أوليفييه جالان*: ماذا يتبقى من مايو 68؟ الأسوأ؟

عن مجلة تيلوس – 20 مارس 2018

* أوليفييه جالان (1951) عالم اجتماع فرنسي ومدير البحث بالمجلس الوطني للبحث العلمي.

ترجمة: أحمد حسان

ضمن ملف «أصداء مايو»

خاص بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

عن léxpress

على مبعدة أشهرٍ من العيد الخمسين لمايو 68، أيُّ كشفِ حسابٍ نستخلصُه عن تأثير هذه الحركة الاجتماعية؟ بديهيٌ أن التشخيصات بالغةُ التضاد، خصوصًا حسب التوجهّات الإيديولوجية والسياسية لمن يصوغونها، لكن في المتوسط يبدو أن كفةَ الميزانِ تميلُ بالأحرى، خلال هذه الأعوام الأخيرة، نحو رصيدٍ سلبي. والتيمةُ المتكرّرة هي أن الإباحية النابعة من حركة مايو قد أضعفت الأُطُرَ الاجتماعية، ونسفت السلطة، وولَّدَت اضطراباتٍ عميقة في الحياة الاجتماعية وفي العلاقات التربوية، في المدرسة مثلما في العائلات. لكن، إذا لم يكن كشف الحساب جيدًا، فربما كان ذلك لأسبابٍ أخرى.

وجهان لمايو 68

لكن قبل إصدار حكمٍ، ألا يجبُ أن نتذكرَ أولاً ما كانه أساسًا مايو 68: حركة جيليّة وليبرتارية[1] أرادت أن تنسِف مغاليق مجتمعٍ مكبَّلٍ بالمِشَدَّات، وسلطوي، وتقليدي، وخاضع لحكم العجائز. ومن عَرَفوا هذه الفترة يحتفظون منها أولًا بذكرى لفحةِ الهواء الرائعة تلك، بذلك الشعور الجديد بالحرية، وأولاً بحرية الكلام. وقد بقيت شهرةُ الندواتِ المتّصلة لأخذِ الكلمة في [مسرح] الأوديون وفي السوربون، لكن هذه الرغبة في الكلام تبدّت ببساطةٍ أيضا في الشوارع حيث حدث لأشخاصٍ مجهولين وغرباء عن بعضهم البعض أن يتناقشوا بحماس. لم يكن لما يُقال أيةُ أهميةٍ في الواقع ــ ويعلم الربُ أن أغلب ما يقال حماقات ــ فما كان يهم هو القدرةُ على قوله. كانت هذه الفورةُ الاجتماعية شيئاً جديداً جذريًا في مجتمع كان في كثيرٍ من الجوانب يخرج بالكادِ من القرن التاسع عشر حيث تُنظِّم الرتبُ، والمكاناتُ، ومبدأُ الأقدمية العلاقاتِ الاجتماعية.

إلاّ أن لمايو 68، أيضا، وجهاً أشدّ جهامةٍ سرعان ما تلا أو امتزج بهذه الفورة الليبرتارية وانتهى فضلا عن ذلك بتقليصها إلى لا شيء تقريبًا. فقد ظهرت بالفعل بسرعةٍ بالغة نزعةٌ طائفية لا تُصدَّق بقدر ما أخذت المجموعاتُ اليسارية في يدها زمامَ الحركة. ولكوني طالباً فتيًا في جامعةٍ لا تشتهر بتطرفها، هي جامعة دوفين Dauphine  الجديدة تمامًا التي خلقها للتوِّ إدجار فور Edgar Faure ، فإنني أحتفظُ بالذكرى الواضحةِ تمامًا لهذا الجو من السيطرة الإيديولوجية الذي ساد الجامعة. انتهى الهزل!

وتوضِّح حادثة شهيرةٌ بشكلٍ جيدٍ الإرهابَ الفكري الذي ساد جزءاً من الشباب الراديكالي لتلك الحقبة. كان ضحيتها ﭼان ﭬيلار Jaen Vilar  المسكين، المنشِّط النزيه لثقافةٍ شعبيةٍ حقيقية، ومؤسِّس مهرجان آفينيون Avignon ، حين اختصَمه خلال مهرجان صيف عام 1968 «ساخطو الأوديون» والراديكاليون المتطرفون للمسرح الحيِّ لجوليان بيكJulian Beck . وانتهوا بأن صاحوا في شوارع آفينيون «ﭬيلار، بيـﭼار، سالازار». اسم رجل المسرح إلى جانب اسم الدكتاتور البرتغالي! هذا لا يُمحى أبدًا.

ليبرالية العادات: تأثيراتٌ متناقضة

إذن ماذا يتبقى من كل هذا في الحساب الختامي؟

في أعقاب سنوات 1960- 1970 حفرت ليبراليةُ العاداتِ مجراها، لكن ليس دائمًا بالعمق الذي يجري الحديثُ عنه. بالتأكيد فُرِضَت في كل الفئات العُمْرية تقريبًا فكرةُ أن كل شخص يجب يكون حراً في تسيير حياته الخاصة كما يفهمها وليس لأحدٍ الحق في الحكم عليه أو وَصمِه بسبب ذلك. بديهيٌ أن هذا تقدمٌ هائل.

إلَّا أن ذلك لا يعني أن كل المعايير ستتبخَّر. فبعد الذروة الليبرتارية لأعوام الستينات سرعان ما عدنا إلى الجَزْر، وشهدت سلوكاتٌ معينة مشهورةٌ بأنها «تقليديةٌ» عودةً إلى الحظوة. هذه على سبيل المثال حالةُ قيمةِ الإخلاص في العلاقة العاطفية. إذ تُظهر أعمال INED [المعهد القومي للدراسات الديموجرافية] أن الأجيال الشابة عرفت، في المتوسط، شركاءَ جنسيين أقلَّ من أسلافهم الذين عاشوا شبابًا مُنفلِتًا خلال الأعوام 1960- 1970.

وفي مجال تربيةِ الأطفال في قلب الأسرة، شجب العديدُ من الأطباء النفسيين الأضرارَ الناشئة عن ثقافة الإباحة التي فُرِضت خلال مسيرة أعوام الستينات. وعادةً ما يحكي فيليب جاميهPhilippe Jeammet ، أحدُ كبار الاخصائيين في المراهقة، الطُرفة التالية التي هي حالةٌ حدِّية: حكايةَ أمٍّ حظرَت على نفسها كلَّ تدخُّلٍ بشأن ابنتها الأنوركسية [المريضة بالعزوف عن الطعام] حفاظاً على «حريتها»، لكن بالمخاطرةِ بتركِها تموت. لكن بعد مرور الأعوام، ألم يتغيَّر الجوُ حقاً؟ إذا قرأنا الصحفَ النسائية، لوجدنا اليوم نداءاتٍ لممارسة سلطةِ الأبوين، لصالح تثبيتِ «حدودٍ» في تربية الأطفال من أجل بناءِ شخصيتهم، أكثر مما نجد قصائدَ تتغنَّى بـﭘـيداجوﭼيا [تربية] ليبرالية.

أما المدرسة، من جهتها، فلم يمسّها مايو 68 إلاّ مسَّاً خفيفًا،  فلم يتغير عتادُها الثقافي بعمق (ولا ينطبق نفسُ الشيءِ بالتأكيد على الجامعة)، مما جعل بيير ميرل Pierre Merle ، أحد الأخصائيين الجيدين للنظام التربوي، يستطيعُ أن يكتب عام 2005 كتابًا بعنوان التلميذ المُهان L'élève humilié ، يصف فيه النظامَ التربوي الذي ما زال يقوم عادةً على الوصم العام لـ«التلامذة السيئين» وعلى «الخزي المدرسي».

في الحساب الختامي، لا شك إذن أن الليبرالية الثقافية لم تُسبِّب من الأضرار بقدر ما نودّ أن ننسِب إليها، وإذا كانت قد فعلت، فإن كفَّة الميزان تميلُ في الاتجاه المعاكس. وليس هذا بالضرورة شرًّا. لكن ثمة اليوم ما هو أشدُّ إثارةً للقلق. ألا يود المرءُ أن يرسم نزعةَ صرامةٍ أخلاقية جديدة؟ تقدم بعضُ الأحداث الأخيرة أمثلةً واضحة. إذ اقترح تقريرٌ عابرٌ للأحزاب في الجمعية الوطنية للتوِّ وضعَ «عقابٍ للانتهاك الجنسي والمتحيز جنسيًا» في المجال العام ضد من «يُضبطون متلبِّسين من جانب ممثّلي قوات النظام»، الذين هم في العمق نوعٌ من شرطة الأخلاق.  وتشوُّش تعريف هذا «الانتهاك» يبعثُ الرجفةَ في الظهر: «فعلُ أن يُفرضَ، في المجال العام، بسبب الجنس، أو الهوية أو التوجُّه الجنسي الحقيقي أو المُفتَرض  للشخص أو لمجموعةٍ من الأشخاص، كلُّ قولٍ أو سلوكٍ أو ضغطٍ ذي طابعٍ جنسي أو متحيِّزٍ جنسيا يُعدُّ تعدِّيًا على كرامته بسبب طابعه المُذِلِّ أو المهين، سواءً بأن يخلق ضده موقفاً مُهدِّداً، أو معادياً، أو مستفزّا». هل يمكن ذات يومٍ تحريرُ محضَرٍ لنظرةٍ تُعدُّ مُفرِطةَ الإلحاح؟ من المؤكد أن هذا ليس سوى مثالٍ وربما لن يكون لهذا التقرير عاقبةٌ. لكن الأمرَ الصادم هو أنه حين ظهر لم يرتفع أيُ صوتٍ ليتساءل عن كون مثل ذلك الإجراءٍ مناسبًا. والانتقادات الوحيدة وَضعت موضعَ التساؤل الإمكانيةَ العملية لجهاز القمع.

فيما يخصُّ المعايير التي تحكمُ الحياةَ الإجتماعية، وعلى نقيض ما يُفهمُ عادةً، ليس التراخي مفروضاً على الإطلاق. فعمليات الغشِّ والحيودات تتم إدانتُها باطرادٍ على نطاقٍ واسع من قبل الرأي العام، ويزدادُ باطرادٍ ضغطُ مناشدةِ السلطة. ومن المذهلِ حقا رؤيةُ إلى أي مدىً يتصاعد الارتباطُ بقيم النظام والسلطة. تتدعَّمُ جاذبيةُ الحلول السياسية السلطوية. إننا بعيدون جداً جدًا عن «ممنوع المنع»!

للطائفية بقايا كثيرة

والوجه القاتم لمايو 68، هذه الطائفية، هذه الشهيّة للشجب والتحريم، هل اختفى على الأقل؟ أبعد ما يكون عن ذلك، فهو دومًا ينبض بالحياة. وربما يشكِّل جزءاً من التقاليد السياسية الفرنسية، وقد وُجد بالتأكيد قبل 68، لكنه لم يختفِ معها. بل يبدو أنه مُتَمَأسِسٌ في أحزابٍ مناهضة ـ للنظام تعتمدُ على المتاجرة بشجب مجموعاتِ النخبة.

لكنه موجودٌ أيضا في الإنتليـﭼنسيا التي تُميِّز نفسها دوريًا بفرماناتٍ ومحظورات تطول شخصياتٍ أو مثقفين يُفترضُ أنهم منحرفون. والأمثلة وفيرة. ويمكننا أن نورِد مثالين من بين أمثلةٍ أخرى لنوضح المسألة. في عام 2014، نادت مجموعةٌ من المثقفين والمؤرخين الشباب بمقاطعة حلقة النقاش حول مواعيد التاريخ في بلوا Blois تحت ذريعة أن حضور مارسيل جوشيه Marcel Gauchet  يتناقض مع موضوع حلقة النقاش، الذي هو «المتمردون». «ضد ماذا تمرّد جوشيه في حياته» كتب اثنان من المنادين، «إن لم يكن ضد إضرابات عام 1995، ضد الحركات الإجتماعية، ضد الـPACS[2]، ضد الزواج للجميع، ضد أبوة المثليين، ضد الحركات النسوية، ضد بورديو، وفوكوه، و(فكر 68)، ضد المطالب الديموقراطية؟ وقد نشر في لو ديبا Le Débat  كل ما تعدُّه فرنسا من صنع المنظرين الإيديولوجيين الرجعيين». ها هي، لا أقل ولا أكثر، مرافعةٌ من أجل شرطةٍ للفكر.

وفي وقتٍ أقرب، طالبت مجموعاتٌ نسوية ونقابةٌ طلابية أن يُستبعد إرفيه لو برا Hervé Le Bras ، المتهم منذ خمسة عشر عامًا بالتحرّش بطالبة، في دعوى لم تنته إلى أي نتيجةٍ بعد تحقيقٍ طويل واعتذاراتٍ من الصحف التي أهانته، من حلقة نقاش نظمتها l'EHESS  [مدرسة الدراسات العليا في العلوم الإجتماعية] حول التحرش الجنسي. وأمام رفض المُنظِّمين، طالب النشطاءُ بإلغاء حلقة النقاش، ثم قاطعوا مسارها بعنف.

هذه الأشكال من التعصُّب في الحياة الثقافية يبدو بالأحرى أنها تشهد ازدياداً مع ظهور حركاتٍ هوياتية (مرتبطة بالجندر [النوع]، بالهوية الجنسية، بالأصل الإثني إلخ.) هي ذاتها، بصورةٍ متناقضة، وإلى حدٍ معين، من أبناء مايو 68.

ماذا يتبقى إذن من مايو 68؟ ليبراليةٌ ثقافية تذوي؟ تعصُّبٌ يتزايد؟ الأسوأ؟


[1] الليبرتارية: حركة تحررية يسارية ضد المراتبية والسلطوية ومع حرية الاعتقاد والفعل.

[2] [ هي عقدٌ فعلي يتم تسجيله في مجلس المدينة بين شخصين سواء من نفس الجنس أو من جنس مختلف، ولا شرط فيه للسن، الحقيقة هو عقدٌ مثل عقد الزواج، وبناءً عليه يتمتع كلٌ من الشخصين بنفس الحقوق القانونية والاجتماعية، بما في ذلك دفع الضرائب بشكلٍ مشترك. ويمكن فض عقد الباكس في أي لحظة وبدون إجراءات معقّدة مثلما في عقد الزواج الذي يلزم له توكيلٌ لمحامٍ ومصاريف كبيرة وفترة طويلة ليتم الطلاق]. التوضيح نصًا لمصطفى نور الدين.