تعليقان على قصة «الحكم» لفرانز كافكا لألن ثيثر وبلوما جولدشتاين

ترجمة: سامح سمير

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

فرانز كافكا

أوجه الإحالة الذاتية في قصة «الحكم»

ألين ثيثر*

* ألين ثيثر، أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة ميسوري، ومؤلف كتاب «سيلين: الرواية بوصفها هذيانًا». والمقال من كتابه «فرانز كافكا: دراسة في قصصه القصيرة»

يستهل كافكا القصة بتقديم صورة للكتابة، حيث نرى جورج جالسًا، مستغرقًا في التفكير في إمكانية الكتابة لصديق له في روسيا عن زواجه الوشيك أو عن نجاحاته في العمل. على أحد المستويات، يمكن النظر إلى تلك الكتابة باعتبارها ليست أكثر من توصيل رسالة ما، أو نقل بعض المعلومات عبر فضاء شاسع. هذا الفضاء، بالمعنى الحرفي، هو السهوب الروسية الشاسعة، بيد أن القارئ، بعد شىء من التأمل وإمعان الفكر، قد يساوره الظن أنه فضاء يستحيل على أي رسالة أن تجتازه، كما في أراضي الصين المترامية الأطراف في قصص كافكا التالية.  يستهل كافكا قصته إذن بإحالة إلى فضاء التواصل، أي فضاء التيه اللانهائي، الذي تضل فيه كل الرسائل طريقها. والحال، فإن الكتابة في فضاء الانقلابات العبثية ذاك، لا تستهدف أبدًا في حقيقة الأمر التوجه إلى عالم خارجي بل فقط إلإشارة إلى نفسها وإلى الحيز الذي يحتويها بالكامل. وهكذا، كما يتضح بجلاء من بقية أحداث القصة، فإن رسالة جورج يستحيل إرسالها.

عبر تلك الإحالة للكتابة في بداية القصة، يدرج كافكا في ثنايا نصه قرينًا للوظيفة التقليدية للقصة كما يراها القارئ. فالقصة، شأنها شأن الرسالة، ينبغي أن تتجاوز حيزها الخاص، من خلال القيام بعملية إحالة بوصفها شكلًا من أشكال التواصل. وفي أحد المشاهد يتم التأكيد على عملية خلق القرين هذه، حين نجد جورج، وقد انتهى من المهمة العسيرة لكتابة الرسالة، يظل جالسًا إلى الطاولة: «بالرسالة في يده، ووجهه ميمم صوب النافذة، ظل جورج جالسًا إلى الطاولة لفترة طويلة. وحين مر  به أحد معارفه وحياه من الشارع، بالكاد رد تحيته بابتسامة شاردة». إن صورة النافذة، كما في قصتي «التحول»  و«المحاكمة»، تبدو هنا كمجاز  للشفافية المبتغاه، وانفتاح على العالم من شأنه أن يساعد على ولادة المعنى وفتح قنوات للتواصل تخترق حدود النص.

هذه المباراة التي لا تنتهي بين الحيز الداخلي والحيز الخارجي في فضاءات كافكا، كثيرًا ما تعمل كمحاكاة للعلاقة بين الفضاء السردي داخل اللغة وبين الفضاءات التي تقع خارج حدود النص، فيما وراء المتاهة المغلقة للسرد. فجورج، الكاتب الذي لم يتمكن من إكمال نصه، يبدو أنه في هذه اللحظة يجد صعوبة في فتح قناة تواصل مع «خارج» ما، يقع فيما وراء الحيز الذي يحتويه. من هذه الزاوية، فإن هذا العابر، الذي بالكاد يلتفت إليه جورج، من شأنه أن يكون قرينَا آخر  في شبكة الأقران. وهو في هذه الحالة قرين للصديق الروسي الذي يتوجه له جورج برسالته. وتكون الابتسامة الشاردة علامة أخرى من علامات الغياب التي تتغلغل في نسيج هذا النص المليء بالتناقضات؛ إنها الابتسامة الساخرة المتولدة عن استحالة قيام أي نوع من التواصل عبر النافذة والتي، في عالم كافكا، كثيرًا ما تكون حاجزَا وسدًا، وليست مصدرًا للضوء.


العلاقة بين العوامل الاقتصادية والسلوك الاجتماعي

بلوما جولدشتاين*

* بلوما جولدشتاين، أستاذة الأدب الألماني سابقًا في جامعة كاليفورنيا. ومؤلفة كتاب «الموسويون: هاينه، كافكا، فرويد، شوينبرج في البرية الأوروبية»

تقدم لنا قصة «الحُكم» تركيبة معقدة من المشاكل الاجتماعية، حيث يمر جورج بيندمان بأزمة في علاقته مع أبيه، وصديقه، وخطيبته، بل، في حقيقة الأمر، مع مجمل طريقته في العيش. وخلافًا لما ذهب إليه عدد كبير من النقاد، فإن هذه الأزمة ليست أزمة كل أحد وأي أحد يقف على عتبة الرشد، عند الحد الفاصل بين الشباب والنضج، بين اللهو والمسؤولية، الفردية والمجتمع؛ كما أنها أيضًا ليست أزمة تعبير عن تناقضات الوجود الإنساني التي لا مهرب منها ولا سبيل إلى حلها. إنها بالأحرى أزمة جورج بيندمان، بيد أنه بإمكاننا معايشتها كأزمة تخصنا نحن أيضًا. لكن لو استطعنا بالفعل أن نعتبرها أزمتنا، فإن هذا يعود ربما إلى أن تجاربنا وبيئتنا تشبه تجربة جورج وبيئته. كذلك، فإن جورج وأباه لا يمثلان كل ابن وكل أب، بل هما شخصان متعينان تربطهما صلة قرابة، في بيئة ذات سمات مميزة. فنحن نلتقيهما في منزلهما، حيث يتواجهان، ويستمد كل منهما سماته المميزة، جزئيًا، من موقعه فيه.

في حجرته جيدة الإضاءة والتهوية، يحدق الابن عبر نافذة مفتوحة إلى مشهد مترامي الأطراف بالخارج، بينما يقبع الأب في ركن من أركان حجرته التي تقع في نهاية المنزل، محاطًا بتذكارات من ماضيه، يعود بعضها إلى زوجته التي رحلت منذ سنوات بعيدة – حجرة خانقة، تعمها الفوضى، وتنتشر في أرجائها صحف قديمة وبقايا طعام فطور لم يؤكل. وبالفعل، فإن وصف حجرتي الأب والابن، والتباين الشديد بينهما، يوحي بالسمات الشخصية لساكنيها: الشاب المنغمس تمامًا في العالم الخارجي، والمنفصل عن كل من حوله، والأب المتقوقع على ذاته، المعتز بعلاقاته العميقة مع الناس والوفاء لماضيه، ولا يقيم وزنًا لمفردات العالم الخارجي –القاذورات، الطعام، الوقت. والحال، فإن التفاصيل الدقيقة للبيئة التي يعيشان فيها، والسرد البارع والمؤثر لوقائع دالة –عوضًا عن وصف الشخصيات أو تحديدها- هو ما يكشف عن نوعية شخصية كل منهما وسماتها المميزة.

وهكذا، فإن العلاقات بين الشخصيتين، وبين كل منهما والبيئة المحيطة هي التي تحدد السمات الشخصية لكل منهما. فعلى سبيل المثال، حين يهم جورج بمغادرة حجرته متجهًا إلى حجرة أبيه، فإن جملة واحدة فقط تكشف عن طبيعة علاقات جورج بمن حوله، وما تتسم به من عقم ونأي؛ حيث يلتفت نحو النافذة –والنافذة موتيفة متكررة في أعمال كافكا توحي بانفصال البشر عن محيطهم، إضافة إلى شعور ثقيل بعزلة الفرد ووحدته – «بابتسامة شاردة، بالكاد رد على تحية أحد معارفه لوح له بيده وهو يجتاز الشارع». وفي المشهد التالي الذي يدور في حجرة الأب، يتم التأكيد على هذا التباعد بين جورج و بين كل ما حوله، حيث نجد العجوز، محاطًا بتذكارات حياة عزيزة على قلبه، يتفحص مشاكل ابنه الاجتماعية.

فالعلاقات بين الشخصيات لها الأهمية القصوى في هذه القصة. فقط من خلال طبيعة العلاقات بين الشخصيات ونوعيتها بإمكاننا أن نعرف أي شىء يتعلق بهذه الشخصيات. فهنا نجد أن الناس ليسوا، على وجه الدقة، سوى مجموع علاقاتهم، والتي لا تشمل علاقاتهم بعضهم ببعض فقط، لكن أيضًا علاقاتهم بالعمل، والبيئة الاجتماعية. وهكذا، فإن معلوماتنا عن جورج، تصل إلينا عبر علاقاته مع أبيه، وصديقه، وخطيبته، وبيته، وحياته العملية. وتحديدًا لأن شخصيته ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمجمل حياته الاجتماعية، فإن نظرة فاحصة على سلوكه العام من شأنها أن تلقي الضوء ليس على طبيعة عزوبيته فحسب، بل أيضًا على أسباب الأزمة التي تبلغ ذروتها في حكم الإعدام الذي يصدره الأب وانتحار الابن.


اقرأ المزيد: الوجه الآخر لفرانز كافكا