اختراع التقليد
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة
بمقاله دون إذن منه.
***
إيه أهمية العادات والتقاليد؟ أثناء الفطار العائلي في رمضان، الواحد بيقعد يسمع عمو مدحت وطنط عصمت وجدو شوكت وهم بيفهِّموك قد إيه ما عادش فيه حد بيهتم بالعادات والتقاليد، وشباب اليومين دول باظ من غير ما يشوف الزمن الجميل، والأمل فيك يابني في الأيام الضايعة دي. الواحد بيسمع الكلام ده ويقعد يفكَّر إزاي الناس دي تقدر تتكلم بكل ثقة وراحة عن العادات والتقاليد، وهم نفسهم كانوا بيخالفوا عاداتنا وتقاليدنا من زمان: من أول شوكت اللي كان بيزوَّغ عشان يروح السينما مع أصحابه في الخمسينات، وعصمت اللي قررت تشتغل رغم ضغوط العائلة في الستينات، ومدحت اللي طوِّل شعره وبدأ يسمع أغاني «روك» لأنه ما قدرش يقضيها عبد الحليم وأم كلثوم في السبعينات. الناس بتتكلم عن العادات والتقاليد وكأنها مسلمات كونية لا يمكن التخلّي عنها، وهم نفسهم بيغيَّروا العادات والتقاليد في أفعالهم وممارستهم اليومية.
في السياق ده، الواحد ممكن يعتبر إن الناس بتقول أي كلام، أو يفتكر إنهم قاصدين يشتغلونا ويضحكوا علينا، ولكن الموضوع أوسع بكثير من حكمت وعصمت وشوكت. في كل مكان وفي كل زمان، حسب المؤرخ إريك هوبزباوم (Eric Hobsbawm)، فيه ناس بتخترع «عادات وتقاليد» جديدة وكأنها كانت بتحصل طول العمر. الاختراع ده مش بس مرتبط برغباتهم الشخصية، وإنما كمان بالسياق التاريخي اللي همَّا عايشينه. في كتاب عن «اختراع التقليد» حرره مع تيرنس رينجر (Terence Ranger)، هوبزباوم سأل إشمعنى بعض التقاليد اللي تبدو قديمة الأزل بتبقى في الغالب بِدَع حديثة، زي تقاليد تتويج الملوك والملكات في إنجلترا، اللي لها روح ورونق الزمن الجميل، ولكنها اتشكِّلت في بداية القرن العشرين على أساس إن الاحتفالية تتذاع عبر جهاز مبهر اسمه الراديو.
هوبزباوم قال إن اختراع التقاليد بالشكل ده مرتبط بالتغيير التاريخي، وإن ظهور ناس بيفكَّروا في نفسهم بوصفهم «تقليديين» ما بيدلش على إنهم بيحافظوا على أنماط معيشتهم السابقة بالفعل، وإنما على إنهم واخدين موقف مُسيَّس من التغيرات التاريخية اللي بتحصل حواليهم. بالتالي، التزمُّت الشديد في تقاليد التتويج الإنجليزية مالوش علاقة بإن العائلة المالكة عايزة تحافظ على أرضها الطاهرة واسمها الكريم، وإنما بإنها بتقاوم التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة اللي بتحصل من ساعة الثورة الصناعية، وبتحاول تسيطر معنويًا على الوضع باستخدام نماذج ورموز تبدو عتيقة.
هوبزباوم فرَّق بين التقاليد (traditions) من ناحية، والعادات الاجتماعية (customs) والعرف (convention) من ناحية تانية. التقاليد عبارة عن طقوس متجمدة في الزمن بتتعارض بقوة مع مروره، بينما العادات الاجتماعية لازم تتغير وتتطوَّر عشان تتلائم مع الزمن، والعرف التقني العملي اللي بيخلِّي الإنسان يعيش حياته لازم يتطوَّر عشان يتلائم مع الواقع المادي المتغيِّر. في المقابل، التقاليد بتصمد ضد التغيير، مش عشان التقاليد أقوى أو أهم منه، وإنما عشان فيه مجموعات بشرية بتخترع شيء اسمه «تقاليد» كنوع من الوسائل للحفاظ على مصالحهم ووضعهم في المجتمع، زي في حالة الملكية الإنجليزية، اللي بتستمر بوهم إنها نظام سياسي تقليدي ما تغيَّرش وعمره ما هيتغيَّر، بينما هو منسوج في مجتمع حديث قائم بآليات حديثة.
العلاقة بين اختراع التقاليد والمصالح السياسية واضحة في التقاليد الوطنية الرسمية. الإنسان المصري المعاصر عنده عادات وعرف بيخلّوه يتوافق مع اللي عمَّال يحصل فيه كل يوم. وإنما عشان يكون مواطن مصري صالح، لازم يشارك في بعض التقاليد الرسمية اللي بتدَّعي إن الدولة القومية لها تاريخ سبعتلاف سنة، وإحنا ورثناه ولازم نكمِّل تقاليده العتيقة. فمثلًا النشيد الوطني بقى بيتسمع في كل المناسبات الحكومية وكأن الموضوع راسخ منذ بداية مصر نفسها، وكأن النشيد نفسه ما تغيَّرش وماتطوّرش عبر الزمن، ولو إن محدِّش كان بيغنيه بالكثافة دي من عشر سنين فقط. وبقى فيه مثلًا احتفاليات قومية بسينا وبالشرطة وبمشاركة مصر في الحرب العالمية الأولى رغم إن الاحتفاليات دي ما كانتش تهم الناس زمان، ولا بتذكر التاريخ المتوثق بصورة دقيقة.
في الآخر، اختراع التقاليد مرتبط بإثبات موقف سياسي بناءً على استخدام رموز قديمة لأغراض جديدة، لها علاقة بالظرف التاريخي الجديد اللي إحنا عايشينه، سواء كان في حالة الاحتفاء بتاريخ سينا أو الشرطة أو الحرب العالمية. يعني فكرة «العادات والتقاليد» مالهاش علاقة باللي كان بيحصل زمان، وإنما باللي بيحصل دلوقتي، وبالمصالح اللي الناس «التقليديين» بيقضّوها باعتبارهم بيحافظوا على «تقاليد» ظهرت بالفعل من قريب.
النقطة دي واضحة في تاريخ ظهور الآلات التكنولوجية الحديثة في مصر: كل ما اختراع جديد ينزل السوق، بعض الفقهاء والمواطنين الصالحين بيقولوا إن الاختراع ده ما يناسبش «عاداتنا وتقاليدنا». فمثلًا وقت ما الراديو كان لسه اختراع جديد في بدايات القرن العشرين، فيه فقهاء ومواطنين قالوا إنها آلة شيطانية وكافرة وما تناسبش عاداتنا وتقاليدنا، زي ما حصل مع السينما قبل الراديو ومع التلفزيون والنت بعديه. طبعًا الاعتراض ده ما منعش إن المستهلك يشتري أفلام وراديوهات وكمبيوترات عادي، وإن الناس تنسى مع مرور الزمن إن كان فيه نقد ديني ضد التكنولوجيات دي أصلًا، وإن الشيوخ اللي كان ممكن ينتقدوا انتشار التلفزيون زمان بقوا يذيعوا فتاويهم ضد فساد الإعلام على الهواء.
رغم وجود مفارقة بين الخطاب والممارسة اليومية، فكرة «العادات والتقاليد» لسه حاضرة، وناس كتير بتردد الجملة وكأنها دليل لا يمكن إنكاره على زوال الماضي في الحاضر. لذلك حكمت وعصمت وشوكت يقدروا يقعدوا معاك في رمضان ويقولوا لك إن العادات والتقاليد انتهت، وهم نفسهم عندهم ممارسات عكس اللي كان بيحصل في زمن تاني، لأن «العادات والتقاليد» عبارة عن فكرة بتجري عكس تيار الزمن عشان تأكد استمرار السلطة المعنوية، سواء كانت سلطة العائلة أو سلطة الشيوخ أو سلطة الدولة، ومفيش تقاليد بالمعنى الجامد ده إلا إذا كانت اختراع متجدد في مناسبات واحتفالات زي الليالي الرمضانية.
طبعاً فكرة إن التقاليد مُختَرعة لها حدود، لأنها بتخلِّينا نتصور إن أي عادات بشرية ممكن تكون نتيجة مصالح سياسية مباشرة، وإن أي عادات بشرية عبارة عن اختراع مقصود ومتدبَّر. الرؤية دي بتختزل التقاليد في صورة حيلة خبيثة بتخلِّي الناس المتسلطة تسيطر علينا، بينما الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي اللي بيأدي لاختراع التقاليد مش دايمًا بالبساطة دي. مع ذلك، مفهوم اختراع التقاليد مهم لإنه بيحظّرنا ضد تصوُّر إن التقاليد الرسمية عتيقة وأزلية، وبينبهنا لإن العتاقة دي بتبقى لها وظيفة سياسية معنوية في فرض السلطة. إذا الواحد قادر يحلل التقاليد كاختراعات بشرية وحديثة بتحصل في سياق عادات وعرف متغيِّر، نقدر نستوعب إن إحنا اللي بنخلق وبنحفظ وبنغيَّر «عاداتنا وتقاليدنا».
يعني الصراع الداير مش بين الماضي والحاضر، أو بين التقليديين والحداثيين، وإنما بين الناس اللي بتستخدم الماضي عشان تسيطر على الحاضر، والناس اللي عايشة بين الماضي والحاضر عشان تبني المستقبل.