كل الناس في نظر جاكوتو متساويين في الذكاء؛ وقدرة اﻹنسان على التعلم مرهونة بس بإرادته
موسوعة الملل | الانعتاق الذهني
مقال لحسين الحاج
إزاي اتعلمت الكمبيوتر؟ فاكر أول يوم قعدت فيه على كمبيوتر واستعملت برنامج الرسام على ويندوز 95 في اﻷجازة الصيفية. الكمبيوتر كان في مركز ثقافي للأطفال والمشرفين هناك فتحوا لي عليه البرنامج وقعدوني قدامه شوية قبل ما ينقلونا ﻷوضة المكتبة. المشرفة قبل ما تسيبني شاورت لي على الشاشة وقالت لي إن الماوس هو إيدي والكورسر هو صباعي اللي باختار بيها اﻷلوان والفرش واﻷستيكة، وقبل ما الوقت يخلص كنت رسمت عليه رسمة شبه رسوماتي في حصة الرسم في المدرسة.
تجربتي ما كانتش استثناء، أي حد بيسيب تليفونه الذكي شوية مع ابن أخته الصغير عارف باتكلم عن إيه، ودا مش عشان الطفل المصري أذكى طفل في العالم بالفطرة، لكن عشان الطفل في السن دا لسه عقله "ما اتبلدش". وإحنا عادة بنستعمل كلمة بلادة عشان نوصف العيال الفاشلين في المدارس، وغالبًا عارفين إن سبب بلادة اﻷطفال هي المدرسة نفسها، بس عمرنا ما عرفنا إزاي المدارس بتخليهم كدا.
التربوي الفرنسي جوزيف جاكوتو (1770- 1840) كان من أوائل العارفين بطرق تبليد الطلاب في المدارس، ﻹنه اشتغل في التدريس سنين كتيرة في التعليم المدرسي والجامعي، ودرس خلالها مواد تعليمية مختلفة منها الأدب والحساب والرياضة والقانون، لحد ما اخترع طريقة تدريس معروفة باسمه، ودي ليها قصة مهمة قوي.
في سنة 1818، بعد عودة الحكم الملكي لفرنسا ونهاية الجمهورية الفرنسية اﻷولى، وصل جاكوتو بعد ما اتنفى لمدرسة بلجيكية عشان يعلم الفرنسية لطلبة ما يعرفوش غير اللغة الفلمنكية، وعشان هو ما يعرفش الفلمنكية برضه، فكر في طريقة جديدة لتعليمهم لغته الفرنسية.
جاكوتو كان جايب معاه رواية اسمها "تليماك" لمؤلفها القس الفرنسي فرانسوا فينلون كانت لسه مترجمة جديد للغة الفلمنكية في طبعة فيها النص الفرنسي في صفحة والترجمة الفلمنكي في الصفحة اللي في وشها، ودخل بنسخ من الرواية على الفصل اللي بيدرسه ومعاه مترجم. وزع النسخ على الطلاب وخلا المترجم يبلغهم إن على الطلاب يحفظوا الرواية بالفرنسية، وسابهم شوية وقت وركن هو في جنب الفصل، وبعدها بفترة لاحظ إنهم نجحوا في حفظ النص اﻷول من الرواية فعلاً، فطلب منهم يقروا بقيتها من غير حفظ، وبعدها امتحنهم بكتابة ملخص للجزء اللي قروه بالفرنسية. والمفاجأة إنهم فعلاً نجحوا يكتبوا الملخص المطلوب منهم بفرنسية سليمة.
جاكوتو نجح في إنه يعلمهم الفرنسية من غير ما يضطر يشرح لهم كلمة فرنسية واحدة ومن غير ما يتعلم الفلمنكية، ومن هنا صبح اسمه "المعلم الجاهل". ممكن نعتبر إن واحدة من أسباب نجاح الطلاب إنهم ساعدوا بعض في القراية وشرحوا القصة لبعض، لكن بالنسبة لجاكوتو كان فيه سبب أهم وهو الاهتمام واﻹرادة.
التجربة دي خلت جاكوتو يقترح طريقة تدريس متعارضة مع طريقة الشرح والتفسير المعروفين، طريقة قايمة على اكتشاف المتعلم قدرته على التعلم من نفسه من غير ما يحتاج لمدرس ينقل له المعرفة، ﻹن كل الناس في نظر جاكوتو متساويين في الذكاء؛ وقدرة اﻹنسان على التعلم مرهونة بس بإرادته؛ وإننا ما بنفتكرش إلا اللي بنعيده، بس اﻷهم من كل دا إننا نقدر ندرس اللي ما نعرفوش ودا معناه إننا كلنا نقدر نكون معلمين. والمبادئ دي ينفع تتطبق على كل المجالات سواء كانت علمية أو أدبية أو فنية.
صحيح إن أسلوب جاكوتو الغريب خلا الطلبة الجامعيين يسجلوا في المواد اللي بيدرّسها، بس أفكاره الغريبة دي قلقت أنصار التربية المؤسسية في القرن الـ19 عشان خلخلت قناعاتهم عن التعليم: إزاي ممكن نسيب الطلبة يتعلموا ويكتشفوا ويوصلوا لاستنتاجاتهم من غير ما يحتاجوا أستاذ عارف كل اﻹجابات بيفسر لهم كل جملة بيقروها؟ وإزاي المدرس ما يبقاش مصدر الحكمة والمعرفة اللي بينقل معارفه لطلابه عشان يوصلوا لمستوى علمه؟
جاكوتو كان شايف إن تبعية الطلاب الفكرية للأساتذة بتحافظ على تطور فكري لامتكافئ، دايما عليهم يتخلوا عن ذكاءهم (إرادتهم) ويمشوا ورا ذكاء المدرس (إرادته)، ودا اللي سماه عملية التبليد، ﻹنها بتنسي الطالب سلطة عقله الحقيقية وبالتالي بتقيد حريته. في رأي جاكوتو، إن الطلاب في البداية دايما بيكونوا مستنيين من المعلم إنه يشرح لهم، بس لو المعلم أجبر الطلبة على تحييد قدراته، واقتصر دوره على التوجيه والتشجيع، ممكن يتعلموا اللي مش عارفينه بإلزامهم إنهم يشغلوا دماغهم بنفسهم، ودي عملية عرّفها جاكوتو باسم الانعتاق الذهني.
تجارب جاكوتو وأفكاره اتحاربوا في القرن الـ19 لحد ما اتنسوا تقريبًا، لكن الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير في التمانينات قدمها من تاني في كتاب بعنوان المعلم الجاهل* وطرح من خلالها رؤيته الفلسفية المعرفية والسياسية في مواجهة كارثة الفكر التربوي المؤسسي.
التدريس في رأي رانسيير مش تفسير وتبليغ للمعرفة وتشكيل للعقول عشان تتنقل في تدرج مُنظم من اﻷفكار البسيطة للأفكار المعقدة عن طريق تلقين المدرس للطلاب، وإنما هو عملية تفاعلية بيتشارك فيها المدرس والطالب بقدراتهم في فهم وتفسير الحاجة اللي بيدرسوها مع بعض. ودي أهمية المعلم الجاهل، ﻹن المعلم العارف دايما هيقع تحت إغراء إنه يعلم اللي يعرفه ولو عن طريق اﻷسئلة. ومن هنا رانسيير قدم أهم نقد للطريقة السقراطية في التعليم، عشان سقراط كان بيسأل أسئلة إجاباتها ما فيهاش رأي تاني، أسئلة مقفولة وإجاباتها عنده وبس، ودا من وجهة نظر رانسيير شكل من أشكال التبليد المتقن.
أما جاكوتو فهو طبق نظرية معرفية بتشوف ذكاءات البشر متساوية، وكان قصده إن كل شخص عنده نفس القدرة على التفكير والتفسير، ﻹن كل حاجة بيبدعها اﻹنسان جاية من اﻹمكانيات الذهنية نفسها. خلينا فاكرين إن جاكوتو ما فرضش على تلامذته تفسير صحيح لقصة تليماك ولا شرح معين ليها وما كانش مستني منهم يقدموا له استفادة معينة من القصة، إنما بس كان عايز يتأكد إنهم اتعلموا الفرنسية الصحيحة عن طريق المقارنة مع الترجمة الفلمنكية.
ممكن نفكر في مثال حي وواضح على صحة النظرية دي بره الكتب وفصول المدرسة، وهي طريقة تعلم الأطفال للغتهم الأم "العامية" وهما بيكبروا. إحنا مش بنعلم اﻷطفال قواعد النحو والصرف اﻷول قبل ما نعلمهم يتكلموا، لكنهم بيتعلموا بطريقتهم الخاصة: بيحفظوا ويقلدوا ويردّدوا ويغلطوا ويصححوا غلطاتهم وينجحوا بالصدفة ويعيدوا تاني بشكل منهجي غير معلن. وعشان كدا جاكوتو سمى طريقته التعليم الكوني.
تجربة جاكوتو وأفكار رانسيير بتقول لنا إن التعلم حرية وإن ممارسة الحرية هي عملية تعلم، ﻹن المعرفة والحرية زي بعض بيتاخدوا باﻹرادة القوية وما حدش يقدر يمنحهم لنا. كفاية بس إننا نغرس الفضول في نفوس عيالنا ونحمس رغبتهم؛ ﻹن مفيش تعلم بدون رغبة.
* ترجم عز الدين الخطابي كتاب «المعلم الجاهل» لجاك رانسيير إلى العربية عن مركز القطان للبحث والتطوير التربوي. اقرأ المزيد عن رانسيير: من هو جاك رانسيير بروح أمه؟
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ المؤلف بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه