عن الحياة بموجب فتوى

حوار مع سلمان رشدي

أجرى الحوار فيليب أويمك

نُشر في مجلة الشبيجل 22 سبتمبر 2012

ترجمة: باسم عبد الحليم

خاص بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة
الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

Micheline Pelletier / Sygma / Corbis
عن Speigel

لأكثر من عقد من الزمن، اضطُرَ الكاتب
سلمان رشدي إلى الاختباء من تهديدات المتطرفين المسلمين باغتياله على خلفية الفتوى
الإيرانية. في سبتمبر من عام 2012، أجرت مجلة «شبيجل» حوارًا مع رشدي حول التجربة
ولماذا اختار الكتابة عنها في مذكراته المُعنونة بـ«ﭼـوزيف أنطون»، والتي صدرت في
نفس العام.

شبيجل: سيد رشدي، أسميتَ مذكراتك
بالاسم المستعار الذي اخترته أثناء الفترة التي اختبأت فيها.

رشدي: نعم، أول شئ أخبرني
به ضباط الشرطة هو حاجتي إلى اسم مستعار، لأتمكن من إجراء معاملات معينة. بيوت
سرية كان لا بُد من استئجارها، كنت بحاجة إلى حساب مصرفي وهمي وكان عليَّ أن أقوم
بكتابة شيكات. إلى جانب ذلك، احتاجت حراستي الخاصة إلى اسم كودي لاستخدامه عند
التحدث عني. ولكي أجد اسمًا مناسبًا، استغرق مني التفكير عدة أيام.

شبيجل: وبعد ذلك، من بين كل الأسماء،
اخترت «ﭼـوزيف أنطون»؟

رشدي: اسما اثنين من
كُتَّابي المفضلين: ﭼـوزيف كونراد وأنطون تشيخوف. في البداية كنت أرغب في استخدام
اسم شخصية وضعتُها لرواية جديدة. كانت تلك الشخصية تعاني الاضطراب العقلي، وكانت
لكاتبٍ أيضًا، اسمها «عجيب مامولي». بدا مناسبًا، «عجيب» تعني عجيب، بينما «مامولي»
تعني «طبيعي». لذا كنت السيد «عجيب طبيعي»، تناقُض مميَّز ومُتغيِّر. هذا ما شعرتُ
به نحو نفسي.

شبيجل: ثم؟

رشدي: حراسي الشخصيين لم
يعجبهم الاسم. صعب جدًا على التذكُر، وصعب جدًا في النطق، وآسيوي بعض الشيء. قالوا
إن أعداءنا يمكنهم الربط بين الاثنين بسهولة، بعدها حاولتُ الجمع بين أسماء
كُتَّاب آخرين أحبهم: مارسيل بيكيت، فلاديمير ﭼـويس، فرانز ستيرن، وكانت كلها
سخيفة.

شبيجل: لكن «ﭼـوزيف أنطون» أعجب
حُرَّاسك الشخصيين؟

رشدي: أحبوه. وبعد ذلك
أصبحت «ﭼـو» لمدة 10 أعوام. «هاي يا ﭼـو». كرهتُ ذلك. عندما أكون بمفردي في المنزل
معهم، كنت دائمًا أقول: «يا شباب، لما لا تتوقفوا عن مناداتي بـﭼـو لبعض الوقت؟ لا
أحد معنا هنا، وكلنا نعرف من نحن بالضبط». كان كلامي بلا فائدة، ثم قلت لنفسي: «ﭼـو،
أنت يجب أن تحيا كى لا أموت أنا».

شبيجل: هل مات جو عندما توقفت حراستك
الشخصية عام 1999؟

رشدي: نعم، وشعرت
بالارتياح حينها.

شبيجل: ولكنك بعثته من جديد الآن!

رشدي: لأنني أردتُ أن
يفهم الناس كم غريب أن تعيش في عالم تضطر فيه إلى التخلِّي عن اسمك الحقيقي!

شبيجل: في مقابلة سابقة مع «شبيجل»،
منذ عام ونصف، قلتَ لنا إن هذه الفترة كانت ضارة جدًا لك على المستويين العاطفي
والنفسي. هل ساعدك قليلًا أن تكتب عنها الآن؟

رشدي: لمدة طويلة لم أقدر
عاطفيًا على تجاهل واقع تلك الفترة، لم أرغب في ذلك. وفكرت: لقد خرجت من هذا النفق
المظلم، وتمكنتُ على نحو ما من إغلاق الباب ورائي. فقط أترك الباب مغلقًا. لكني
كنت أعرف دائمًا، أنني سأكتب عن ذلك في نهاية المطاف،  لذا حرصتُ على كتابة
يومياتي، ومنذ أول يوم تقريبًا.

شبيجل: كل يوم؟

رشدي: تقريبًا كل يوم. في
بعض الأحيان كانت على شكل مقالات قصيرة، أو قصص أطول في أحيان أخرى. تراكمت تلك
اليوميات حتى تحولت إلى آلاف الصفحات -فوضى كاملة- ثم قامت جامعة «إيموري» في
ولاية أتلانتا بفهرستها من أجلي. فجأة أصبحتْ حياتي تحت الفتوى موضوعة أمامي،
يومًا بيوم. كانت صدمة، تغطي تلك اليوميات الفترة من عام 1988 -عندما نُشرت «الآيات
الشيطانية»- حتى عام  2003.

شبيجل: هل عرفت وقتها أنك ستكتب عن ذلك
في نهاية المطاف؟ أم أنه كان شكلًا من أشكال العلاج الذاتي؟

رشدي: لقد كتبت كي أكون
قادرًا على التذكُر. كانت الأحداث طاغية للغاية، وكل شيء حدث بسرعة، كنت أعلم أنني
لن أكون قادرًا على تذكر ما حدث. في تلك الأيام كنت وحيدًا تمامًا ومنعزلًا، وكانت
الكتابة أحيانًا تُمثِّل لي الشيء الوحيد المتبقي.

شبيجل: وكيف كانت تلك الأيام؟

رشدي: في اليوم الذي
نُشِرتْ فيه الفتوى في 14 فبراير عام 1989، غادرتُ بيتي في لندن، لم أكن أعلم أني
لن أستطيع العودة لسنوات. وبدأت ساعتها «عملية ملاكايت» Operation Malachite
- الاسم الذي أطلقه فرع شرطة لندن على حالتي - في اليوم التالي.
نُقِلتْ إلى عدة أماكن خلال الأشهر القليلة الأولى، إلى فنادق؛ أسرَّة غريبة
ووجبات إفطار يعدَّها ضباط شرطة متقاعدون، وشقق لأصدقاء. وفي وقت لاحق، كان يتم
استئجار منازل في آخر لحظة. كنت أبدأ يومي بالمرور بين رجال الحراسة الشخصية في
المطبخ، بينما لا أزال مُرتَديًا بيـﭽـامتي.

شبيجل: كم عدد الحراس الشخصيين الذين
اصطحبوك؟

رشدي: في تلك السنوات،
كان يرافقني حارسان شخصيَّان على مدار الساعة. كان هناك أيضًا سائقان وسيارتان
مُصفَّحتان، سيارة ﭼـاجوار قديمة، وسيارة لاندروﭬـر أقدم. وكان يتم إحضار السيارة
الثانية دائمًا، في حالة ما إذا تعطلتْ الأولى.

شبيجل: هل كان ممكنًا أن تتأقلم مع
حياةٍ كهذه؟

رشدي: نعم، بالطبع. ولكن
كان هناك دائمًا صوت غريب في رأسي يأبى اعتياد الأمر. رفضتُ أن أسمح لنفسي بتقبُّل
ذلك باعتباره حياتي. دائمًا ما كنت أحاول أن أضع نهاية للأمر.

شبيجل: لقد قاومتَ علنًا ودافعتَ عن
نفسك. وحاولتَ إقناع إيران بسحب الفتوى. وأظهرت ذلك، حتى عاديت المزيد والمزيد
نتيجة لنضالك. أكان هذا هو الشيء الصحيح الذي يجب فعله؟

رشدي: رفضتُ السماح لنفسي
بالتخلِّي عن صورتي الخاصة عن العالم، وقبول الصورة الأمنية التي توفرها لي الشرطة
بدلًا من ذلك، عندما يحدث هذا فأنت تصير مخلوقًا خاصًا بهم، وعليك أن تفعل ما
يقولون. أنا أقدر للغاية الطريقة التي تمت حمايتي بها. وأتفهَّم كم كانت هامة
وضرورية، وبعض حراسي صاروا أصدقائي، لكن الحملة العامة، والمفاوضات مع أفراد
الحراسة، كانت تهدف باستمرار إلى استعادة حياتي الطبيعية.

شبيجل: كيف كان شكل تلك الحياة
الطبيعية تحت ظروفٍ كهذه؟

رشدي: مجرد فرصة اللقاء
مع القراء عندما يُنشَر كتاب، أو عند توقيع كتاب. لكن لم يكن الحُرَّاس الشخصيِّين
يرغبون في ذلك. عقولهم مُعدَّة فقط على تقييم المخاطر. كانوا فخورين حقًا بحقيقة
أنهم لم يفقدوا «مهمة» على الإطلاق، هذا هو الاسم الذي يُطلقونه على مَن يقومون
بحمايته. وأرادوا أن تظل الأمور على هذا النحو. يمكن تفهُّم الاحتياجات الأساسية
في حياة فردٍ ما، مثل أن يكون قادرًا على رؤية زوجته وابنه، أو حتى على الذهاب
لتناول العشاء مع أصدقاء من حين لآخر. لكن حفل توقيع بائس؟ كانت المُخاطرة الأمنية
في نظر الحُرَّاس لا تتناسب مع الفائدة. في النهاية تمكنتُ من إقناعهم بالمحاولة.
توقعوا احتشاد الآلاف من المُحْتَجين، لكن لم يحدث شئ، وهكذا يصبح الأمر أسهل في
المرة التالية. كانت هناك معارك كثيرة من ذلك النوع، هذا ما كانت تتألف منه حياتي
وقتها.

شبيجل: هل تعرف الآن كم كان حجم
التهديدات على حياتك حقيقيًا وملموسًا على أرض الواقع؟

رشدي: عندما قابلتُ
حُرَّاسي الشخصيين في اليوم التالي لإعلان الفتوى، قالوا إنهم سيضطرون لإخفائي في
فندقٍ لبضعة أيام، حتى «تحل هذه المسألة نفسها». لكن لا شيء حل نفسه. وفي وقت
لاحق، كانت هناك حوادث جعلتْ من واقعية التهديد أمرًا جليًا. فجر رجل نفسه بالخطأ
في أحد الفنادق الرخيصة في «بادينجتون»، أثناء محاولته تجميع قنبلة تبيَّن لاحقًا
أنني كنت المستهدف بها، ثم كانت هناك اعتداءات خطيرة على اثنين من مترجمي كُتُبي،
وعلى ناشري في النرويج. ولم تكن هذه الهجمات بتخطيط هواة، وإنما قتلة محترفين، من
المفترض أن النظام الإيراني اكتراهم.

شبيجل: هل كنت مُطَلِعًا على حالة التهديدات
أولًا بأول؟

رشدي: كان ضباط الشرطة
يُبلغوني عندما يرتفع مستوى التهديدات. ومرة أو مرتين كل سنة، كان يتم نقلي إلى
مقر المخابرات البريطانية للقاء الضباط المسؤولين عن حالتي. كانوا مُثيرين للاعجاب
حقًا؛ أشخاص لا يمزحون، ويعرفون تمامًا ما يتحدثون عنه.

شبيجل: في الكتاب، مع ذلك، كتبتَ أيضًا
أن بعضًا من كبار ضباط الشرطة كانوا مِن ضمن حُرَّاسك؟

رشدي: كان هناك ذلك
الانطباع، أنا لم أكن الشخص الذي يشعرون أنه يستحق أن تتم حمايته. وزير أيرلندا
الشمالية! نعم، نفهم هذا. لكني لم أكن مثل الآخرين، أولئك الذين يستحقون الحماية
لأنهم قدموا شيئًا لهذا البلد، كنت أنا الشخص الذي حصل على حماية لأنه جلب المتاعب
لنفسه. من وجهة نظرهم، كان خطئي أن المسلمين يلاحقونني. بعض أفراد الشرطة، ليس
كلهم، لا يفهم كيف يمكن لشخص أن يكون عرضة لأن يُحدث ضجة بسبب شيء بعيد كهذا.
كانوا سيتفهمون لو كان الكتاب -على الأقل- عن إنجلترا..!

شبيجل: لم تتعرض لانتقادات فقط من
قِبَل المسلمين والشرطة، ولكن –أيضًا- على نحو متزايد من زملاء مهنة ومثقفين، «ﭼـون
لو كارييه» – أكبر منتقديك ربما - اتهمك بمهاجمة عدو معروف -عدو ردة فعله متوقعة
سلفًا- يمكنك أن تتهمه بأنه «أحمق».

رشدي: أعتقد أنه على
الأرجح شعر بالندم بعد أن قال تلك الأشياء، لأنها طريقة ما لكي تقول إن كل
المثقفين الذين ناضلوا ضد الطغاة في أي وقت مضى يستحقون ما حدث لهم. لقد كان
جارثيا لوركا مُدركًا لـوحشية فرانكو، عرف أوسيب ماندلستام ما يمكن توقُعه من
ستالين. هل كان يجب عليهم أن يبقوا أفواههم مغلقة؟ رفع الأصوات ضد أعداء معروفين،
هو بالضبط ما ظل يفعله الكُتَّاب بشرفٍ طيلة تاريخ الأدب. وأن يقول «لو كارييه»
إنه كان خطؤهم الغبي، فأقل ما يوصف به هذا الكلام هو السذاجة. هذا مهين لتاريخ
الأدب.

شبيجل: ولكن مهاجمة دين ليس كانتقاد
ديكتاتورية؟

رشدي: أنا أصر على حرية
التعبير، حتى عندما يتعلق الأمر بالأديان.

شبيجل: وهكذا أصبحتَ لدى البعض «شهيد
حرية التعبير»، كما قال ﭼـون آبدايك في إحدى المرات، في حين أنك بالنسبة لآخرين
كنت مجرد مُشاكس أهان ملايين المسلمين دون داعٍ. وجاء هذا الضغط الشعبي على رأس
التهديدات ضدك. هل من الممكن التخلُّص من شيء كهذا؟

رشدي: لا، ولكن جونتر
جراس أسدى لي نصيحة غالية، وقد عانى هو نفسه من معضلة مماثلة مع شخصيته العامة. في
مرحلةٍ ما، كما قال، كان يرى نفسه شخصين. كان هناك «جونتر» الذي كان يعرفه، ويعرفه
أصدقاءه وعائلته. ثم كان هناك أيضًا «جراس»، الذي خرج إلى العالم وأحدث ضجة. قال
لي مرة: «في بعض الأحيان، كنت أشعر أن بوسعي أن أرسل جراس إلى العالم لكي يحدث
ضجته، بينما يمكن لـجونتر أن يجلس في هدوء وسلام في منزله».

شبيجل: إذَن في حالتك كان هناك «ﭼـو»؛
الرجل الذي كانت تحميه حراستك الشخصية. وكان هناك «ﭼـوزيف أنطون»؛ الرجل الذي
يستأجر المنازل ويُحرِّر الشيكات. وهناك أيضًا «رشدي»؛ المشاكس جالب المتاعب. ثم
كان هناك «الكاتب» سلمان رشدي الذي يجلس وحيدًا في مخبئه. كل هذا يكفي للدفع بشخص
إلى الجنون!

رشدي: كان شيئًا جنونيًا
بالفعل. كانت ثمة فجوة هائلة بين التصوُّر العام عني، وبين حقيقتي الشخصية. أظن أن
هذه الفجوة تتسع كلما كان المرء أكثر وضوحًا. على سبيل المثال، أنا متأكد مِن أن
مادونا لا تفكر في نفسها بوصفها الشخص الموجود في الصحف. لقد قابلتُها مرةً واحدة،
وكانت –أوكيه، بصراحة- تقليدية جدًا. كانت تتحدث عن أسعار العقارات. المرة الوحيدة
التي التقيتها فيها، لم تتحدث سوى عن أسعار الشقق في منطقة ماربل آرتش بلندن.

شبيجل: عندما هوجمتَ ووضِعتَ تحت
حراسةٍ كهذه، هل ابتكرت واقعك الخاص، وأنت تأخذ نفسك بجديةٍ هكذا؟!

رشدي: نعم، كان هناك خطر
أن يستَلِبكَ كل هذا. هذا هو السبب في أنني حاولتُ الخروج من تلك الفقاعة الأمنية
التي عَلِقتُ فيها. ولكنهم لم يسمحوا لي بذلك في إنجلترا، ولذا أصبحت أمريكا شديدة
الأهمية بالنسبة لي. هناك سمحوا لي باتخاذ قراراتٍ حول أسلوب الحياة الذي أرغب
فيه، على عكس إنجلترا، حيث ألقوا شبكة أمان من حولي. وتدريجيًّا تمكنتُ من تفجير
هذه الفقاعة. عندما كنت أكتب رواية «الأرض تحت قدميها» عام 1998، كنتُ قادرًا على
العيش بمفردي في منزل بلونج آيلاند لما يقرب من 3 شهور، بدون رجال حراسة في كل
مكان. وفجأة صرت قادرًا على قيادة سيارتي بنفسي. كان يمكننا أن نقرر ونخرج لتناول
العشاء، وكانت سعادتي بالغة.

شبيجل: هل عانيتَ في بعض الأوقات من
الاكتئاب؟

رشدي: نعم، كنتُ في حالةٍ
سيئة في بعض الأحيان. أعرفُ هذا الآن، لأنني كلما قرأتُ في تلك المذكرات من أجل
الكتاب، أستطعتُ أن أرى أحيانًا أن الشخص الذي كتب هذا لم يكن على ما يرام. لم أكن
متزنًا بالمرة في أول عامين أو عامين ونصف. كانت هناك أيضًا موجات دورية من الاكتئاب
في أوقاتٍ لاحقة.

شبيجل: في مذكراتك، تكتب من منطلق ضمير
الغائب وليس ضمير الأنا، كما لو كنتَ تريد النأي بنفسك عن الشخصية التي تصفها!

رشدي: لم أكن أريد أن
أبتعد بنفسي عن نفسي، لستُ بهذا الجنون! في البداية، حاولت الكتابة بضمير الأنا،
ولكن لم أستطع الإمساك بالنبرة المناسبة، بدت نرجسية ومتعالية قليلًا. لذا توقفتُ
عن العمل على الكتاب، لم أكن أستمتع. في مرحلةٍ ما، ظهرت فكرة: ماذا لو حكيتُ
القصة كما لو أنها لم تحدث لي، بل حدثتْ لشخص آخر؟ لو استطعتُ أن أرفع شخصيتي
لمستوى الشخصيات الأخرى، وأصفُها بموضوعيةٍ أكثر ومن وجهات نظر مختلفة. وفجأة
أدركتُ الطريقة التي عليَّ أن أكتب بها هذا الكتاب.

شبيجل: هذه التقنية جعلت الوصف أقل
عاطفية.

رشدي: كانت القصة قوية
بما فيه الكفاية. هنا أنت تمتلك حبكة لا تتطلب المبالغة فيها. وأنتَ لا تريد أن
تبالغ في روايتها، إما هذا أو كانت ستتحول إلى أوبرا غنائية.

شبيجل: هل كان أيضًا جزء من رغبتك في
أن تكون موضوعيًا، هو وجود بعض الشخصيات –بالذات زوجاتك السابقات- التي تصفك بأمور
سيئة للغاية؟

رشدي: صحيح بالطبع. كانت
الطريقة الوحيدة لكتابة كتاب كهذا، هي إسقاط كل دفاعاتك. يجب أن تكون بدون حماية.
بالطبع هناك بضع أفعال لي –وجوانب من شخصيتي- أتحرج منها للغاية، لكنها وقعتْ
فعلًا. الواقع أننا –نحن الكُتَّاب- نفحص أنفسنا باستمرار. تتطلب المهنة منك
دائمًا أن تحدق مرارًا وتكرارًا داخل نفسك. أعتقد أن هذا هو السبب في أنني لم أشعر
بالحاجة قط إلى مُساعدة نفسية، في أي وقت من الأوقات، رغم أنني لم أكن على ما
يرام. الكتابة هي أن تقوم باجراء تحقيق داخلي للروح.

شبيجل: في الكتاب جعلتَ زوجتك الثالثة «إليزابيث
ويست» تقول عنك إنك شخص أناني، يمضي في الحياة مُدمِّرًا حياة الآخرين. لقد
عَايشتْ معك معظم فترة الفتوى، حتى تركتَها من أجل العارضة الهندية «بادما لاكِشمي».
هل ثمة بعض الحقيقة، في تقييمها هذا عنك؟

رشدي: لا أرى الأمر على
هذا النحو، ولكن كان عليَّ أن أفسح لها المجال للتعبير عن رأيها، وإلا فالكتاب كان
سيصبح ذاتيًا جدًا، ومتصالحًا. كنت أريد للأشياء أن تكون ثلاثية الأبعاد، كما في
الرواية. أردتُ أن أُظهِر للعالم، أنني بالفعل قادر على تصوُّر نفسي.

شبيجل: كتبتَ في مذكراتك أن حياة
الكاتب عبارة عن اتفاق خاسر في الاتجاه المعاكس: أنت ترغب تحقيق الخلود، حتى تتمكن
من دفع ثمن كونك تحيا حياة سيئة.  كانت حياتك صعبة في كثير من الأحيان، لكنك
أصبحتَ بالفعل أكثر الكُتَّاب الأحياء شهرة.

رشدي: لم يكن هذا
مُرضِيًا، لأنه يبدو أنه كان للأسباب الخاطئة. لم أصبح مشهورًا بسبب مضمون عملي،
وإنما بسبب الفضيحة التي أحاطته. لكن الفضيحة لا تضمن لك الخلود. لذا فأنا لا
أستريح تمامًا لهذه الشهرة. الأمر الجيد الوحيد في الموضوع، هو عندما أتصل اليوم
بأحد السياسيين لأطلب منه مساعدة كاتب زميل صار تحت التهديد، عادةً ما يقوم
السياسي بالرد على اتصالاتي. هناك كُتَّاب آخرون  لا ينجحون في هذا على
الأغلب.

شبيجل: هل ستكتب «الآيات الشيطانية»،
إذا ما كتبتَها اليوم، بنفس الطريقة؟

رشدي: نعم. ولحسن الحظ،
أنا لستُ مضطرًا لذلك، لأنني كتبتُها بالفعل.

شبيجل: ألن تحذفَ مقاطع الحلم المثيرة
للجدل عن الرسول؟

رشدي: بالطبع لا، في
الواقع أظن أنها من أفضل أجزاء الكتاب. أنا أحب تلك المقاطع حقًا.

شبيجل: هل كانت الرواية ستصبح أسوأ لو
لم تُسمِّ العاهرات في بيت الدعارة على أسماء زوجات الرسول؟

رشدي: نعم. هناك سبب لفعل
ذلك. بسبب الموقف من النساء في ذلك الوقت. كانت هناك زوجات الرسول، وكُن معروفات
جدًا وقتها. ولكن لا يمكن لأي رجل آخر أن يَرَاهُنّ، لأنهن كن مخفيات في حرملك
الرسول. وكانت بيوت الدعارة وقتها بالفعل تُطلق على العاهرات أسماء زوجات الرسول،
أو حتى أسماءً مُقتبسة عنها. ذلك جعل الأمر يصبح من قبيل الخيالات الجنسية.
وبعبارة أخرى، لم يكن الغرض من هذا الفصل إهانة الرسول، بل عَرض الظاهرة التي
تتعلق بالنساء ذوات السلطة، وطبيعة النشاط الجنسي للذكور وكيف يستثار الرجال بما
لا يستطيعون الحصول عليه. هذه المقاطع خطيرة، لكنها لا تشير في أي موضعٍ إلى أن
زوجات الرسول كن يتصرفن على نحوٍ غير لائق. لا أظن أن فهم الأمر بهذه الصعوبة.

شبيجل: أحد الفصول في مذكراتك يحمل
عنوان «فخ الرغبة في أن تكون محبوبًا»، هل هذا أحد هواجسك؟

رشدي: لقد تجاوزتُ هذا
الآن. في تلك الأثناء، دائمًا ما كنت أفكر لو أنني فقط اُتيحتْ لي الفرصة لإيضاح
حقيقتي وحقيقة «الآيات الشيطانية»، كان الناس سيفهمون أنه لا يوجد سبب لكي
يكرهوني، لأنني ببساطة شخص لطيف. لكنني أدرك الآن أن دائمًا ما سيكون هناك أناس لا
يتقبلون ما أفعل. تعرف.. هذا سيء، أنا لم أعد بحاجة لأن يحبني الجميع الآن.

شبيجل: هل ما تزال تصلك تهديدات إلى
اليوم؟

رشدي: لا.

شبيجل: في الأسبوع الماضي، تجددتْ
الهجمات على المنشآت الأمريكية في ليبيا ومصر واليمن بسبب الفيلم الذي يسخر من
النبي محمد، هل يبدو هذا مألوفًا لك؟

رشدي: نحن لا نعرف بالضبط
ما حدث في ليبيا. الإدارة الأمريكية تقول إنه لم يتضح بعد ما إذا كان هجوم بنغازي
بسبب الـﭭـيديو، أم كان هجومًا جهاديًا مخططًا في ذكرى 11 سبتمبر.

شبيجل: هل أنت قَلِق من أن يتم تصعيد
الأمور ضدك مرة أخرى؟

رشدي: أنت تعرف. لا أريد
التعليق على شيء، وأنا لا أعرف بالضبط ما نتحدث عنه. سأترك هذا لـمِت رومني.. لا،
حقًا، يجب علينا أن نتوقف عن التفكير بهذه الطريقة. وبجانب ذلك، فإن هذه هي قصة
حياتي، ولن أسمح لأحد بمنعي من أن أحكيها.

شبيجل: سيد رشدي، نشكرك على هذا الحوار.


اقرأ المزيد: نص المختفي لسلمان رشدي (1-2)

(2-2)