شيوعية التدخين

مقال لمِلادن دولار*

ترجمة: طارق عثمان 

مِلادن دولار (1951) الفيلسوف والمحلل النفسي السلوفيني، يُشكل رفقة سلافوي جيجك وألينكا زوبانجج ما يُعرف بالترويكا السلوفينية.

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

مِلادن دولار عن on scenes

«عند الملمات، نجد  في السجائر العون الفعال أكثر مما نجده في الأناجيل»

(إميل سيوران)[1]

خارج واحدة من ناطحات السحاب الفاتنة تلك في جنوب منهاتن، احتَشَدَت جماعة من الناس على مسافة مناسبة من مدخل البناية، المحروس، وكما هو متوقع، من طرف رجل أمن يراقب، بعيني نسر وبسحنة جادة لا تعرف الهزل، المسافة التي تفصل الحشد عن المدخل. تتألف الجماعة، في معظمهما، من موظفي المكاتب الشاهقة المُطلة على الشارع، لكنها تتضمن أيضًا بعض السيَّاح، وبعض الأشخاص الغرباء الذي يوحي منظرهم بالتشرد. والغرض من وراء هذا الحشد الصغير، المتألف من دزينة أو نحو ذلك من الأشخاص، هو التدخين. يتسم الرهط بعدم التجانس، فالموظفون يرتدون ثيابًا رسمية فاخرة، وبوسع المرء أن يتخيلهم بسهولة في منصب وظيفي أو آخر من وظائف التمويل الرأسمالي المعقدة، بينما يرتدي السيَّاح ثيابًا غير رسمية متباينة ومتعددة الألوان، وهم في وقفة موجزة اقتطعوها من خط سير رحلتهم المرسوم بعناية عبر معالم المدينة، أما المتشردون فيرتدون ثيابًا فضفاضة مُجعَّدة.

يتفق كل فريق من الثلاثة إذن مع الكليشيه الدارج عنه. نحن، أي الجماعة، ندخن في صمت، واقفين ملتصقين نسبيًا ببعضنا البعض، لأن هذا المكان المخصص للتدخين يبدو مطوقًا بأسلاك غير مرئية، مراعيًا، لا شك في ذلك، لقواعد ما سنتها إحدى السلطات، التي يعلم الله وحده كنهها. لكننا ننظر في اتجاهات مختلفة، شاعرين، على نحو مبهم، بالحرج أو بعدم الارتياح على الأقل، فبالرغم من أن المكان الذي نقف فيه موجود خارج الطرق الرسمية، وبالتالي الآخرون في مأمن من الضيق الذي قد يسببه تدخيننا لهم، إلا أنه، في نفس الوقت، مكان مكشوف، إذ لا يمكن له أن يكون مستورًا بالكلية في مثل هذه المنطقة المطروقة بكثافة، وبالتالي يشعر المرء منا كما لو كان معروضًا (بسيجارته) للفرجة أمام أعين الناس، فالمارة والمتوجهون نحو مدخل البناية الفخم، يلقون علينا، نحن المنبوذين الجدد (المدخنين)، نظرة جانبية خاطفة ملؤها الريب وعدم الاستحسان.

هذا حشد عارض من الغرباء الذين تجمعوا، لمدة خمس دقائق، في بقعة بعينها، لا يجمع بينهم أي شيء مشترك سوى هذا الغرض: تدخين سيجارة. ومن دون سابق إنذار، قال أحدنا: «في البداية السود واليهود، والآن نحن». وعلى الفور تفجر المكان بالضحك والمرح، وتوًّا غدا هؤلاء الغرباء بالكلية أصدقاء، وإن كان لدقائق معدودة، فالتدخين قصير العمر وكذلك هي صداقتنا، لكن ثمة تضامنًا مفاجئًا ينبجس، رابطة إنسانية مفاجئة تنعقد، فأثر هذه الدقائق الموجزة يمتد بعيدًا إلى ما وراء هذا التجمع، إلى ما وراء الجدول الزمني لأشغالنا الذي سيفرقنا في كل صوب، عما قريب، كلٌ إلى حال سبيله. فتَجَمُّعنا سيتبخر إلى دخان، تمامًا كما هي سجائرنا، لكن هذه الدقائق الموجزة تتمتع بقدرة غريبة على البقاء، وتمتد إلى ما وراء مُمليات الوقت، إلى ما وراء ضغط الوظائف والالتزامات ولوازم العيش والواجبات الاجتماعية. ومن الواضح أننا بضحكنا سويَّة قد استطعنا أن نحرز نصرًا صغيرًا على تلك الجموع الغفيرة المعترضة على تدخيننا، وعلى القواعد المصمَمة بعناية التي عزلتنا في هذه البقعة. لقد قلب المُستبعَدون والمخزيون الطاولة، إننا الفائزون ولو لهذه الدقائق القصيرة على الأقل.

بالطبع، قد قيل التعليق (في البداية السود واليهود والآن نحن) بروح المدخنين المازحة. فمن المغالاة أن نساوي بين من تعرضوا لقرون من الاستعباد والمجازر وبين هؤلاء المنبوذين الجدد، ويتطلب الأمر الكثير من الغرور لكي يدعي المرء (كمدخن) لنفسه نسبًا مثل هذا. لكن المدخنين يميلون دومًا إلى المزاح. فثمة اثنان من السود ضمن جماعة المدخنين واثنان من اليهود أيضًا كما تبين لاحقًا (وأجل، تخمينكم صحيح، هما ينتميان للجزء من الجماعة الذي يعمل في التمويل الرأسمالي، فالمرء يمكن له أن يشك في كل شيء إلا في الكليشيهات)، وهؤلاء الأربعة قد تفكّهوا بالتعليق أكثر من غيرهم. فأحد اليهوديين أضاف مبتسمًا: «لكننا لم نصل إلى مرحلة الهولوكوست بعد». وبالإضافة إلى هؤلاء، قد يكون ثمة سود أو يهود آخرون بين جماعة المدخنين، بل لقد تحولنا جميعًا، وبشكل مؤقت، إلى سود ويهود شرفيين. فثمة تبادل مفاجئ في قصص الحياة، فأحدنا عاد بالحديث إلى الهولوكوست، بينما عاد آخر إلى أيام ما قبل مارتن لوثر كينج. أحد السود وهو كبير في السن، ينتمي، على ما أظن، إلى طاقم صيانة المبنى، قال: «طوال حياتي لم أكن أبدا مضطهدًا كرجل أسود كما أنا مضطهد الآن كرجل مدخن». وهو قد عاش في الأيام التي سبقت على حركة الحقوق المدنية عندما لم يكن من السيء، في نيويورك على الأقل، أن تكون أسود كما هو حالك الآن إذا كنت مدخنًا. إن كل إقصاء منهما، رغم تباينهما الشديد، وفي ضرب من التواطؤ الغريب، يعكس الآخر كمرآته. أما المشردون فلديهم بعض القصص ليحكوها عن مطاردة الشرطة لهم لتدخينهم في أماكن ممنوع فيها التدخين بصرامة. وهي التعلة الجديدة الجاهزة للتحرش بهم. وفجأة، نظر اليهود الأثرياء إلى المشردين بعين جديدة، باستحسان تقريبًا، فشبح المصير المشترك للإقصاء يحوم في الهواء رابطًا، لوهلة، بين طرق الإقصاء المتباينة بشدة. وبدورهم، أخبر السيَّاح الإسبان عن بعض حيل حرب الشوارع التي استخدمها المدخنون في إسبانيا عقب سَن الإجراءات المضادة للتدخين، بالرغم من أنها كانت أخف وطأة من تلك التي سُنّت في الولايات المتحدة ــ لكن الولايات المتحدة هي، وكما العادة، من يشق لنا الطريق، واتفقنا أننا، عما قريب، سنكون جميعا هناك، نتشاطر الأرض الموعودة.

يا مُدخني العالم، اتحدوا. لكننا متحدون بالفعل. فلقد تمكنا، جماعة، من تحقيق إنجاز لا يُصدق: تجاوُز التقسيمات الاجتماعية؛ خداع أشباح التاريخ وعداءاتها، ودفنها؛ العثور على شيء من التضامن عبر الحدود؛ الضحك والمرح سويَّة، نحن الغرباء بالكلية، في بضع دقائق، ونحن وقوف بجانب الطريق الرئيسي في منهاتن، في مركز سلطة العالم، مركز الرأسمال. إنها جماعيَّة غير مرجحة مبنية على التدخين، والتدخين وحده. لقد أضحى الأمر واضحًا بجلاء: المدخنون يعيشون في الشيوعية. إنهم يخلقون شيوعية أينما كانوا، حتى لو كانوا على بعد خطوات من وول ستريت. لقد دشن المدخنون حركة احتلوا وول ستريت قبل ظهور الحركة بكثير، كل ما في الأمر أن لا أحد لاحظ ذلك. إنهم لا ينتظرون مجيء مجتمع بلا طبقات، وإنما يوجدونه في التوِّ. إن التدخين لذة فورية تتطلب حلولًا فورية ولا يمكن ترحيلها إلى مستقبل ما بعيد. إن تواجد مدخنيِّن كافٍ بالفعل لتبرعم خلية شيوعية، فعندما يتجمع مدخنان أو ثلاثة، تبرق روح الشيوعية (غير المقدسة) بين ظهرانيهم. يُشكِّل المدخنون حزبًا شروط عضويته بسيطة للغاية، فالجميع مرحب بهم للانضمام، حتى غير المدخنين الشرفيين تُقبل عضويتهم فيه بكل سرور. إنه حزب يشرع على الفور في تبديد كل التراتبيات الهرمية بمجرد ما أن تُقدح ولّاعة.

إسكرا، الشرارة، ذلك هو اسم جريدة لينين السياسية، كما هو مشهور، والمدخنون يأخذون المسألة بشكل حرفي: شرارة (تشعل السيجارة) هذا هو كل ما يتطلبه الأمر. لكن إذا كان لينين قد سمَّى صحيفته بهذا الاسم ليقول بأن الشرارة كامنة هناك مستعدة لإضرام نار هائلة في المستقبل، فالمدخنون يزدهرون على الشرر والقليل من اللهب الحاضر فحسب، فمستقبلهم غير متيقن منه بالنظر إلى عادتهم (المضرة بالصحة). إن شيوعية المدخنين بلا مستقبل، فجميعهم سيموتون شبابًا، مبتلين بسرطانات الرئة والسكتات القلبية، ناهيك عن العجز الجنسي والجلد المتغضن. إنهم يستخدمون أسلحة دمار شامل تدمر مستخدميها، الذين يتقبلون مصيرهم بسكينة وانشراح صدر.

ليس لدى حزب المدخنين برنامج، باستثناء ذلك المتعلق بما يُنجز على الفور. إن أفعالهم تسبق أقوالهم. لكن ذلك لا يعني أن معشر المدخنين مؤسس على اللذة والإشباع اللحظي فحسب، وأنه مُعرِض بالكلية عن المطالب الفكرية، فهو على العكس من ذلك تمامًا. فليس ثمة شيء يحرِّض على التفكير مثل التدخين سويّة، فهناك، بين جماعة المدخنين، يأخذ المرء استراحة من جَلبة الحياة وصخبها المعتاد، ينظر إليها من على بعد، ويتأمل فيها، وإذ بمختلف أنواع البرامج الفكرية تأتي بغتة في بحر دقائق معدودة. أفكار جامحة تدور بحرية بين الأشخاص، تمامًا كما يدور بينهم الدخان، وهناك، يستطيع المرء أن يُقلِّب نظره في الأمور مقبلًا ومدبرًا، معفيَّا من الضغوط والالتزامات الآنية، بين معشر غير تمييزي من الأصدقاء والغرباء على حد السواء. فالقصص المجنونة والنِكات الطريفة يتم تشاركها بسخاء مع الدخان. ويمكن للمرء أن يقع فجأة على حلٍ لمشكلة قد أجهد عقله بحثًا عن حلٍ لها ولم يفلح، تحديدًا لأن هذه هي وقفة، استراحة غير منتجة من متطلبات الإنتاج، والعقل يحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد بذل الجهد لكي يعمل. إن ساعة التدخين هي ساعة العطايا (العقلية) العارضة والمجانية وغير المتوقعة. التدخين ممارسة اجتماعية بشكل جوهري، ومذاق التدخين في جماعة يختلف تمامًا عن مذاق التدخين المنفرد (حسنًا، مثل ممارسة الجنس بالضبط). وكلما رَمَى إلى إمتاع الجسد كلما حفَّز العقل ونشَّطه، ومن هذه الجهة، هو ممارسة غير-مسيحية بامتياز، إذ يشهد بثبات ضد انقسامنا إلى جسد وروح. فاشتهاء الجسد يمضي يدًا بيد مع اشتهاء العقل وينسجم معه، وكل منهما يعزز الآخر. إن حزب المدخنين لا ينطلق من برنامج ما لكي يحرِّض على الفعل، وإنما ينطلق بفعل بحثًا عن برنامج، وبمجرد ما يتجمع المدخنون تبدأ البرامج في التكاثر كفِطر. إنهم يفسرون العالم ويغيرونه في الوقت الذي يتطلبه تدخين سيجارة.

أن يكون التدخين اجتماعيًا لا يعني أبدًا أنه مُحايد اجتماعيًا. فمضامينه التاريخية والاجتماعية تمتد في جميع الاتجاهات، وبعضها يمتد بعيدًا عن الاتجاه الشيوعي. لكن في ظل أوضاع الحظر الراهنة على التدخين واللعن (البغض) السياسي المتزايد له، وعلى خلفية الحملة المغالية عليه، والقواعد التنظيمية المتجددة أبدًا التي تُجسِّد شيئًا ما شبيها بكاريكاتير لـ «البيوسياسة» في علاقتها بالإقصاء (بالاستثناء، حتى نتكلم كأجامبين)، يظهر التدخين بوصفه استعارة، فهو يعكس ويكسر كل الإقصاءات الأخرى في نموذج مصغر، إنه يرسم خط انقسام كبير هو عبارة عن تجميع للعديد من الخطوط المُقسِّمة الصغيرة.

إن المدخنين يُعبِّرون عن شيء ما ويمثلون شيئًا ما. يمثلون، على سبيل المثال، السرطان في الجسد الاجتماعي السليم، فالمتعة تُعامل بشكل متزايد كسرطان في السلوك الجسدي المعياري المفروض. إذ ثمة على الدوام شيء ما في المتعة يصل إلى «ما وراء مبدأ اللذة»، شيء غير ممتثل لمقاصد الحفاظ على الحياة وغير مبالٍ بها. إن التدخين يروِّج للمتعة (enjoyment) في قلب مجتمع يلهث وراء اللذة (pleasure)، على خلفية أوامر هذا المجتمع الالتذاذية. إن التدخين يمضي إلى أبعد مما ينبغي في طلب المتعة، يمضي إلى الحدود التي يحضر عندها شبح الهلاك، والشيء الذي يتحسس منه المجتمع المروج للصحة واللذة هو، وبكلمة واحدة، المتعة. لقد عرف فرويد، وهو مدخن عظيم، ذلك جيدًا. وكذلك فعل لاكان ــ وهو مدخن آخر ــ الذي أقام تعارضًا صريحًا بين اللذة والمتعة.

بالطبع تتبدد شيوعية التدخين بنفس السرعة التي نشأت بها ــ إنها تتبخر مع الدخان. ففي الخطوة الأولى، وبواسطة القوة السحرية لتدخين السيجارة، «كل ما هو صلب يتبخر في الهواء»، وفقًا لتعبير ماركس (مدخن آخر) في البيان الشيوعي، كل العلاقات الطبقية تُزعزع، وفي الخطوة التالية يتبخر شبح الشيوعية، الذي ظهر أثناء التدخين، بدوره، في الهواء، دون أن يُخلّف وراءه أي أثر، تمامًا كالدخان. ثمة بالطبع خطر في إضفاء الطابع الرومانسي على اللحظة الخاطفة وتمجيد سحرها، اللحظة التي يبدو فيها كل شيء ممكنًا، ولو عبر شاشة من الدخان. آه، الجمال العابر لكل ما هو عابر، فتنة الجلال الآني! وثمة أيضا باعث فكري صارم على مقاومة مثل هذا الولع، على مقاومة تلك الحركة الباعثة على الرضا والسعادة المتمثلة في تحويل شيء مبتذل وعادي إلى شيء ثوري على نحو عميق، على يد زمرة من الثوريين المتعجلين المفخمين لأنفسهم، والمستغنين عن الانضباط والدأب والتنظيم. لكن ربما يتعين على المرء أيضا أن يقاوم هذا الباعث على المقاومة نفسه، وأن يسمح لنفسه بالغرق في لحظة من الهوى، من الخيال.

ليس للمدخنين، كما البروليتاريا، وطن. لكنهم يخلقون مناطق محررة على الفور أينما حلوا. لقد مثَّل التدخين التحرر على الدوام، حرية مؤقتة من سلاسل البقاء على قيد الحياة، إنه موقف ضد بقائي. إنه يقول: أنا حرُ في السلاسل، حر بينما أنا مُسلسل بهذه العادة التي لا أستطيع الإقلاع عنها، فهذه السلاسل تسمح لي بأن أبتعد بمسافة ما عن سلاسل الحياة التي تسحقني تحت وطأتها، وأنا مستعد لدفع الثمن. إن التدخين يُصدِر تصريحًا، تصريحًا يمكن قراءته بشتى الطرق الممكنة: كلبي، عفوي، مسترخ، عصابي، ذهاني، منحرف، استحواذي، إكراهي، مُلذ مؤنب للضمير، آثم، غندور، التذاذي، يائس، مضاد للتوتر، عدواني، متكبر، مُغو، متاح، علامة على الانتماء لطبقة، علامة على عدم الانتماء لطبقة، اجتماعي، ضد اجتماعي.. لكنني، على الرغم من كل الصعوبات، وبخيال جامح، أود أن أقرأ هذا التصريح على هذا النحو: الشيوعية ممكنة.


الاقتباس من وضع المترجم[1]