سطوة الكيتش التي تتحدى الزمن

مقال لروجر سكروتون*

نُشر على موقع البي بي سي - 12 ديسمبر 2014

* روجر سكروتون (1944) فيلسوف وكاتب إنجليزي مختص بعلم الجمال والفلسفة السياسية.

ترجمة: سامح سمير

خاص بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمه دون إذن منه.

***

روجر سكروتون عن The Spectator

في السنوات الأولى من القرن العشرين، دخل الفن حقبة ثورية جديدة. «كفى هروبًا من الواقع»، كان الشعار الذي رفعه الحداثيون. ينبغي على الفن أن يعرض الحياة المعاصرة كما هي، وبهذه الطريقة فقط يمكنه أن يقدم للمتلقي عزاءً حقيقيًا. الزخرفة جريمة، كما أعلن المعماري أدولف لوس، وكل تلك الواجهات الباروكية بأقواسها وحلزوناتها التافهة الخالية من كل معنى التي تعج بها شوارع فيينا، ليست سوى سلسلة طويلة من الإنكارات للعالم الذي نعيش فيه. فهي تخبرنا أن الجمال ينتمي إلى ماضٍ مندثر. وفي مواجهة هذه الرسالة، أخذ لوس على عاتقه مهمة اكتشاف جمال أكثر نقاءً – جمال لا ينتمي إلى الحياة العصرية فحسب بل يحتضنها أيضًا.

أما أرنولد شوينبرج، الذي كان معاصرًا للوس، فقد تمرد على الموسيقى الرومانتيكية المتأخرة والتي كان قد امتلك ناصيتها وبرع فيها، معلنًا أن الموسيقى النغمية أصبحت مبتذلة، وأن الاستمرار في التأليف على الطريقة القديمة لن ينتج سوى كليشيهات موسيقية. ومن ثم، راح يسعى لإعادة ابتكار اللغة الموسيقية، يحدوه الأمل في في استعادة ذلك النقاء والدقة اللذين نجدهما لدى موتسارت أو باخ. وبالمثل، أعلن كل من إليوت وباوند تمردهما على أشعار هاوسمان Housman  وفالتر دي لا مارWalter De La Mare المغرقة في الخيال، مؤكدين على أن مهمة الشاعر لا تتمثل في إمدادنا بأحلام مفعمة بالحنين بل في إيقاظنا وفتح عيوننا على الواقع الذي نعيشه. فالشعر الحقيقي يعرض لنا الأشياء كما هي، وهذا لن يتأتي إلا من خلال إعادة بناء الإطار المرجعي الذي يستند إليه الشعراء. والنتيجة لن تكون سهلة الفهم، لكنها، على عكس الشعر الفيكتوري ذي النزعة الهروبية، ستكون جديرة بالفهم.

في غمار الهجوم على الأساليب القديمة، ثمة كلمة بعينها جرى تداولها بكثرة، كلمة «كيتش» kitsch. فما إن بدأت تجري على الألسنة حتى التصقت بها ولم تبرحها. «أيًا يكن ما تفعله، حذارِ أن يكون (كيتش)»،  تلك هي القاعدة الأولى التي أصبح كل فنان حداثي يلتزم بها أيًا يكن الوسيط الفني الذي يستخدمه. وفي مقال شهير نُشر عام 1939، قال الناقد الأمريكي كليمينت جريبنرج لقرائه إن الفنان المعاصر أمامه طريقان اثنان لا ثالث لهما؛ إما الانتماء للطليعة، وتحدى الأساليب القديمة للرسم التصويري، وإما الكيتش. ويعد الخوف من الكيتش أحد الأسباب وراء تلك العدوانية القهرية التي تسم العديد من الأعمال الفنية المعاصرة. فلا يهم إن كان العمل الذي تقدمه بذيئًا، أو صادمًا أو مزعجًا، طالما أنه ليس «كيتش».

لا أحد يعلم على وجه التحديد من أين جاءت كلمة «كيتش»، رغم أنها كانت مستخدمة في نهاية القرن التاسع عشر في كل من ألمانيا والنمسا، ولا أحد يعرف أيضًا معناها على وجه الدقة، ومع ذلك فبوسعنا جميعًا أن نتعرف على «الكيتش» بمجرد أن تقع عيوننا عليه: دمية باربي، الغزالة بامبي (والت ديزني)، تماثيل ودمى سانتا كلوز المعروضة في السوبر ماركت. وفي فترة الكريسماس، يحاصرنا الكيتش من كل ناحية – كليشيهات مستهلكة، فقدت براءتها بدون أن تحوز الحكمة. فالأطفال الذين يؤمنون بسانتا كلوز يستثمرون طاقة عاطفية حقيقية في شيء خيالي. أما نحن، الذين فقدنا إيماننا، فليس لدينا ما نقدمه سوى مشاعر زائفة. بيد أن الزيف محبب إلى النفس، والتظاهر والادعاء يمنحانا شعورًا طيبًا، وعندما نشارك جميعًا فيهما، يبدو الأمر وكأنه يكاد يخلو تمامًا من أي تظاهر وادعاء.


بعض النظريات حول أصل كلمة «كيتش»

ثمة اتفاق على أن الكلمة ظهرت للمرة الأولى في أسواق الأعمال الفنية في ميونيخ خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الثامن عشر، كوصف للوحات والاسكتشات الرخيصة، الشعبية الرائجة، لكن هناك العديد من النظريات حول الأصل الذي اشتُقت منه:

- من الكلمة الألمانية العامية kitschen والتي معناها يلطخ.
- من الفعل verkitschen في اللغة الألمانية أيضًا والذي معناه يُرخص (يجعل الشىء رخيصًا).
- هجاء خاطئ للكلمة الإنجليزية sketch أو عَكْس لحروف الكلمة الفرنسية chic


هناك مقولة شهيرة للروائي التشيكي ميلان كونديرا: الكيتش يجعلنا نذرف دمعتين متتاليتين، الدمعة الأولى تقول: «كم هو جميل منظر الأطفال وهم يركضون على العشب!» بينما تقول الثانية: «كم هو جميل أن تتأثر مشاعرنا، نحن والبشرية بأسرها، بمنظر الأطفال وهم يركضون على العشب!» وبكلمات أخرى، فإن الكيتش يتعلق بالذات الرائية، وليس بموضوع الرؤية. ولا يحثك على التأثر بمنظر الدمية وأنت تلبسها ثيابها بحنو شديد، بل التأثر بمنظرك وأنت تفعل ذلك، وهذا بالضبط هو شأن كل نزعة عاطفية مفرطة: فهي تُغَيِّر اتجاه المشاعر من الموضوع إلى الذات، بحيث تخلق إيهامًا بالعاطفة بدون تكبد مشقة الشعور بها، فالكيتش يحثك على أن تفكر: «انظر إليَّ وأنا أشعر بهذا – كم أنا جميل وحَبُّوب!» ولهذا، يقول أوسكار وايلد، في معرض حديثه عن أحد أكثر مشاهد الموت التي تمزق القلب في روايات ديكنز: «لا بد أن يكون للمرء قلب من حجر حتى لا ينفجر ضاحكًا من مشهد موت نيل الصغير».

هذا باختصار هو السبب وراء ذلك الرعب الذي يشعر به الحداثيون تجاه الكيتش. فالفن، في اعتقادهم، قد فقد على مدار القرن الـ 19 قدرته على التمييز بين المشاعر الدقيقة الحقيقية، وبين تلك المشاعر الغامضة التي تحل محلها وتمنحنا إحساسًا زائفًا بالرضا عن الذات. ففي الرسم التصويري، والموسيقى النغمية، وقصائد الحب البطولي والمجد الأسطوري المتخمة بالكليشيهات، نعثر دائمًا على المرض ذاته – فعوضًا عن أن يسعى الفنان إلى استكشاف القلب البشري، فإنه يخلق بديلًا له مفرط الضخامة والخواء، ثم يطرحه للبيع في الأسواق.

يمكنك بالطبع أن تستخدم الأساليب القديمة، لكن بدون أن تأخذها على محمل الجد. وإن حدث واستخدمتها فالنتيجة ستكون «كيتش»: سلع نمطية رخيصة، تُنتج بدون الحاجة إلى بذل أي مجهود وتُستهلك بدون الحاجة إلى إعمال الفكر. لقد أصبح الرسم التصويري المادة الخام لبطاقات الكريسماس، والموسيقى صارت باهتة ومفرطة في عاطفيتها، وانهار صرح الأدب  إلى ركام من الكليشيهات. إن الكيتش فن زائف، يعبر عن عواطف زائفة، الهدف منها هو خداع المستهلك وإيهامه بأن ثمة شيئًا جادًا وعميقًا يحرك مشاعره، بينما هو في الحقيقة لا يشعر بأي شىء على الإطلاق.

ومع ذلك، فإن تجنب الكيتش ليس سهلًا كما يبدو، فبإمكانك أن تحاول أن تكون طليعيًا مغوارًا، وتأتي بشىء لم يستطع أحد أن يفكر في عمله من قبل وتسميه فنًا، وفي سبيل ذلك يمكنك مثلًا أن تنتهك بعض المشاعر الدينية أو مثلًا أعلى يحظى بالتقدير والاحترام. بيد أن النتيجة لن تكون سوى سلسلة من التزييفات: أصالة زائفة، قيمة زائفة، فضلًا عن نوع جديد من الكليشيهات. وبوسعك ان تتقمص دور فنان حداثي، لكن هذا لن يقودك بالضرورة إلى تحقيق ما نجح إليوت، أو شونبرج Schoenberg أو ماتيس في إنجازه، ألا وهو سبر أغوار الروح الحديثة، فالحداثة صعبة، وتتطلب معرفة كاملة بالتراث الفني وامتلاك ناصيته، وإتقان فن الانسلاخ عنه لكي تقول شيئًا جديدًا.

هذا هو السبب في ظهور مشروع فني جديد تمامًا أسميه «الكيتش الاستباقي». فالصرامة الحداثية عسيرة وغير شعبية، ومن ثم، عوضًا عن تجنب الكيتش، بدأ الفنانون في احتضانه على طريقة آندي وارهول، وآلن جونز Allen Jones، وجيف كونز Jeff Koons. فأسوأ شىء هو أن تُضبط متلبسًا بإنتاج الكيتش عن جهل وبدون قصد. وأفضل من ذلك كثيرًا أن تنتجه عن عمد، ففي هذه الحالة لن يكون «كيتش» على الإطلاق بل نوع من المحاكاة الساخرة العميقة والمركبة، فالكيتش الاستباقي يضع الكيتش الفعلي بين قوسين، على أمل أن ينقذ بهذه الطريقة جدارته الفنية . فلتأخذ مثًلًا تمثالًا من البورسلين لمايكل جاكسون وهو يحتضن قرده المدلل بابلز، وأضف إليه بعض الألوان الفاقعة وطبقة من الورنيش، ثم قم بتنسيق الشكلين في وضعية العذراء والطفل، وارسم على وجهيهما تعبيرًا مغرقًا في العاطفية لدرجة تثير غثيان المتفرج، لتحصل في النهاية على كيتش لا يُمكن اعتباره «كيتش» حقيقيًا. وعندها نبدأ نفكر، لا بد أن جيف كونز كان يعني شيئًا آخر، ، شيئًا عميقًا وجادًا فاتنا إدراكه. لعل هذا العمل الفني في حقيقته تعليق نقدي على الكيتش يتوخى، عبر التظاهر بكونه «كيتش»، أن يصبح ميتا-كيتش، إن جاز القول.

بيد أن الكيتش الاستباقي هو الحلقة الأولى في سلسلة، حيث يتظاهر الفنان بأنه يأخذ نفسه على محمل الجد، ويتظاهر النقاد بتقييم إنتاجه الفني فيما تتظاهر مؤسسة الحداثة بالترويج له. وفي نهاية سلسلة التظاهرات هذه، يأتي شخص لا يستطيع التمييز بين الأصلي والمزيف ويقرر شراء المُنتج. فقط عند هذه النقطة، تصل سلسلة التظاهرات إلى نهايتها، وتكشف القيمة الحقيقية لهذا النوع من الفن عن نفسها، أي كونها قيمة مالية فحسب. لكن حتى عند هذه النقطة يظل التظاهر مهمًا، فالشاري ينبغي أن يظل معتقدًا أنه اشترى عملًا فنيًا حقيقيًا له قيمة في ذاته، صفقة رابحة في كل الأحوال، وإلا فإن السعر قد يعكس تلك الحقيقة الواضحة أن بوسع أي شخص –بمن في ذلك الشاري نفسه- أن يصنع نسخًا زائفة على غرار هذا المنتج. فجوهر الأشياء المزيفة يكمن في كونها ليست نفسها في الحقيقة، إنما بدائل لنفسها. ومثل أشياء تنعكس صورتها في مرايا متوازية، تروح تكرر نفسها إلى ما لا نهاية، ومع كل تكرار يرتفع السعر قليلًا، حتى نصل إلى تلك النقطة حيث الكلب البالون الذي صنعه جيف كونز، والذي بوسع أي طفل أن يبتدع فكرته، بل ويستطيع بعضهم أن يصنعه، حقق أعلى سعر لعمل فني أنتجه فنان ما يزال على قيد الحياة، ما عدا طبعًا أنه ليس بفنان أصلًا.