في بداية دخولي السجن نصحني بعضهم بأن أنسى من كنت. تلك كانت نصيحة ضارة. لم أنعم بأي شكل من أشكال الراحة إلا حينما أدركت من أنا.

اشتراكية أوسكار وايلد

مقال دونال فالون

ترجمة حسين الحاج وأسامة حماد

نشر بـموقع جاكوبن في فبراير 2021

دونال فالون مؤرخ أيرلندي.


يُعرف أوسكار وايلد اليوم بذكائه الساخر ومنجزه الأدبي. لكنه كان أيضًا اشتراكيًا ملتزمًا بالنضال ضد القمع والاستغلال. ومن الواضح لأي شخص قرأ أعماله أن أوسكار وايلد وجد الكثير مما يستحق السخرية في القيم التقليدية للمجتمع الفيكتوري المتأخر. لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن الكاتب المسرحي والشاعر تصور مجتمعًا مختلفًا، مرغوبًا فيه بقدر إمكانية تحققه، في مقال سياسي بعنوان "روح الإنسان في ظل الاشتراكية" أوضح فيه معتقداته السياسية. يعد الاقتباس القائل "الحياة أمر نادر جدًا، معظم الناس موجودون فقط"، أحد أكثر الأقوال المقتبسة عن وايلد التي يجري تداولها كثيرًا دون الإشارة إلى مصدرها، واردة في ذلك العمل.

عاش وايلد حياة مليئة رغم قصرها. فقد وُلد في أكتوبر 1854 في ويستلاند رو بدبلن، لكنه نشأ في الأساس في ميريون سكوير، وكان أوسكار فينجال أوفلاهيرتي ويلز وايلد ابنًا لاثنين من أعظم المثقفين غريبي الأطوار في دبلن في القرن التاسع عشر. كان والده، ويليام وايلد، جراحًا رائدًا وصاحب مرجعية طبية، وقد قبل لقب فارس في قلعة دبلن، موطن الحكم البريطاني في جزيرة أيرلندا. وعلى النقيض، أمضت والدته جين وايلد معظم حياتها في محاولة لقطع تلك العلاقة مع بريطانيا، وقد كانت باحثة فولكلورية وشاعرة وكاتبة مقالات تكتب تحت الاسم المستعار سبيرانزا، وهي كلمة إيطالية تعني الأمل.

الأمة وأيرلندا الفتية

كانت الأسرة التي نشأ فيها وايلد مليئة بالنقاشات السياسية المحمومة، بتشجيع من سبيرانزا التي جعلت من منزلها صالونًا سياسيًا. وقد دعت سبيرانزا الناشطة من أجل إقرار حق المرأة في التصويت ميليسنت فوسيت "لشرح معنى الحرية الأنثوية"، في مدينة فشلت فيها قضية حق المرأة في التصويت في اكتساب نفس القدر من الزخم الذي اكتسبته في الجزيرة المجاورة لعدة عقود.

ظهرت قصائد سبيرانزا على صفحات جريدة ذا نيشن، وهي صحيفة انفصالية متحالفة مع حركة أيرلندا الفتية، وكان شعار الصحيفة -"أيرلندا فتية، وكذلك شبيبتها"- إشارة إلى الحركات الجمهورية القومية الناشئة التي اجتاحت القارة الأوروبية في أربعينيات القرن التاسع عشر، وخاصة "إيطاليا الفتية" لجوزيبي مازيني.

في قطيعة مع القومية الدستورية المحافظة التي تبناها دانييل أوكونيل، بشر شبيبة أيرلندا الفتية بالثورة الفرنسية الثانية بملاحظة مفادها أن "الأسر الملكية والعروش ليست بنفس أهمية الورش والمزارع والمصانع. بل يمكننا أن نقول إن الأسر الملكية والعروش، وحتى الحكومات المؤقتة، مفيدة لأي شيء بالضبط بقدر ما تضمن اللعب النظيف والعدالة والحرية لأولئك الشغيلة". قادت الحركة انتفاضة فاشلة في عام 1848 على خلفية المجاعة، وشجعت قصائد سبيرانزا "الأجساد المغمى عليها التي يضربها الجوع" على الثورة.

وقد استضافت سبيرانزا، التي اقتبس عنها الزعيم الاشتراكي جيمس كونولي لاحقًا في صفحات كتاب "العمال في التاريخ الأيرلندي"، كبار حركة أيرلندا الشابة في منزل العائلة مرارًا، ويذكر وايلد لاحقًا أنه "فيما يتعلق بهؤلاء الكهول، فإنني أنظر إلى عملهم باحترام وحب خاصين، لأن والدتي أنشأتني على حبهم واحترامهم، كما هو الحال مع الطفل الكاثوليكي بالنسبة لقديسي الكاتدرائية".

نوع مختلف من الانفصالية: وايلد في أمريكا

أصدر وايلد تعليقاته على شبيبة أيرلندا الفتية أثناء جولة من المحاضرات في الولايات المتحدة عام 1881، عندما انطلق الشاعر الشاب في رحلة عبر البلاد داعيًا إلى الحركة الجمالية، لكنه اكتشف أن الجماهير تطلعت لسماعه بوصفه ابن سبيرانزا.

تبدو بعض تصريحات وايلد أمام الجمهور الأمريكي محيرة اليوم، بما في ذلك مدحه المسرف للكونفدراليين، وإصراره على أن "الأيرلنديين يقاتلون من أجل مبدأ الحكم الذاتي ضد الإمبراطورية، ومن أجل الاستقلال ضد المركزية، ومن أجل المبادئ التي ناضل الجنوب من أجلها". وقد قام وايلد بجولة في الحي الفرنسي في نيو أورليانز مع الجنرال الكونفدرالي السابق بيير جوستاف بيوريجارد، "الرجل الذي أمر بإطلاق الرصاصة الأولى في الحرب الأهلية"، واعترف بأن جيفرسون ديفيس هو الأمريكي الذي تمنى لقاءه أكثر من أي شخص آخر.

تكشف مغازلات وايلد لقضية الجنوب عدة أشياء -على رأسها رغبة الشاعر الشاب في إخبار الجماهير المحلية بما يريدون سماعه. فهو لم يثر لغطًا من هذا النوع في نيويورك على سبيل المثال. صحيح أن الانفصال الذي تبنته الولايات الجنوبية يتعارض مع الذي بَشَّر به في صفحات مجلة "ذا نيشن"، لكن ثمة شيء في حركة الولايات الكونفدرالية أعجبت به سبيرانزا، وهو أنها لم تكن فريدة تمامًا.

جورج برنارد شو والفابية

في ثمانينيات القرن التاسع عشر في لندن، برز اسم وايلد بوصفه صحافيًا وكاتبًا مسرحيًا، وبصفته محررًا لمجلة عالم المرأة من 1886 إلى 1890، نشر مقالات عن قضية حق المرأة في التصويت، ودعا إلى المساواة في المجتمع بين الجنسين، لأن "فصل الفضائل والمثل بين الرجال والنساء أدى إلى اهتراء النسيج الاجتماعي بأكمله وإفساده أكثر مما ينبغي".

وأشارت إليانور فيتزسيمونز، وهي باحثة موثوقة في أعمال وايلد، إلى أن المجلة دافعت عن "الناشطة النسوية الراديكالية المولودة في جنوب أفريقيا أوليف شراينر، التي ناضلت من أجل فتح مجال الحياة السياسية ووضع حد للمعايير الجنسية المزدوجة"، وكانت تقدمية بشكل واضح في لهجتها.

يُقال أحيانًا إن وايلد وقع على رسالة يطلب فيها العفو عن الأناركيين الذين أدينوا بالتورط في قضية هايماركت في الولايات المتحدة في عام 1886، بناءً على طلب جورج برنارد شو. لكن ابن بلدته الدبلنية روى في وقت لاحق أن "ضمير وايلد وحده هو من أملى عليه فعله؛ وقد أكد ذلك على تقديري المتميز له لبقية حياته".

ترجع اشتراكية جورج برنارد شو إلى مشاركته في الجمعية الفابية في دبلن، وقد تطورت -وواجهت تحديات- أثناء وجوده في إنجلترا، لكنه ظل على اعتقاداته الفابية، حيث كتب في عام 1890 عن إيمانه بأنه "يمكن تحقيق الاشتراكية بطريقة دستورية تمامًا من خلال المؤسسات الديمقراطية".

ومع ذلك، لم تحظ الفابية في دبلن إلا بعدد قليل من الأتباع في مدينة سيطرت فيها قضية الحكم الذاتي على جميع القضايا السياسية وهمشت القضايا المجتمعية، لكن الأمور كانت مختلفة في لندن، فقد كان للاجتماع الذي حضره كل من شو ووايلد في يوليو 1888 أثر عميق على وايلد، حيث أصر روبي روس، عاشق وايلد السابق ومالك حقوقه الأدبية، على أنه شكل مصدر إلهام لمقالة وايلد "روح الإنسان في ظل الاشتراكية" (1891)، وهو أحد الأعمال التي علق عليها شو بسخرية، مؤكداً أنه "ذكي وممتع للغاية، لكنه ليس له أي علاقة بالاشتراكية".

روح المرء في ظل الاشتراكية

لكن شو لم يستشف الاشتراكية في مقال وايلد، ربما لأنه كان يبحث عن اشتراكية يعرفها من اشتباكه السابق مع الأفكار الماركسية.

تزايد تأثر وايلد بكتابات بيتر كروبوتكين الأناركية، شيء بحث فيه بالتفصيل المؤرخ الأناركي جورج وودكوك الذي أرخ لسيرة الرجلين. كان الإعجاب متبادلًا، فقد كتب كروبوتكين لاحقًا إلى روبي روس معبرًا عن "الاهتمام والتعاطف العميقين" مع وايلد داخل المجتمع الأناركي، مادحًا "روح المرء في ظل الاشتراكية" بوصفه عملًا يحتوي كلمات "تستحق النقش [على الحجر]". 

بالنسبة لوودكوك، يعادل مقال وايلد "المساهمة الأكثر طموحًا في الأدب الأناركي في تسعينات القرن التاسع عشر". ففيه يؤطر وايلد لإيمانه بالحاجة لإلغاء الملكية الخاصة: 

من خلال إلغاء الملكية الخاصة سنمتلك فردانية حقيقية وجميلة وصحية. لن يهدر أحد حياته في مراكمة الأشياء وما ترمز إليه. سيحيا المرء. فالحياة أمر نادر في هذا العالم. معظم الناس يوجدون، هذا كل ما في الأمر.

لم يكن مقال وايلد دعوة لنظام جديد ولا لتعزيز قضية العمال، لكن من أجل إلغاء العمل المأجور، مؤكدًا على أن "الاشتراكية ستعتقنا من دناءة الاضطرار للعيش من أجل الآخرين، التي تضغط بشدة على الجميع تقريبًا في الظروف الحالية التي عليها الأشياء الآن". يضم المقال نقدًا للعمل الخيري باعتباره شيئًا يعالج فحسب الأعراض الناجمة عن أمراض المجتمع –اقتصاد رأسمالي يحرمنا من الوقت للعيش.

"روح المرء في ظل الاشتراكية" ليس عملًا جداليًا جافًا –فهو يحتوي بعضًا من أفضل ملاحظات وايلد الساخرة عندما يقول، "إن العمل الخيري يخلق حشدًا من الآثام"، و"من الأفضل أن تأخذ بدلًا من أن تستجدي". لسوء الحظ فقد طبع العمل في أسوأ الأوقات في حياة وايلد.

السجن وما بعده

كما أشار نيل بارتليت، لم تمر سوى خمسة أيام على إدانة وايلد بارتكاب الفاحشة في مايو 1895 حتى صدر "روح المرء" (العنوان الأصلي). طبع عدد صغير لا يتعدى اثني عشر نسخة، لكن نشره "بعد خمسة أيام فحسب من إدانة وايلد كان للتصريح بأمر استثنائي. في نفس الوقت الذي يُسكت فيه صوته، كان أحدهم مصرًا على أن صوت وايلد في أكثر صوره جهرًا وراديكالية يجب أن يستمر الناس في سماعه من خلال مطبوعاته". 

نتج عن زواج وايلد من الكاتبة الأيرلندية كونستانس لويد طفلين، لكن حالة من الاغتراب الجنسي طرأت على حياتهما منذ إنجابهما الابن الثاني. كتب وايلد في (مذكراته الخاصة) لاحقا، "لم تفهمني، لقد شعرت بالملل الشديد من الحياة الزوجية"، وفي ذات الوقت أقر بأن "إخلاصها لي كان رائعًا". بحلول هذا الوقت كان وايلد قد شرع في علاقة مثلية مع روبي روس.

قادته علاقة لاحقة مع اللورد ألفريد دوجلاس إلى قفص الاتهام حيث استجوبه بوحشية إدوارد كارسن، الذي أصبح فيما بعد الصوت الأبرز المعارض لمطالب الحكم الذاتي لأيرلندا. تخرج كلاهما من ترينيتي كولج، وكان كلاهما من سكان دبلن، بالرغم من هذا فقد لاحظ وايلد من عريضة الدعوى أن كارسن "سيؤدي مهمته محملًا بالمرارة نحو صديق قديم". يتذكر التاريخ كارسن على أنه الرجل الذي قسّم أيرلندا، لكنه كان سبب انهيار وايلد كذلك. لم يكن القانون يعني الكثير لكارسن بعدها بسنوات حين هدد بسفك الدماء احتجاجًا على تمرير قانون الحكم الذاتي.

نتج عن الحبس من 1895 إلى 1897 أكثر أعمال وايلد إثارة للشجن والتأمل، رسائل من الأعماق. كان عملًا يصور العذابات النفسية العميقة الناتجة عن السجن، وتحطم فردانية الإنسان، لكنه يحتوي كذلك على حس من التحدي: "في بداية دخولي السجن نصحني بعضهم بأن أنسى من كنت. تلك كانت نصيحة ضارة. لم أنعم بأي شكل من أشكال الراحة إلا حينما أدركت من أنا".

عاش وايلد بعد إطلاق سراحه آخر سنوات حياته منفيا في فرنسا–باسم مستعار، سباستيان ميلموث. كان صديقه المخلص وحبيبه السابق روس حريصًا على استمرار طبع أعماله بما فيها نسخة من "روح المرء في ظل الاشتراكية" عام 1912. كلف روس كذلك النحات جاكوب إبستين ليبني قبر وايلد في مقبرة بير لاشيز. كُتب الكثير عن أعمال إبسين، وأدينت لكونها بذيئة وأصرت الشرطة الفرنسية على تغطية أعضاء الملائكة التناسلية التي أثارت مشاعر بعض ساسة الإدارة المحلية في باريس. لكن ماذا قالت النقوش على الضريح؟

"وستذرف دموع الغرباء حزنًا عليه، شفقة على جرة رفاته المكسورة منذ زمن بعيد، لأن من ينعونه هم الرجال المنبوذون، والمنبوذون في نعي دائم".

بمرور الزمن، لم يعد وايلد رمزًا ذميمًا ولا منعيًا. في أيرلندا نهاية القرن التاسع عشر، أصبح رمزًا لجيل من النشطاء المدافعين عن حقوق المثليين، في تحد لفكرة أنه "يمكنك أن تكون مثليًا أو أن تكون أيرلنديًا، لكن لا تستطيع الجمع بين الاثنين" –هذا ما رأته، كما كتب ديكلان كيبرد، بعض "الأرواح الجوهرانية". يحيا في الذاكرة الشعبية وايلد كأعظم ساخري عصره، لكنه كان كاتبًا لكل العصور. ولا زال هناك الكثير للتفكر في أعماله حول المجتمع كما هو، وما يمكن أن يكون عليه.