جيل دولوز وفيليكس جواتاري: مايو 68 لم يقع
عن مجلة «شيمير»
وقد صدَّرت المجلة إعادة نشرها للمقال بعبارة تقول:
جيل دولوز وفيليكس جواتاري يستعيدان الكلمة معا لتحليل 1984 على ضوء 1968.
(روجعت الترجمة على مقال دولوز وجواتاري الأصلي في كتاب «نمطان من الجنون»).
deux regimes de fous
ترجمة: أحمد حسان
ضمن ملف «أصداء مايو»
خاص بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
***
في ظواهر تاريخية مثل ثورة عام 1789، والكوميونة، وثورة عام 1917، ثمة دائما جزءٌ من الحدث événement، لا يقبل الاختزال إلى حتمياتٍ إجتماعية، إلى سلاسل سببية. لا يحب المؤرخون هذا الجانب كثيرًا: فهم يستعيدون سببياتٍ فيما بعد. لكن الحدث نفسه في انفصالٍ أو في قطيعة مع السببيات : إنه تشعبٌ ثنائي، حيودٌ بالنسبة للقوانين، حالةٌ غير مستقرة تفتح مجالا جديدًا للمُمكنات. وقد تحدث ﭘريجوﭼين Prigogine عن تلك الحالات التي فيها، حتى في الفيزياء، تنتشرُ الاختلافات الصغيرة بدل أن تنعدم، وتدخل ظواهرٌ مستقلةٌ تمامًا في رنينٍ [تجاوب]، أو اقتران. بهذا المعنى، يُمكن لحدثٍ أن يُعاكَسَ، ويُقمَع، ويُستعَاد، ويُخَان، لكنه يتضمَّنُ رغم ذلك شيئًا لا يقبل التجاوز. والمارقون وحدهم هم من يقولون: لقد تم تجاوزه. لكن حتى لو كان الحدث ذاته عتيقًا، فإنه لا يقبل التجاوز: إنه انفتاحٌ على الممكن. ينفذُ إلى داخل الأفراد بقدر ما ينفذُ إلى أعماق مجتمعٍ ما.
وفضلًا عن ذلك كانت الظواهر التاريخية التي نستحضرها مصحوبةً بحتميات أو سببيات، ولو كانت ذات طبيعةٍ أخرى. إن مايو 68 هو بالأحرى من نوع حدثٍ خالص، متحرِّر من كل سببيةٍ قياسية أو معيارية. وتاريخه هو «تتابعٌ من أوجه عدم الاستقرار والتقلُّبات المُضخَّمة». وقع الكثير من التحريضات، والإيماءات، والأحاديث، والحماقات، والأوهام في 68، لكن ليس هذا ما يهم. ما يهم، هو ما كان ظاهرةَ استبصارٍ voyance، كأن مجتمعاً يستبصر فجأةً ما كان يحتويه مما لا يطاق ويستبصر أيضًا إمكانيةَ شيءٍ آخر. هذه ظاهرةٌ جماعية تأخذ شكل: «بعض الممكن، وإلاّ سأختنق». والممكن لا يوجد سلفًا، بل يخلقه الحدثُ. هذه مسألةُ حياة. الحدث يخلقُ وجودًا آخر، يُنتِجُ ذاتيةً جديدة (ارتباطاتٍ جديدة بالجسد، بالزمن، بالجنسانية، بالوسط المحيط، بالثقافة، بالعمل . . .).
حين يظهر تحوُّلٌ اجتماعي، لا يكفي استخلاص عواقبه أو تأثيراته بتتبُّع خطوطٍ من السببيات الاقتصادية والسياسية. إذ يجب أن يكون المجتمعُ قادرا على تشكيل تجميعاتٍ[1] agencements جماعية مناظرةٍ للذاتية الجديدة، بطريقةٍ تجعلها تقبل التحوُّل. هذا هو الأمر، «تكيُّف reconversion» حقيقي. وكانت الصفقة الجديدةNew Deal ، والازدهار الياباني مثالين بالغي الاختلاف للتكيّف الذاتي، بكل أنواع الالتباسات وحتى البنيات الرجعية، لكن أيضًا بما يكفي من المبادرة والإبداع لتشكيل حالةٍ اجتماعية جديدة قادرة على الاستجابة لمتطلبات الحدث. وفي فرنسا، على النقيض، بعد 68، لم تتوقف السلطات عن العيش بفكرة أن «الأمر سيعود إلى نصابه». وبالفعل، عاد الأمر إلى نصابه، لكن في شروطٍ كارثية. لم يكن مايو 68 لا نتيجةً لأزمةٍ ولا ردَ فعلٍ على أزمة. إنه العكس بالأحرى. إنه الأزمة الراهنة، الطرقُ المسدودة للأزمة الراهنة في فرنسا الناجمةِ مباشرةً عن عدم قدرة المجتمع الفرنسي على استيعاب مايو 68. لقد أظهر المجتمع الفرنسي عجزًا جذريًا عن إحداثِ تكيُّفٍ ذاتي على مستوى جماعي، وهو ما كان يتطلَّبه 68: ومن ثم، كيف كان يمكنه فعليًا إحداث تكيّفٍ اقتصادي في شروطٍ «يسارية»؟ لم يهتدِ المجتمعُ الفرنسي أبدا إلى اقتراح أيِّ شيءٍ على الناس: لا في مجال المدرسة، ولا في مجال العمل. كل ما كان جديدًا جرى تهميشه أو السخرية منه caricaturé. واليوم نرى أناس لونجويLongwy [2] يتشبثون بصُلبهم، ومنتجي الألبان بأبقارهم، إلخ: ماذا يمكنهم أن يفعلوا غير ذلك، حيث أن كل تجميعة لوجودٍ جديد، لذاتيةٍ جماعيةٍ جديدةٍ قد تم سحقُها مقدَّمًا من جانب رد الفعل ضد 68، على اليسار مثلما على اليمين تقريبا؟ وحتى من جانب الإذاعات الحرة. في كل مرةٍ تم إغلاقُ الممكن.
أما أطفال مايو 68، فيمكن أن نصادفهم في كل مكان تقريبًا، لا يعرفون ذلك هم أنفسهم، وكل بلدٍ ينتجهم على طريقته. ووضعهم ليس مُشرقًا. ليسوا كوادر شابة. وهم لا مبالون على نحوٍ غريب، ولهذا السبب فإنهم مطَّلِعون على خبايا الأمور. كَفُّوا عن أن يكونوا مُتطلِّبين، أو نرجسيين، لكنهم يعرفون جيدًا أن لا شيء يستجيب حاليًا لذاتيتهم، ولا لطاقتهم الكامنة. ويعرفون حتى أن كلَّ الإصلاحات الراهنة موجَّهةٌ بالأحرى ضدهم. وهم مُصمِّمون على أن يهتموا بشؤونهم الخاصة، بقدر ما يستطيعون. يحتفظون بانفتاحٍ، يتشبثون بممكن. وقد صنع كوبولا Coppola صورتهم الشعرية في فيلم رستي جيمسRusty James ؛ ويشرح الممثل ميكي روركMickey Rourke :«إنها شخصيةٌ بلغت تقريبا نهايةَ المطاف، على الحافة. ليست من طراز هيلز آنجلHell's Angle [ملاك الجحيم]. لديها عقلٌ في رأسها، كما أن لديها حسٌ جيد. خليطٌ من الثقافة القادمة من الشارع ومن الجامعة. وهذا الخليط هو ما جعلها مجنونة. لا تُريدُ شيئًا. تعلم أنه ما من عملٍ لها، لأنها أشد دهاءً من أي شخص على استعدادٍ لتشغيلها. . .» (ليبيراسيون، 15 فبراير 1984).
يصدق هذا على العالم بأسره. فما نمأسِسهُ، في البطالة، والتقاعد، والمدرسة، هي «مواقف التخلّي» الخاضعة للسيطرة، ونموذجُها هو المعاقون. والتكيَّفات الذاتية الوحيدة التي تجري حاليًا، على مستوى جماعي، هي تكيفاتُ رأسماليةٍ متوحشة على الطراز الأمريكي، أو حتى تكيفاتُ أصوليةٍ إسلامية مثلما في إيران، أو دياناتٍ أفرو ـ أمريكية مثلما في البرازيل: إنها الأشكال المتعارضة لنزعةٍ أصوليةٍ جديدة (ويجب أن نضيف هنا البابوية ـ الجديدة الأوروبية). ليس لدى أوروبا ما تقترحُه، ويبدو أن فرنسا لم يعد لديها من طموحٍ سوى أن تتزعم أوروبا متأمركةً ومُفرطةَ التسلّح يمكن أن تفرِض من أعلى التكيُّفَ الاقتصادي الضروري. لكن مجال الممكنات يقع في مكانٍ آخر: على طول محور الغرب ـ الشرق، في النزعة السلمية، بقدر ما تحدّدُ لنفسها تفكيكَ علاقات النزاع، والتسلُّح المفرط، لكن كذلك علاقاتِ التواطؤ والاقتسام بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وعلى طول محور الشمال ـ الجنوب، في نزعةِ أمميةٍ جديدة، لا تعود تتأسسُ فحسب على التحالف مع العالم الثالث، بل على ظواهر نشوءِ العالم الثالث في البلدان الغنية ذاتها (مثلًا تطوُّر الحواضر الكبرى، وتدهور قلب المدن، وصعود عالمٍ ثالثٍ أوروبي كما حللها بول فيريليوPaul Virilio ). ما من حلٍ لا يكون إبداعيًا. تلك هي التكيُّفات الإبداعية التي قد تساهم في حل الأزمة الراهنة وتواصل من حيث انتهى مايو 68 مُعمَّم، من تشعُّبٍ ثنائي أو تقلُّبٍ مُضخَّم.
[1] تجميعاتagencements : التجميعة مفهوم محوري من مفاهيم دولوز وجواتاري. تعرّف بأنها كثرة. هي مركّب من الخطوط، لها «موطن» يتمفصل فيه مضمونٌ وتعبير، كما تخترقه «خطوط نزع توطين» تفتحه: إما على تجميعاتٍ أخرى قائمة، وإما على «أرضٍ خارجية»، وإما على «آلآت مجرّدة وكونية».
[2] لونجويLogwy: هذا هو الاسم الفرنسي، الاسم الألماني هو لانجيش: كوميونة في إقليم ميرت ـ إى ـ موزيلMeurthe-et-Moselle في الشمال الشرقي لفرنسا. كانت مركزًا صناعيًا لمقاطعة اللورين حيث يستخرج الحديد.