ليه السيستم بيقع؟
مقال لشهاب الخشاب
خاص بـ Boring Books
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.
***
ليه السيستم بيُقَع؟
عادةً أنا بتوتَّر من المشاوير الإدارية. جزء كبير من التوتر إن الواحد لازم يصحى بدري عشان يعرف يحقق أي شيء في الحياة. جزء تاني من التوتر إن الواحد يلحق المواصلات قبل الزحمة عشان يلاقي مكان في الطابور. وجزء تالت إن الواحد يتأكد إنه جاب الورق اللازم عشان يخلَّص المشوار في نفس اليوم. ولكن القلق الأكبر إن الواحد يروح المشوار بدري، ويوصل بدري، ومعاه ورق كامل متكامل، وفي الآخر يلاقي الموظف ورا الشباك بيقول له: السيستم واقع. واقع عشان الكهربا مقطوعة، ولا واقع عشان الكمبيوتر مهنِّج، ولا واقع عشان الموظف عايز يريَّح دماغه من الناس ودوشتهم. المهم إن السيستم واقع وما نقدرش نكمِّل المشوار. اتفضل يا أستاذ استريَّح، الفني في الطريق، وربنا يفرجها إن شاء الله.
في السرديات الكبرى عن الحداثة، السيستم مش مفروض يُقَع. إذا افترضنا إن التطور الإنساني والاجتماعي مبني بالضرورة على تطور تكنولوجي، ما ينفعش السيستم يُقَع ونعتبر إن دي حاجة عادية. السيستم في الرؤية الحداثية عبارة عن البنية التحتية للمجتمع الحديث. لولا السيستم، كان السوبرماركت والبنك والسجل المدني والسنترال اشتغلوا بالورق والقلم والدفاتر والحاجات القديمة اللي ما يصحِّش تتحط في نفس الجملة مع «الحداثة». وفشل السيستم بالشكل ده هو فشل الحداثة بحالها. لذلك الواحد اللي بيوصل بدري الصبح ويلاقي السيستم واقع، وعنده توقع (ساذج) إن السيستم يكون شغَّال، لازم يشتم في الناس اللي عمَّالة تبيع كلام عن مصر كـ «دولة حديثة».
اللي بيشتم متبني رؤية حداثية للبنية التحتية – بيشوفها باعتبارها مجموعة من الأشياء المادية اللي بتمشِّي الحياة اليومية بلا تعطيل ولا مجهود. السيستم بالمعنى ده هو مجرَّد الكمبيوتر والسيرڤر والسوفتوير والهاردوير اللي بيسمح للموظفين والعُمَّال بتأدية شغلانتهم. في نفس الوقت، السيستم بيسمح للمواطنين بالحصول على بعض الخدمات. إذن لا الموظف ولا العامل ولا المواطن لهم علاقة بالسيستم. السيستم موجود: مالوش بداية ولا نهاية، ماحدش خَلَقه ومالوش بديل. الناس بتستخدم السيستم عشان تحقق أغراضها، وكأنه مجرَّد أداة تحت سيطرتهم. وطبعًا مفيش أي سيطرة لما السيستم بيُقَع، ولذلك الناس بتتضايق وتسب الدين.
الرؤية الحداثية مثالية بسذاجة، لأن مفيش أي سيستم في الدنيا بيفضل شغَّال بلا تعطيل ولا مجهود. إذا كان السيستم من صُنع البشر، والبشر دايمًا بيغلطوا وبيعُكوا، فطبيعي إن السيستم يغلط ويعُك زي الناس اللي خَلِّفوه. وحتى أكبر الحكومات الإمبريالية والشركات العالمية، اللي عندهم أفخم السيستمات التكنولوجية، حتى هُمَّا محتاجين يعيِّنوا عُمَّال متخصصين في تصليح السيستم. الحكومات والشركات دي ما بترميش فلوسها في الأرض، وإنما بتبقى عارفة إن كده كده السيستم هيُقَع، فلازم جيوش من البني آدمين تكون جاهزة تحل المشكلة في أي وقت. ولو المشكلة ما اتحلِّتش، الحكومات والشركات هتلبس في خساير مادية ومعنوية كبيرة.
بالتالي ما نقدرش نعتبر إن السيستم مجرَّد مجموعة من الأشياء التكنولوجية اللي بتشتغل في ذاتها ولذاتها، لأن جزء من السيستم هو برضه البشر اللي صنعوا السيستم، والبشر اللي بيصلَّحوه، والبشر اللي بيستخدموه. حسب التحليل الماركسي التقليدي، نقدر نقول إن السيستم عبارة عن وسائل وعلاقات إنتاج في نفس الوقت. لا هو بس الكمبيوتر اللي بيبوظ، ولا هو الموظف اللي ما يقدرش يشتغل من غيره. السيستم هو الاتنين في نفس الوقت، والاتنين بيكوّنوا البنية التحتية للمجتمع. البنية التحتية بالمعنى ده فيها أساس الصراع الطبقي اللي داير بين الناس اللي شغَّالة والناس اللي بيشغَّلوهم. البنية التحتية بتسند «البنية الفوقية» في تعبير ماركس، اللي هي مجموعة المؤسسات والأفكار السياسية والثقافية والدينية اللي بتخبِّي أو بتداري الصراع الاقتصادي التكنولوجي في البنية التحتية.
ثنائية البنية التحتية والفوقية جاية من مجاز هندسي معماري، بيفرَّق بين أساس المبنى (Grundlage) والأدوار اللي طالعين فوقه (Überbau). المجتمع عبارة عن عمارة كبيرة في الرؤية دي: عواميد الأساس محفورة في أرض العلاقات الاقتصادية، وطالع فوقها كذا دور سياسي وثقافي وديني لغاية سماء الأحلام البرجوازية. التفرقة بين البنية التحتية والفوقية بتفترض إن الصراعات اللي دايرة في شقق العمارة – في السياسة والثقافة والدين – مش مهمة قد الصراعات اللي دايرة في الأساس الاقتصادي. واللي بيحصل في البدروم هو اللي بيحدد نتيجة اللي هيحصل جوه الشقق.
ماركس افترض إن التكنولوجيا والاقتصاد هي عواميد أساس المجتمع، والباقي كله تفاصيل فرعية في تحليل الصراع الاجتماعي الجذري. الافتراض ده دقيق في بعض الأحوال، وإنما ما يقدرش يشرح وقعات تاريخية بعينها ما كانتش بتتحرَّك لأسباب اقتصادية بحتة. بالإضافة، ماركس ما كتبش بوضوح عن العناصر اللي بتربط بين البنية التحتية والبنية الفوقية. المفكِّر لوي ألتوسير (Louis Althusser) تحايل على الموضوع ده بتعبير شهير: إن البنية التحتية بتحكم البنية الفوقية «في التحليل الأخير»، كأن الواحد يقدر يحلل عمارة المجتمع في ذهنه بالكامل، شقة شقة، لغاية ما يوصل للأساس الاقتصادي.
لكن حتى «في التحليل الأخير»، الفصل بين علاقات ووسائل الإنتاج من ناحية، والمؤسسات والأفكار السياسية والثقافية والدينية من ناحية تانية، بينسِّينا إن المؤسسات والأفكار لها علاقات ووسائل إنتاج خاصة بها، بعيدًا عن الصراع الاقتصادي اللي داير جوه المصانع والشركات. وبينسِّينا كمان إن التكنولوجيا والاقتصاد نفسهم عندهم «بنية فوقية» خاصة بهم، بمعنى مجموعة تصورات ومؤسسات بتنظَّم طبيعة الإنتاج الفعلي. بالتالي استخدام مجاز البنية التحتية والفوقية ما بقاش منتشر النهارده، لأن اللي بيبقى «تحت» أو «فوق» ممكن يتغيَّر حسب متابعة المؤرخ للصراع المادي التاريخي.
تحليل البنية التحتية أخد اتجاهات تانية في مجال دراسات العلم والتكنولوجيا (Science and Technology Studies). مفهوم البنية التحتية في المجال ده واسع جدًا، وبيتضمَّن جميع الكائنات البشرية وغير البشرية اللي بتسند وجود «السيستم». السيستم بالمعنى ده مش بس الحاجة اللي بتُقَع أثناء المشوار الإداري. السيستم هو جميع الموظفين والعاملين والمواطنين وأدواتهم وخدماتهم وتصوراتهم. الفاعلين دول كلهم بيشتغلوا عشان يمشَّوا الدنيا والناس تخلَّص مشاويرها. لما السيستم بيشتغل كويس، بيدِّي إيحاء إن الحياة ماشية زي ما المفروض تمشي. إنما في واقع الممارسة، السيستم بيشتغل دايمًا في إطار مُسيَّس وغير عادل، لأنه شغَال جوه مجتمع مُسيَّس وغير عادل.
سياسة السيستم غير سياسة البرلمانات والإنتخابات، وغير سياسة المظاهرات والمواجهات. سياسة السيستم نوع من السياسة الخفية جوه شبكات البشر والأشياء اللي بتكوّن البنية التحتية. ممكن ناخد مثال بعيد عن مصر، زي شبكة الطرق والمواصلات في نيويورك في بداية القرن العشرين. في مقال عنوانه «هل للمُصنَّعات سياسة؟» (Do Artifacts Have Politics)، المفكر السياسي لانجدون وينر (Langdon Winner) لاحظ إن شبكة المواصلات النيويوركية متصمِّمة بشكل طبقي وعرقي. وينر شرح إن مصممين الطرق البيض ما كانوش عايزين الفقراء اللي عايشين في أحياء معظمها أمريكان سود يدخلوا مناطق معيَّنة في نيويورك. فبدل ما يخشوا في مواجهة واضحة وصريحة مع الفقراء والسود، تعمَّدوا إنهم يبنوا كباري وأنفاق واطية. ارتفاع الكباري ما كانش يسمح بمرور الأتوبيسات ووسائل النقل العامة في قلب المدينة. بالتالي الناس اللي ما كانتش قادرة تركب عربيات – اللي همَّا في الغالب من طبقات وأعراق أدنى – ما كانتش تقدر تدخل المدينة بسلاسة وسهولة.
في الحالة دي، البنية التحتية ما بتسمحش لكل الناس بإنها تقضِّي مشاويرها في سلام وأمان، وإنما بتفرَّق ضمنيًا بين الغني والفقير والأبيض والأسود في استخدام البنية التحتية. تحليل وينر بيفكَّرنا بإن بناء الطرق والكباري الجديدة، مهما كانت إنجازات وطنية عظيمة، دايمًا بتتم لصالح الطبقات الحاكمة المهيمنة. اللي بيسيطروا على تصميم الطرق بيسيطروا كمان على الطريق رايح فين وجاي منين. بالتالي بيسيطروا على مين يقدر يستخدم الطريق ومين ما يقدرش؛ مين الشركات ورجال الأعمال اللي يقدروا يستخدموا شبكة الطرق العامة بسلاسة، ومين العُمَّال والموظفين اللي مضطرين يستنوا ساعة الصبح عشان ياخدوا الطريق أو الكوبري الوحيد اللي بيطلّعهم من منطقتهم. تاريخ البنية التحتية في مصر، زي تاريخها في العالم الرأسمالي بحاله، هو تاريخ من المصالح المشتركة بين الحكومات والشركات الكبرى. المدينة بتتبني في صالحهم، والناس بتستفيد من المصالح دي بشكل ثانوي فقط.
التسييس الضمني ده مش بس واضح في مشاريع البنية التحتية الكبرى. ممكن كمان نلاحظه في السيستم اللي شغَّال جوه السجل المدني والبنك والسوبرماركت. السيستم الإلكتروني في الأماكن دي مش معمول عشان يسهِّل شغل الناس وخلاص. الغرض منه كمان إنه يتابع ويراقب حركة العُمَّال والموظفين في المكان، ويأكِّد إن الإيراد داخل للحكومة والشركة، ويأكِّد إن اللي جاي يقضِّي المصلحة مش هيعرف يسلك برة الإطار اللي حاطه الكمبيوتر. يعني السيستم مش أداة محايدة في إيد الناس، وإنما هي منظومة بتحكم آداء الناس والتكنولوجيا اللي شغالين جوه إطارها، وبرضه في صالح الطبقات الحاكمة المهيمنة.
بالتالي البنية التحتية دايمًا مُسيسَّة حتى في جوانبها المادية البحتة. لما السيستم بيبقى شغَّال في السجل المدني أو في البنك أو في السوبرماركت، الحياة بتمضي في سلاسة بالنسبة للناس اللي عندها مكانتها جوه السيستم. ولما السيستم بيُقَع، الموظف يقدر يفعَّل آليات شغل على الورق عشان يمَشّي الأمور لغاية ما الفنيين المتخصصين يرجّعوا السيستم تاني. ساعات الناس بتكسّل وبتستنى إن الإلكترونيات تصحى بنفسها، وساعات الناس ماتقدرش تشتغل برة السيستم الإلكتروني إلا بقرار الإدارة. ولكن نظريًا، اختفاء «السيستم» بالمعنى التكنولوجي البحت عمره ما بيأدي لاختفاء «السيستم» بمعنى المنظومة البشرية التكنولوجية الواسعة اللي بتيسَّر الأعمال.
في الآخر، ما نقدرش نشوف البنية التحتية من منظور النجاح أو الفشل فقط. لازم كمان نشوف دورها الأوسع في إنتاج وإعادة إنتاج الحياة اليومية، تحت سيطرة نظم سياسية واقتصادية محددة. سواء كان واقع أو شغّال، السيستم كمنظومة بشرية تكنولوجية بيكشف المجتمع والصراعات اللي دايرة جواه. بالتالي مش مهم نعرف ليه السيستم بيُقَع، وإنما امتى هيَسقُط حكم السيستم.
One Reply to “موسوعة الملل | ليه السيستم بيقع؟”
السيستم لازم يقع ولو موقعش يبقى هيقع عاجلًا أو أجلًا، لازم يقع قبل ما تخلص ورقك، هيقع ولو كنت في سابع يوم في أعمق أرض في أبعد أمنية جوة الخيال، لازم يقع.
وده شعار أو تعويذة أو تهويدة الموظف بيقولها قبل ما ينام علشان يتعود ويفهم أن السيستيم مش معجزة الحكومة مش جبار عتيق والدولة .. الدولة لازم السيستيم بتاعها يقع لأن الطائفة اللي بتعبد الدولة شايفة أن وقوع السيستيم يعني أن الدولة بترسل رسالة وكلمات مقدسة بتدل على إنها لسة حية، السس السيستيم لا لا لازم ي ي يقع.
وهكذا هراء القصص والخيلات يسلي الوقت حتى يرجع السيستيم …
مقال رائع ومغذي .. شكرًا.