرلين كان انطباعًا سياسيًا: لا شيء سوى أناس متحضرين مرتدين لثيابهم يجيلون النظر في أناس متحضرين متجردين من ثيابهم. إنه الوضع المتفاقم واليائس في الوقت عينه للإنسان في المجتمع الجماهيري يكشف عن نفسه لكن في كامل التباسه، في ذلك الشكل الغريب المميز لوضع الإنسان المعاصر: في شكل لا-حدث (non-event). أي شيء كان من شأنه أن يحدث لكنه لم يحدث.

لكن لو كان للمرء أن يتأمل بأثر رجعي في خصائص هذا العرض، هذا اللا-حدث، فسيتنحى هذا الانطباع السياسي الأولي أمام تأمل لاهوتي أصيل. وذلك لأن الشيء الذي كان من المفترض له أن يحدث لكنه لم يحدث، لم يكن حفلة عربدة ولا حفلة تعذيب ولا طقس سادو-مازوخية، وإنما مجرد العُري البشري.

في ثقافتنا، العُريّ مرتبط على نحو لا ينفصم بمعنى لاهوتي، وذلك ليس فقط بسبب أن المرء عندما ينظر إلى هؤلاء النسوة المئة مختلفات الأعراق والأعمار والأشكال ــ الواقفات عرايا في صفوف منتظرات دونما حركة كما لو كنّ يترقبن حدوث شيء ما ــ لا يسعه أن يتجنب التفكير في أرض المحشر، حيث يقف المبعوثون من الموت عُراة في يوم الحساب. أنظر إلى هؤلاء النسوة العاريات وأفكر فيهن كمبعوثات من الموت محشورات ينتظرن الحساب على ما قدمت أيديهن في الحياة الدنيا. وإلى الأناس المرتدين لثيابهم المتحلقين حولهن وأفكر فيهم كملائكة، موكلين بوظائف سماوية معينة، يستعدون لسوقهن إما إلى الجنة أو إلى جهنم زمرًا.

أقول، ليس هذا فحسب ــ فالدلالة اللاهوتية لعرض شخص ما عاريّا تمضي إلى أعمق من ذلك. كلنا يعرف رواية سِفر التكوين التي تحكي عن أن آدم وحواء لم يُلاحظا عُريّهما إلا بعد الخطيئة الأصلية. وبحسب اللاهوتيين، فإن عدم ملاحظة العُريّ هذه ليست بسبب حالة مبكرة من الجهل البسيط: أنهما كانا عاريين طوال الوقت لكنهما كانا يجهلان ذلك ببساطة، ولما أكلا من الشجرة أدركا عريهما. فبالرغم من أن آدم وحواء لم يكونا مغطيين بثياب بشرية قبل أكلهما من الشجرة، إلا أنهما لم يكونا عاريين وقتئذ. فلقد كانا مغطيين بثوب من النعمة، من النور، من الستر الإلهي، غير مادي، غير مرئي، وملتصق على الجسد بإحكام. والخطيئة هي التي جردت الإنسان الأول من هذا الثوب السماوي، الذي جعل عُريه الأول، بريء، غير مثير للخجل. وفي عريّه المخجل التالي على الخطيئة، كان عليه أن يستر نفسه ــ بأوراق التين في أول الأمر ثم بالجلد الحيواني فيما بعد الطرد من عدن.

إن الثوب الذي نغطي به أنفسنا الآن لم يعد ثوب النعمة والبراءة وإنما ثوب الخطيئة والنفاق. وهذا الثوب يرتبط بالإنسان كضرورة، لأنه تذكره بـثوب الفردوس المفقود (ثوب النور، الستر الإلهي) وفي نفس الوقت هو وعد بثوب جديد سيُخلع على الإنسان عبر الخلاص. فإلى اللِباس تُعزى كرامة مسيحية مخصوصة تبلغ حتى آخر صيحات الموضة: يقول أحد اللاهوتيين المُحدَثين «إن الثوب الذي يرتديه الإنسان الساقط (الخطّاء) يمثل تذكرة له بالثوب الذي كان يرتديه ذات مرة في الفردوس. وكل تغير وابتكار في الموضة نحن على أتم استعداد لاتباعه، لأنه يعدنا ببداية لفهم أنفسنا، ليس سوى إيقاظ للأمل في استعادة الثوب المفقود... هذا الثوب الذي امتلكناه يوما ما وفقدناه والذي لا نزال نبحث عنه في كل ثياب العالم التي نرتديها يُخلع علينا كهبة في طقس العِماد».

يسمح لنا هذه التأمل اللاهوتي في التفكير على نحو جديد في العُريّ الذي لم يقع في عرض فانيسا بيكروفت. فوفقًا للمُسلّمة المؤسِسة للاهوت المسيحي للِباس، لا يكون العُريّ البشري ممكنًا، إذا كان له أن يكون ممكنا على الإطلاق، إلا كشيء عابر وسلبي. أولًا، لأن في جنة عدن كان الجسد المخلوق مكسو بالفعل بستر النعمة الإلهية؛ وثانيًا، لأن الجسد بعد السقوط قد كُسيّ مرة أخرى بفضل التعميد؛ وأخيرًا، لأن الناجين الذين سيدخلون الجنة سيُكسون مرة أخرى بثوب النعيم الذي لا يمكن خلعه عنهم بعد ذلك أبدًا. وعليه فـإن العُري يوجد، إذا كان له أن يوجد، فقط في الجحيم. وعندما يوجد على نحو مؤقت في الحياة في لحظة الوقوع في الخطيئة، يظل العُري غير مُفكَر فيه وغير مُؤوَل، بما أنه ذو معنى وحيد وهو المتعلق بثوب النعمة الإلهية.

والآن يمكننا أن نفهم لماذا لم يكن من الممكن أن يوجد في عرض فانيسا بيكروفت ــ الذي لم يُقم في الجحيم وإنما في المتحف الوطني الجديد، والذي لم يكن ثمة شيء آثم فيه على الإطلاق ــ حدث عُريّ. فكمتواطئ تام مع اللاهوت المسيحي، الذي كان مُترعا به من دون أن يعلم، لم يعرض هذا العرض سوى استحالة العُريّ نفسها.

ستكون كلمتي الأخيرة، إذن، تأملًا سياسيًا. ضد هذا التواطؤ مع السلعة واللاهوت، يتعين علينا أن نفكر في عُريّ ممكن للإنسان ــ العُري الذي جعله اللاهوت ومن بعده التشيؤ والبورنوجرافيا شيئًا غير قابل لأن يُفكر فيه. ما يتعين علينا أن نجده مرة أخرى هو عُريّ آدم قبل تغطية الله له برداء الستر والنور. لكن هذا العُريّ لا ينبغي أن يُفهم كوضع طبيعي ينبغي أن نعود إليه أو كوعد بشيء منتظر ينبغي أن نتوق إليه. وإنما هذا العُريّ هو شيء علينا، هنا والآن، أن نجرده، أن «نعريه»، خطوة بخطوة، من الرداء اللاهوتي الملتف حوله.

بحسب أمثولة غنوصية، سيقوم المُخلّصون في اليوم الآخر بنزع رداء النور الذي كساهم الله إياه عن أجسادهم، وسيقفون أمام بعضهم البعض في عُريّ لا يعرف النعمة ولا يعرف الخطيئة. وبمقدوري القول بأن الجسد البشري الذي سيُرى في ذلك اليوم سيكون مثل جسد تلك الفتاة في المتحف الوطني الجديد التي لمحتها، عرضًا، من الخلف، واختفت مرة ثانية من أمام نظري على الفور: هش، بسيط، غُفل، لكنه عار دونما ريب، وقابل لأن يُفكر فيه بيسر و لأن يُفهم بكل بساطة.

اقرأ المزيد لجورجيو أجامبن: السحر والسعادة


[1]  فانيسا بيكروفت (Vanessa Beecroft ) فنانة أداء معاصرة ومصورة ورسامة ونحاتة إيطالية، مولودة بجنوا في عام 1969. عُرفت بعروضها الأدائية (لوحاتها الحية)، ومن أشهرها هذا العرض، رقم 55، الذي يعلق عليه أجامبن في هذا النص، والعرض رقم 61، الذي يصور مذبحة عرقية بدارفور.

Leland de la Durantaye (2009). Giorgio Agamben: A critical introduction. Stanford: Stanford university press. P. 192 [2]