تأثير الدولة
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
***
ليه الناس بتهاجم الدولة؟ دي مصر (عارفين يعني إيه مصر؟) لها كل الفضل عليكم. ورضّعتكم وأكّلتكم وشرّبتكم ولبّستكم. وبدل ما تبقوا حرافيش ورعاع بقيتوا مواطنين محترمين ببطاقات وباسبورات. وبدل ما تبقوا جهلة وأميين بقيتوا ماسكين سلاح التلميذ وبتحاربوا في المدارس والجامعات. وبدل ما تكونوا مهزومين مقهورين تحت سطوة الاستعمار، بقيتوا أصحاب الديموقراطية والحرية والكرامة الإنسانية. كل ده ولسه عندكم الجرأة والشماتة إنكم تهاجموا مصر؟ كل ده ولسة عايزين تسقطوا الدولة؟
السؤال الجاد الوقور ده بيطرح سؤال تاني: إيه الفرق بين الدولة وبين مصر؟ مصر دولة طبعًا، بس هل مفيش في مصر إلا الدولة؟ ولا مصر دي فيها دولة وناس؟ والناس دي جوه الدولة ولا براها؟ ولو سقطت الدولة، هل هتسقط مصر؟ ولو سقطت مصر، الناس هتسقط معاها برضه؟ ليه الناس خايفة من سقوط الدولة إذا مصر المحروسة عاشت بقالها سبعتلاف سنة؟
نوع التساؤلات دي مطروح في كتابات العالم السياسي تيموثي ميتشل (Timothy Mitchell) عن «تأثير الدولة» (state effect). ميتشل اقترح المفهوم ده في مقال نظري عنوانه «حدود الدولة» في 1991، وإنما نقدر نشوف أول ملامح الفكرة تحت مسمى «التأطير» (enframing) في كتابه عن «استعمار مصر» (اللي اتنشر لأول مرة سنة 1989). الفصل التاني من الكتاب بيتكلم عن بناء المؤسسات الحديثة في عصر محمد علي وأولاده. في رأي ميتشل، المؤسسات دي ما كانتش بس بتنتج بني آدمين «منضبطين» (disciplined) حسب تعبير فوكو، زي ما التلميذ بيروح المدرسة والعسكري بيروح الجيش عشان يضبط نفسه وأداءه. المؤسسات دي كانت كمان بتخلق انطباع إن الدولة عبارة عن «نظام» (order) منفصل عن الناس اللي بتكوِّنه، والانطباع ده نتيجة «التأطير» أو «تأثير الدولة».
فمثلًا الفلاحين اللي كانوا بيدخلوا في جيش محمد علي ما كانوش بس بيقعوا تحت رحمة التقنيات الانضباطية اللي بتهدف لصناعة مقاتلين محترفين، وإنما كانوا كمان تحت تأثير فكرة إن «الجيش» عبارة عن ماكينة كبيرة لها نظام وإطار منفصلين عن العساكر والضباط اللي شغَّالين جواه. كذلك التلاميذ اللي كانوا بيدخلوا المدارس الحديثة في القرن الـ19 ما كانوش بس واقعين تحت سيطرة المعلمين والتقنيات الدراسية اللي بتنظَّم وقت دراستهم بالساعة وبالدقيقة، وإنما كانوا كمان تحت تأثير فكرة إن «المدرسة» عبارة عن كيان مجرَّد ومستقل، له نظام وإطار منفصل عن الجماهير اللي بيتنوَّروا وبيتضبطوا فيها.
بالتالي ما نقدرش نقول إن الدولة عبارة عن كتلة واحدة وفعَّالة، وكأنها إنسان بيفكَّر وبيخطَّط وبينفَّذ خططه بالعقل، ولا نقدر نقول إن الدولة كيان وهمي وهلامي مالوش وجود إلا في ذهن البشر. في تحليل ميتشل، الدولة هي نتيجة تأثير الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على تحديد الحدود بين كيان اسمه «الدولة» وكيان اسمه «المجتمع». التأثير ده ما بيبقاش دايمًا بنفس القوة والحسم، ولذلك تعريف «الدولة» و«المجتمع» ممكن يختلف عبر الزمن، لأن الأفراد والمؤسسات المعنية بتحديد الفرق ده بتغيَّر شكل الحدود بين الكيانين مع حركة التاريخ.
ممكن نوضَّح فائدة مفهوم «تأثير الدولة» في تحليل موضوع زي ملكية الأراضي في مصر. الكيان اللي اسمه «الدولة» بيسيطر بأشكال مختلفة على الأراضي في البلد: الأراضي الخاصة بتتسجل في الشهر العقاري، والأراضي العامة بتتسجل باسم المؤسسة اللي بتديرها. لأسباب كتيرة، الأراضي مش كلها متسجِّلة، وبالتالي فيه أراضي كتيرة في الصحراء وفي السواحل وفي الفلاحين مالهاش وضع واضح من حيث الملكية القانونية. وده غير الأراضي الزراعية المبنية بشكل غير قانوني أو الأراضي العامة اللي الناس سكنت فيها بوضع اليد. في السياق ده، بعض المؤسسات اللي تُعتبر كجزء من «الدولة» تقدر تستولى على الأراضي دي وتتعامل على إنها ملكيتها الخاصة، وتوزَّعها على أفرادها، وتبيع وتشتري فيها، وتعمَّرها وتسكِّن أبناءها وبناتها جواها.
إذا اعتبرنا إن الدولة كيان موحَّد وفعَّال، هنقول ببساطة إن الأراضي دي «ملك الدولة» وإن الدولة بتتصرف فيها وكأنها رجل أعمال ثري بيفكَّر وبيدبَّر أموره وثروته بنفسه. الرؤية دي محدودة لأن البشر اللي بيديروا الأراضي دي مش تَبَع جميع مؤسسات الدولة، وإنما تَبَع مؤسسات بعينها، وتصرفات المؤسسة في ملكية الأراضي مالهاش ترتيب عقلاني زي اللي الواحد ممكن يتصوّره. ناهيك عن الصراع الداير بين بعض الأفراد وبعض مؤسسات الدولة على ملكية الأراضي والعقارات، وده واضح من المنازعات الدائمة اللي شغّالة في مجلس الدولة.
في المقابل، إذا اعتبرنا إن الدولة كيان هَش ومالوش وجود في الواقع، وإن الدولة مجرَّد جزء من منظومة سياسية مالهاش حدود واضحة، مش هنقدر نفهم ليه الناس اللي بتشتغل جوه مؤسسات الدولة مصممة إنها تتصرف باسم «الدولة». ومش هنقدر نفهم كمان قوة التسجيل القانوني للأراضي (حتى لو الأراضي دي ماكانتش أساسًا ملك حد) باسم «الدولة». وطبعًا مش هنقدر نفهم تاريخ التطور بين نظام ما كانش بيعترف بالملكية الخاصة للأراضي قبل عصر محمد علي، إلى نظام رسَّخ لفكرة الملكية الخاصة وخلَّى الكيان اللي اسمه «الدولة» يبقى وسيط في توزيع الأراضي.
تحليل ميتشل بيخرَّجنا من المآزق دي، لأنه ما بيعتبرش إن «الدولة» كيان موحَّد زي البني آدم ولا إنها كيان هلامي زي الشبح. ميتشل بيعتبر إن الدولة نتيجة تأثير صراعات مادية بين الأفراد وبين المؤسسات، بتأدي لظهور حدود حادة بين «الدولة» واللي بره الدولة في ظرف تاريخي محدد. مع تغيير الظرف والأفراد والمؤسسات، ومع تغيير نوع الناس اللي بتتحسب على الدولة واللي بتتحسب على المجتمع، الحدود دي بتتغيَّر.
لذلك «الدولة» اللي استولت على الأراضي في عصر محمد علي غير «الدولة» اللي عملت نفس الحاجة وقت الإصلاح الزراعي ووقت الفساد المباركي. وبالتبعية، الناس اللي نفذت توزيع الأراضي في كل العصور دي مش نفس نوع الناس، والشخص اللي كنا ممكن نعتبره مجرَّد واحد من أبناء الشعب بيتحول في ظرف تاريخي تاني إلى فرد مؤثر جوة الكيان اللي اسمه «الدولة». الحدود بين الدولة والمجتمع في كل الحالات دي اتطور مع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوزيع الأراضي اختلف حسب الظروف، حتى لو كان دايمًا باسم وجود «الدولة».
باختصار، الدولة أكثر من مجموعة مؤسسات مرتبطة ببعضها بشكل موضوعي، وأكثر من فكرة قومية مجيدة عظيمة زي مصر السبعتلاف سنة. الدولة دي نتيجة ممارسات وصراعات سياسية واقتصادية واجتماعية بتحدد الفرق بينها وبين المجتمع بشكل متغيَّر مع الظروف التاريخية المتغيِّرة. لذلك الناس اللي بتهاجم الدولة ما بتهاجمش دايمًا نفس الحاجة، وإسقاط الدولة ما بيبقاش دايمًا معناه نفس المعنى. ياما دوَل سقطت في تاريخ مصر السبعتلاف سنة، والمصريين لسة عايشين. وياما شعوب انقرضت من أرض مصر، والدولة اللي قضت عليهم استمرت بعدهم.
إذن الناس اللي بتهاجم الدولة ما بتهاجمش مصر، وإنما بتهاجم تصوّر معيّن عن مصر بينتجوه أفراد ومؤسسات عايزين الدولة تعيش حتى لو المصريين بيموتوا.
اقرأ المزيد: موسوعة الملل | ليه السيستم بيقع؟
One Reply to “موسوعة الملل | تأثير الدولة”
عزيزي الكاتب
رسالت واضحه وهي اخر سطر كتبته في مقالك الطويييل
لو انت عايز تبسط من ملمة الهجوم على مصر او الدوله فأنا بقولك ان اللي بيحصل دلوقت وانت بتشبر اليه هو هجوم على الدوله وعلى مثر وعلى المصريين بأقذر انواع الاسلحه
وهي الاف الاساعات المضلله
الشتائم القبيحه لرموز مصر ومن ثم هدمها ومن ثم دفع الناس لشتم الرموز وانقاص قيمتهم
وكمان تزوير وفبركة فيدوهات في رساله للمصريين ان ميدان التحرير الان ممتلأ فلما انت يا مصري تجلس في بيتك الي الآن انزل انزل
وهيهات هيهات لك ولأمثالك
مصر باقيه رغم حقد وكيد الكائدين
وااخيرا لعيب مش عليك العيب على اللي سمحلك بنشر مقالك السافر في هذه المنصه القديره.