في بعض الأحيان ضغطتُ بأذني على الحائط الذي بيننا. وفي بعض الأيام سمعتُ صوت التلفزيون في الخلفية، ولكن لم أكن أسمع أيًا من الأصوات الأخرى التي قد يتوقعها المرء.
الباب الذي بيننا
قصة لمييكو كاوكامي
ترجمة مروان عثمان
نُشرت في النيويوركر أغسطس 2024
عن ترجمة سام بيت إلى الإنجليزية
مييكو كاواكامي (29 أغسطس 1976) من أشهر كُتاب اليابان المعاصرين. عملت لفترة كشاعرة ومغنية في فرقة موسيقية. فازت بجائزة ريونيسكيه أكوتاجاوا عن روايتها (بيض وصدور) وجائزة تانيزاكي عام 2013 عن روايتها القصيرة (أحلام الحب) وجائزة ناكاهارا تشويا للشعر المعاصر عن ديوان (لقد تأثرت بالنصيحة)
ترجمت روايتيها (الجنة) و(كل العشاق في الليل) إلى العربية عن دار الآداب.

تقع شقتي في مبنى خشبي قديم بُني منذ سنوات لا يعلم أحد عددها. فقط طابق واحد، يضم وحدتين منفصلتين متجاورتين، ومحصورتين بين منازل متداعية لم يعد أحد يعيش فيها. تخيل ثلاثة أكواخ قديمة كانت لتنهار بالفعل لو لم تكن متمسكة ببعضها البعض وستفهم الفكرة. تتكون مساحة المعيشة الخاصة بي من غرفة واحدة مفروشة بالتاتامي[1]، ومطبخ صغير به بوتاجاز بعين واحدة، دش تتسرب منه المياه، ولا يوجد مكان للتخزين. وفي الخلف يشغل مكيف الهواء مساحة تجفيف الملابس بالكامل، حيث يبدو الأمر وكأن جدار المنزل يقترب مني من الخلف.
كانت هنالك امرأة تعيش بالفعل في الوحدة المجاورة لشقتي حين انتقلتُ للعيش فيها، لكن مكتب العقارات لم يخبرني باسمها. وكانت لوحة الاسم الخاصة بها فارغة ومصفرة بفعل الشمس. ولم نتحدث قط. كانت ممتلئة الجسم ذات شعر طويل أشعث، ودائمًا ما ترتدي الملابس نفسها. لستُ من النوع الذي يصدر الأحكام على الآخرين. لكن دعنا نقول إنها بدت غير متماسكة، ولا تحافظ على النظافة الصحية. لم يأت أحد لزيارتها. وفي كل مرة رأيتها فيها كان هناك شيء في وضعيتها المنحنية يخبرني أنها إما غير مبالية بالحياة، أو مرهقة، أو استسلمت، أو ربما كل ما سبق.
كانت تعاني من التشنجات العصبية. فعندما تغلق بابها في طريقها للخروج، لا تستطيع منع نفسها من هز مقبض الباب مرارًا وتكرارًا، غير قادرة على تقبل حقيقة أنه مقفل. كان الصوت عنيفًا للغاية، لدرجة أنني عندما سمعته أول مرة، كنت على يقين أنه صوت أحد محصلي القروض المخيفين. لكنه لم يكن سوى هي. في كل مرة تغادر المنزل، تسحب الباب من مفصلاته، وكل هذا الشد يترك شقوقًا ملحوظة في الحائط بين بابها وبابي. لكن يتوجب على القول إنني شعرتُ بما تشعر به. عندما كنتُ أصغر سنًا مررتُ بفترة كنتُ أغسل فيها يديَّ كثيرًا لدرجة أن الصابونة تختفي عمليًا في راحة يدي.
في بعض الأحيان ضغطتُ بأذني على الحائط الذي بيننا. وفي بعض الأيام سمعتُ صوت التلفزيون في الخلفية، ولكن لم أكن أسمع أيًا من الأصوات الأخرى التي قد يتوقعها المرء. غرفتانا كانتا عبارة عن صورة طبق الأصل لبعضها البعض -أو هكذا استنتجتُ في مكتب العقارات- ويفصل بيننا جدار رقيق. في بعض الأحيان، على سبيل المثال إذا كنتُ أغسل الأطباق، أجد نفسي أتساءل إذا كانت جارتي تغسل أطباقها في نفس اللحظة على الجانب الآخر من الجدار. ولكنها بعيدًا عن رؤيتي. وعلى هذا في الأوقات التي شعرتُ فيها أن الحياة تميل إلى العزلة. كنتُ غالبًا ما أذهل من حقيقة محيرة مفادها أن أقرب جاراتي كانت امرأة لا أعرف اسمها حتى.
في طريق عودتي إلى البيت من دوامي الجزئي، قد أرفع رأسي من الطريق الرمادي المسدود الممتد مسافة بعيدة، وألقي نظرة على بابينا المتهالكين وقد غمرتهما النيران بفعل غروب الشمس. وأفكر كيف كنا توأمين، نحن الاثنتان كبيرتان في السن ووحيدتان، جنبًا إلى جنب. عندما يتآكل أحد البابين بفعل لهيب الشمس، فكيف سينجو الباب الآخر؟
هناك شيء ما في هذه المشاعر يتوسل إليَّ أن أشاركه. أتخيل نفسي أطرق بابها، لكني خائفة من عدم قدرتي على التعبير عن نفسي بشكل كافٍ. فتمنيتُ لو استطعتُ التواصل مع الطرقات. لأخبرها كيف لم تسر الحياة أبدًا بالطريقة التي أردتها. كيف بدا لي أنني لا أستطيع أبدًا تصحيح الأمور. كيف عجزتُ عن إنقاذ الشخص الذي يعني لي كل شيء. والأهم من ذلك كله، كم كنتُ مندهشة من كل هذه المشاعر التي تتدفق مني. لو استطعتُ فقط إخبارها!
في الربيع، يحل الليل قبل أن يصبح العالم أزرق اللون للحد الذي لا يُطاق. في اليوم الذي تركتُ فيه وظيفتي بدوام جزئي، وصلتُ إلى المنزل برأس مليء بالأفكار حول عمري، الوظيفة التالية التي سأجدها، والمال الذي سأحتاج إلى جنيه قبل الموت، رأيت المرأة واقفة عند الباب. وبما أنها لم تكن تسحب مقبض الباب، فمن المرجح أنها عادت إلى المنزل للتو. مضت على معيشتي هناك أربع سنوات في ذلك الوقت، لكن هذا كان أقرب مكان التقينا فيه، دون جدار بيننا. ثم وخزت أنفي رائحة، رائحة تشي بأنها لم تستحم منذ فترة طويلة. شعرتُ بالقلق، فأومات برأسي مُرحبة. وفعلت هي الشيء نفسه. وفي الثانيتين اللتين التقينا فيهما بالعين، لاحظتُ أن الجلد حول عينيها كان داكنًا ورطبًا. فكرتُ، متي بدأ المطر؟ لكن بعد ذلك نظرتُ إلى السماء ولم تكن ممطرة. كانت تبكي. وشعرها الدهني ملتصق بجبينها المتجعد. والعاطفة القلقة التي حملتها في خديها المترهلين لا تزال محفورة في ذاكرتي. قفزت الكلمات إلى رأسي. لكني لم أتمكن من قولها، ناهيكَ عن تكوين جملة. وبقدر ما شعرتُ بالسوء، كان عليَّ الرحيل. كان الأمر وكأن شخصًا ما يدفعني بمرفقه بعيدًا عن الطريق. وبعد محاولات جاهدة لفتح باب غرفتي، تمكنتُ من فتحه ودخلت. ولعدة ثوانٍ، نظرتُ من خلال ثقب الباب، لكني لم أستطع الجزم بأنها كانت بالخارج.
بعد ذلك لم أجد أي وسيلة للاسترخاء، ومع دخول الليل، ضغطتُ بأذني على الحائط عدة مرات. لكني لم أسمع شيئًا. لم أشعر بشيء قادم من الجانب الآخر. شربتُ بعض الماء، استلقيتُ على سريري، وشاهدت التلفزيون بين الحين والآخر في محاولة عبثية لتشتيت انتباهي. لكن هذا الشعور المستمر بالقلق كان يزيد قوة. ومرة أخرى ضغطت، بأذني على الحائط ولم أسمع شيئًا.
لماذا لم أستطع قول شيء لها؟
كانت المرأة تبكي. وكان بإمكاني على الأقل أن أعطيها واحدة من كعكات لحم الخنزير التي كانت في حقيبة التسوق الخاصة بي.
كانت تبكي.
اجتاحتني فكرة مظلمة؛ ربما كنتُ آخر شخص يراها. ثم فكرتُ في آخر مرة رأيت فيها والدتي على الإطلاق. ولامستُ حلقي بأصابعي.
لكن الناس لا يرحلون فجأة. ليس بهذه الطريقة. يستغرق الأمر وقتًا، وقتًا طويلًا، حتى تختفي كل الأجزاء التي تحملها بداخلك. ومع ذلك، بينما تتقلص أجزائك، تصبح الأجزاء الأخرى منك أكبر. وفي مرحلة ما، كل ما كان لديك من قبل يختفي.
رفعتُ أذني عن الحائط وقبضتُ يدي. كان نبضي يتسارع. ثم أخذتُ نفسًا عميقًا محاولة الهدوء. رأيتُ بابها يظهر أمام عيني، هناك على الحائط القذر بين الشقتين.
طرقتُ الباب، في منتصفه تمامًا، ببطء، مرتين. طرقت، طرقت، ثم توقفتُ للحظة قبل تكرار ذلك مجددًا. طرقتان، هذه المرة بقوة أكبر. ما زال لا يوجد رد. نفس الشيء كما كان من قبل.
لذا جررتُ سريري المطوي إلى الحائط وطفقتُ أطرق الباب طوال الليل. لم أكن أعرف ماذا أفعل؟ قلتُ لنفسي: يا حمقاء! ربما هربت الآن إلى مكان ما ولن تعود أبدًا. وحتى لو كانت لا تزال هناك، ربما لم تعد تسمعك. لكني واصلتُ الطرق. طااق.. طاااق.. ثم انتظار لحظة قبل فعل ذلك مرة أخرى. وبعد لا أحد يعلم كم من هذا، غفوتُ ورأيتُ أحلامًا غريبة. رأيتُ أنماطًا وأشكالًا غريبة، وبين كل هذا وجدتُ وقتًا لأطرق الباب مرة أخرى.
في النهاية لا بد أني سقطتُ في نوم عميق لأن ضوء الصباح أيقظني. مددتُ ذراعي وطرقتُ الباب مرة أخرى وكأني استأنف من حيث توقفتُ في الحلم. ولكن بعد لحظة، سمعتُ شيئًا. كان طرقًا، طرقة واحدة فقط، قادمة من الجانب الآخر. جلستُ مستقيمة ورمشتُ ثم ضغطتُ بأذني على الحائط. كنت متأكدة مما سمعته. أعرف أني سمعتُ طرقًا. لم أكن متأكدة إذا ما كان يقول: "هذا مزعج للغاية!" أو "أفهم ذلك". أو "شكرا لكِ" أو "من فضلكِ توقفي"، أو كل ما سبق، أو شيء آخر تمامًا. لكني متأكدة من أنها ردت بطرقة خاصة بها. متأكدة تمامًا.
زفرتُ كل الهواء من رئتيّ. وجذبتُ الملاءات فوق رأسي. لكن الصباح كان قد أشرق. حان وقت الاستيقاظ. ثم تذكرت: ليس لدي عمل. ورغم ذلك لم أكن خائفة حقًا. ضغطتُ وجهي على الوسادة، وتركتُ عينيَّ تُغمَضان مرة أخرى.
[1] التاتامي: نوع من الحصير الياباني يستخدم لفرش الأرضية
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه