أوتيسا مشفق: طريق معتمة وملتوية (قصة)

2025-04-13 - Mohammed Alsaeed

طريق معتمة وملتوية

قصة لأوتيسا مشفق

ترجمة: محمد السعيد

أوتيسا مشفق روائية وكاتبة قصص قصيرة أمريكية، اشتُهرَت بسردها السوداوي الكوميدي، والذي يغوص في أعماق النفس البشرية بطريقة مكثفة ومزعجة أحيانًا. تتناول أعمالها موضوعات العزلة والتدمير الذاتي والاغتراب، وغالبًا ما تتمحور حول شخصيات معيبة ومعقدة. نالت شهرة واسعة بروايتها "إيلين" (2015)، التي تمزج بين الإثارة النفسية والدراسة العميقة للشخصية، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر. عززت أعمالها اللاحقة، مثل عامي من "الراحة والاسترخاء" (2018) و"لابفونا" (2022)، مكانتها ككاتبة جريئة ذات أسلوب حاد واستفزازي.


أوتيسا مشفق، عن BBC

استبقى والداي كوخًا صغيرًا في الجبال. كان شيئًا بسيطًا، مجرَّدَ أربعة حيطان، ومعتمًا في الداخل. ستارة لباد ثقيلة طمست ما دخل من النور عبر ظُلَّة الأخشاب العملاقة ونافذة الكوخ الوحيدة. كان هناك سريرٌ يكفي لاثنين وكرسي ومِشَبّ. لم يكن كوخًا عتيقًا. أظنُّ والديَّ بنيَاه في السبعينات من عتاد بسيط. خُتِمَتْ في بعض الزوايا من عواميد الخشب كلمة HOME-RITE. لكنَّ روحَ المكان بعث في نفسي الزمن الطيِّب، الأيامَ الخاليةِ الماضية، أو وقتما كانت أحاديث الناس لا تتجاوز إنذارًا بعاصفة أو توتًا سامًّا وما عداها، أقلَّ القليل. ثمة صمتٌ مطبِق في الأعلى حتى لَتسمعُ نبضَ قلبك إن أصغيت. أحببته، أو على الأقل ظننتُ وجوبَ حبِّه، إذ لم أتثبَّت أبدًا في الفرق بين الشعورَين. واريتُ نفسي إلى الكوخ في نهاية الأسبوع في بواكير الربيع بعد خلافٍ مع زوجتي. كانت حبلى في ذلك الوقت، وأظنُّها رأت أن من حقِّها معاملتي بسوء، لذا صعدتُ إلى هناك نكايةً بها، بلى، راجيًا أن تعرفَ قيمتي في غيابي، أيضًا لأحظى بعطلةٍ أخيرة مع نفسي قبل أن يُولد الطفل وتفسُدَ حياتي التي عرفتُها للأبد.

يسهل تخيُّل الدرب إلى الكوخ. كان دربًا مثل أيِّ دربٍ لأيِّ كوخ. كان في نهاية طريقٍ معتمة وملتوية. الميل الأخير منه تقريبًا مرصوفٌ برداءة. أرغمني الثلج المسَّاقط على ركنِ سيارتي في مساحةٍ خاليةٍ لأمشي الباقي راجلًا. لكنَّ الثلجَ قد ذاب حينما وصلت هناك. كان هذا في أبريل. البرد لم يزل لكن ذاب كلُّ شيءٍ.

كلُّ شيءٍ كان جميلًا ومعتمًا وغنيًّا مثل الطبيعة. أحضرتُ جميع الأشياء المُحبَّبَة للأكل وأكلتُها فورَ وصولي: مخلل كورنيشون، سلمون مرقط مدخن، مقرمشات الشعير، جبنة الفيتا، زيتون مخلل، كرز مجفف، تمر مغطى بجوز الهند، شوكولاتة توبليرون. أيضًا أحضرتُ قنينةً فاخرة من نبيذ شيتو شيفال بلانك، هديةُ زواجٍ خبَّأتها وحفظتها لثلاث سنوات. لكنني لم أجد فتَّاحة لذا لجأتُ إلى بقايا قنينة سكوتش رخيص فُوجِئتُ وارتحتُ عندما وجدتُها على رفٍّ في دولابٍ بجانب شريطٍ متيبِّس. بعد مدَّة من الإغفاءات على الكرسي، خرجتُ باحثًا عن حطب. أطبقَ الليل حينها ولا مصباحَ لدي، ولم تواتِني فكرةُ أن أحضر واحدًا لذا تحسَّستُ حولي إلى العِصيِّ في ضوءِ سيارتي الشفيف. جهودي عادلت نارًا قصيرةً صغيرة لكن مفيدة.

لطالما كنتُ بيتوتيًّا. نادرًا ما أحضرنا والداي إلى الكوخ عندما كنا طفلَين، إذ بالكاد كان هناك فُسحَةُ لزوجَين شابَّين، فضلًا عن كونهما متناقرَين لولدَين متناقَرين. يصغرني أخي بثلاثة سنين، وهذه السنون الثلاث كما لو أنها هُوَّةُ انفصالٍ تكبُر كلما كبرنا. أحيانًا أتساءل ما إن ضلَّتْ أمي، أكنا مختلفَين هذا الاختلاف. ليس عدلًا أن تروني مختالًا وأخي منحطًّا لكن الصواب ليس ببعيد. إنه يدعو نفسه إم جي، أما أنا أُدعى تشارلز. في سنيَّ المبكرة، كنت ألعب الشطرنج وأعزف الكلارنيت. أبوانا اشتريا لإم جي عدة طبول لكنها لم تستهويه. كان يلعب ألعاب الفيديو وتلاحقه الفوضى أينما كان. في الفُسَح رأيته يهشُّ بقبضتيه على الأولاد الصغار ويمسح بكمَّيه المخاط. لم نجلس معًا في الحافلة. في الصفِّ السابع فزتُ بمنحة لمدرسة خاصة مرموقة، وهممتُ ألبس ربطات العنق وألعب الرجبي وأقرأ الجرائد وأقضي الوقت كله في البيت في غرفتي مع كتبي. صرتُ ناجحًا لكن لا شيءَ مميز. أمسيتُ محاميًا عقاريًّا، وتزوجتُ حبيبتي طالبةُ القانون، واشتريتُ شقَّة غالية في موري هِل، لم أبلغْ حتى ما كنتُ آمله.

إم جي كان جنسًا آخرَ من الرجال. صفرَ الطموح. يعيش أصدقاؤه في ساحة مقطورات حقيقية. انسحبَ من الثانوية العامة في عامه الأول، وتعاطى المخدرات وأظن أنه حصل على وظيفة في مخزن لإحدى المتاجر، يفتح فيها الصناديق اليومَ كلَّه. لست متأكِّدًا كيف وما إن كانت له لقمةُ عيشٍ الآن. كان يأتي في كل كريسماس غيرَ مستحمٍّ، لابسًا سترات عطنة، وينام على الأريكة ويستيقظ ويأكل مثل خنزيرٍ بري، يتجشأ ويضحك، ثم يختفي ليلًا. كان موهوبَ البدن، حيث يستطيع رفعي بسهولة ويطوِّحني هنا وهناك، وكثيرًا ما يفعل ذلك نكايةً بي عندما كنا مراهقَين. في الثانوية غزاه حبُّ شبابٍ فظيع، بُقعٌ حمراء من قيءٍ يعصرها بلا انتباهٍ أمام التلفاز. لم يهتم بمظهره. كان يطفحُ ذكورةً. وأنا كنتُ دائمًا شبيهًا بأمي.

نتشارك في ذائقة رفيعة، وأحسبُ أنها تزعج أخي: كان يدعوني مخنَّثًا كلما تسنح فرصة. على أيِّ حال، لم أره لسنوات عديدة، منذ زفافي، ولم آتِ إلى الكوخ مذ واعدتُ زوجتي. قضينا ليلةً ربيعية غريبة معًا منذ أزمان لكن هذه قصة مملة.

لففتُ حشيشةً في سيارتي والأنوار مضاءة ودخَّنتُها قاعدًا على الكرسي، في العتمة. المكان يخلو من الأبراج الخلوية وذلك أزعجني. لا أعلم لمَ واصلتُ تدخين الماريجوانا لهذه المدة الطويلة، إذ لطالما رمتني في ذعرٍ وجودي. حينما أدخن مع زوجتي، أتظاهرُ بتعبٍ شديد لأصرف نفسي عن الخروج للمشي إذ هي أحبَّتْ هذا النشاط. أما أنا أسبحُ في الذعر والقلق. حينما أنتشي، أشعر كما لو أنَّ ستارة داكنة أُسدِلت على العالم وتُرِكتُ هناك وحيدًا أرجف من دياجيره الباردة الحالكة. ولم أجرؤ للتدخين وحيدًا في البيت لئلا أرمي نفسي من نافذتنا في الطابق الثاني عشر. لكن حينما دخنتُ في تلك الليلة داخل الكوخ، شعرتُ بخير، همهمتُ ببعض الأغاني، وطقطقتُ بقدميَّ أرضًا. همهمتُ بلحنٍ صعب، أغنية لستيفي وندر، لحنٍ معقد، وبعد محاولات قليلة تمكَّنتُ من همهمتها بعذوبة. أتذكر الشعورَ عند التدرِّب لشيءٍ ثم إتقانه، وواتتني فكرةُ أيِّ أبٍ رائعٍ سأكون. «التكرار يعلم الشطَّار» سأقول لطفلي، مَثَلٌ ربما قارب الحقيقة، لكنه الآن يتحلى بحكمة وعمق. لذا شعرتُ بروعةِ نفسي، ناسيًا غرابةَ العالم الخارجي، حتى أني شعرتُ بعدما يُولد طفلي سأرتاد الكوخ مرةً أو مرتين في الشهر لأُبقي عظمة ذاتي سرَّا. وما زلتُ أهمهم مزيدًا.

حول التاسعة، أخرجتُ كيسة النوم وفرشتُها على السرير المغطى بالملاءات القديمة والغبار وروث الفئران، وأودعتُ نفسي للنوم دون مشاكل إطلاقًا. في الصباح، ابتلعتُ لترًا من المياه وذهبتُ من الطريق الملتوية المعتمة إلى طريق 11، حيث يقع هناك مطعم برجر كنج. أفطرتُ هناك. بالإضافة إلى شطيرة الفطور والقهوة، اشتريتُ عددًا من برجر الوبر التي ظننت أني قادر على تسخينه في المشب للغداء والعشاء في حال قضيتُ ليلةً أخرى. أيضًا اشتريتُ نصف درزن من البيرة، وباقة بحجمٍ عائلي من مقرمشات الدوريتوس وحلوى التويزلرز من محطة البنزين. واشتريتُ الجريدة المحلية ومجلة فلاي تاير لأقلِّبها حينما آكل. في هاتفي وجدتُ مكالمة فائتة من زوجتي. تجاهلتها بسعادة.

بعد عودتي إلى الكوخ نفضتُ الغبار عن الملاءات التي غطَّتْ السرير لأني أردتُ الاستلقاء تحت نور النافذة وقراءة فلاي تاير وأكل حلوى التويزلرز. شيءٌ بلون الجلد تراءى لي بين الملاءات. في البداية ظننت أنه واقي زوجتي – شيءٌ بلون لاصقات الجروح لطالما كرهتُ النظر إليه. ثم ظننته ذراعًا اصطناعية أو دمية. لكن عندما أزحت ملاءةً أخرى، رأيتُ أنه قضيبٌ اصطناعي. قضيبٌ اصطناعي مقوَّس وكبير ومطاطي بلون لاصقات الجروح. غريزتي الأولى، بالطبع، كانت برفعه وشمِّه، وهذا ما فعلت. رائحته بالكاد رائحة مطاط، شيءٌ مجهول. وضعته في إطار النافذة وخرجت لجمع الحطب. عزمتُ لإشعالِ نارٍ حقيقية، أكنتُ قلقًا بعثوري على قضيبٍ اصطناعي؟ أزعجني إزعاجَ من يسمع جيرانه يقرعون القدور عبر الحيطان. وبدا في ذلك الوقت فعلَ تخريبٍ أكثر من دليلٍ على وجود نشاطٍ جنسي، بدا مقلبًا. في الخارج، دُهشت لأني وجدت كومةً كبيرةً من الحطب الجاف في المنطقة الخالية تحت الكوخ.

بعدما أشعلتُ النار، قعدت لاعنًا نفسي لنسياني أن أشتري فتَّاحة من محطة البنزين لما شعرتُ من أن أواخر الصباح بجانب النار وقتٌ مثالي لشرب النبيذ. شتمتُ بصوتٍ عال. الصديق الذي أهداني القنينة زميلُ دراسة. ضاجعتُ حبيبته ذات عطلة في سنتي الأخيرة بينما كان يزور والدَيه، ولم أخبره أبدًا. كان اسمها سيندي، وكانت نصف باكستانية، تحبُّ مخدرات البوبرز وتضرط في نومها. كانت آخر فتاة ضاجعتها قبل زوجتي. لذا عَنَتْ تلك القنينة أكثر من كونها نبيذًا جيِّدًا. من المستحيل أن أشاركها زوجتي. فكرتُ أن أذهب إلى محطة البنزين لكن لا ضمانة أن أجد فتَّاحة، بالإضافة كنتُ خائفًا أن أترك النار مشتعلة. لم يكن هناك مطفأة حرائق، والمواسير خربة. عجزي عن غسل يدي كانت السلبية الوحيدة للمكان. قضيتُ حاجتي في الخارج، حيث أرى الدخان يخرج من المدخنة المعدنية كقطارات البخار. بعدما فرغت، استعملت معقِّمًا ليدي وقعدت على الكرسي من جديد.

حظي لاحَ في السماء البارحة، لكن بعدما دخنت حشيشةً أخرى ذلك الصباح والنار مشتعلة، ما زال قلبي يخبطُ من ذلك النبيذ المنيع، ساقا سيندي السمراوان متدليتان من السرير، وانتبهتُ أني في ورطة. تماهت أفكاري في حنينيَّاتٍ بدائية للرجل الأول، وبحثتُ في قلبي عن بقايا شهوة بدائية، ولشدَّةِ بحثي، وجدتها. لففتُ حشيشةً أخرى ودخنتها وخلعتُ ردائي وألقمتُ النار بقلق وجلستُ على أرضيَّة الكوخ ودمدمتُ واهتزَزتُ كطفل وحبَيتُ على يديَّ وركبتَيَّ. لكن أرضيَّة الكوخ متسخة. وجدتُ مكنسة فكنست. من يأتي هنا ويعتلي القضيبَ الاصطناعي لم يهتم بالنظافة، قلتُ لنفسي. نظَّفتُ إلى أن جعت وألقمتُ النار من جديد ووضعتُ واحدًا من برجر الوبر على النار. ذابت الصلصة الخاصة والخبز احترق أسفله، لكن عندما قضمتُ منه، بدا كلُّ شيءٍ طعيمًا ودافئًا، ويذكّرني بكافتيريا مدرستي الابتدائية وذلك الطعام الرديء الذي آسيتُ نفسي به ولا فائدة.

بعد كلِّ هذا الكنس، لم تُلحظ نظافة الكوخ، ويبدو أنني أثرتُ غبارًا أكثر مما أخرجت من الباب. عطستُ وقعدت على الكرسي. دخنتُ حشيشةً أخرى. هذه الأخيرة كانت خطأً لأنه بعد عدة دقائق تصورتُ ابني غير المولود باكيًا على قبري بعد خمسين سنة، وشعرتُ غورَ حزنه ومقته تجاهي، وبغضتُه. ثم تخيَّلتُ وجوه أحفادي اللعينة. كرهتهم لأنهم لا يقدسوني. ألا يعلمون حجمَ تضحيتي؟ وها أنا، رائعٌ عظيم، ولا أحدَ يرى. شزرتُ نظري ورأيت خفاشًا متدلٍّ من السقف. مضيتُ لمكانٍ شديد العتمة. وفراغٌ هائلٌ يخبطُ في أحشائي. تصورتُ جيفتي تتحلل في لحدي. تصورتُ جلدي يترهل ويسودُّ ويسَّاقطُ من عظمي. تصوَّرتُ أعضائي التناسلية المتعفنة. تصورتُ شعرَ عانتي تغزوه اليرقات. وبعد كلِّ هذا، ظلامٌ لا نهائي. ولا شيء.

وحينما فكرت في شنقِ نفسي بحزامي، دُقَّ باب الكوخ، وصوت فتاة تنادي «إم جي؟»

حبيبة إم جي الوحيدة التي التقيتُ بها تدعى باسمٍ غريب كاري ماري. لطالما ظننت أن كاري ماري لا بدَّ أن تكون متخلِّفة عقليًّا لأن لها لغلوغًا سمينًا وابتسامة ضعيفة ومِشية مسرعة مثل بعض المتخلِّفين عقليًا، وشعرها عقصات قصيرة، بشباصات طفولية. أظن أن والديَّ غلبَ عليهما الأدب للتشكيك في العلاقة، لكن في إحدى أعياد الشكر عندما أتى بها إم جي إلى المنزل، واجهته «هل تستغلُّ كاري ماري لأنها معاقة عقليًّا؟». لم يجبني أخي. أخذ قطعة جبن الماعز التي كنتُ أدهنها على الخبز ورماها أرضًا ودعسها بحذائه الرياضي. مسح الجبنة في أرجاء البيت، ولاحقًا تلك الليلة سمعتُ أخي ينيكُ كاري ماري. نَخرَ نخيرَ دبٍّ مجوَّعٍ عندما ناكها. لم أسمع نخيرًا كهذا من قبل. كان أصيلًا. لقد أرعبني. لم أستطع النظرَ إلى عينيه لأيام.

لكن المرأة عند الباب لم تكن كاري ماري. هيأت مظهري واستقبلتها استقبالًا رزينًا. «كيف حالك؟ أنا تشارلز». كنتُ منتشيًا جدًّا. بلا رداء، لففتُ ذراعيَّ على بطني كأني مكبَّلٌ في سترة المجانين.

سألت «هو هنا؟»، متجاهلةً عظمتي وغرابتي. كانت فتاةً من ذلك المكان، طويلة، بشعرٍ مصبوغٍ بالأرجواني، مرتديةً قميصًا رماديًّا، وسروالَ جينز، بدِمامٍ داكن، بلا معطف. بدت كأنها فتاة تعمل في ستور 24 أو مطعم بيتزا أو ملاعب البولينج، وتتحمل انتقادات الزبائن، وتعليمها لا يتجاوز المرحلة الثانوية. سألت «هل إم جي موجود؟»، وهي تنشق من البرد. ورائحة عطرٍ حاد، كالفودكا والعسل، تشقُّ الهواء. ظننت أني سأموت.

قلتُ «لا». بدا لي بديهيًّا أن أبدو طبيعيًّا. «لم أره».

عضَّت شفتيها من الإحباط، وفركت يديها معًا. استطعت أن أرى أنها تزيَّنت بمكياجٍ كامل على وجهها. بودرة طباشيرية علَتْ وجنتيها، وشادو أزرق على جفنيها. بدت شابة، في العشرين ربما. حاولتُ أن أسألها اسمها.

«ولمن أدينُ هذه المناسبة؟» قلت، وحالًا سمعتُ صدى صوتي عبر الأشجار مثل منحرفٍ أو أبله، مثل شخصٍ لم يحظَ بمحادثةٍ من قبل قط.

سألت «هل سيرجع قريبًا… إم جي؟»

«نعم، إم جي» قلتها قبل أن أفهم سؤالها حتى.

«أمن المناسب أن أنتظره؟ أخي لا يقدر أن يأخذني قبل الساعة الرابعة».

أومأت. قرُبت مني، ولوهلةٍ ظننتها أرادتني حضنها، لذا رفعتُ ذراعيَّ بغرابة، ثم أسبلتهما. كانت مؤدبةً لأنها لم تنظر إلى بطني وحلمتَيَّ.

سألت «هل من الممكن أن أدخل؟»

اعتذرتُ وأفسحت الدرب لتدخل الممر. لا أعلم لم كنت أكذب حول إم جي. من المؤكد أنني لستُ في مزاجٍ لهذه المرأة الشابة، التي عرفتُ أن اسمها Michelle [ميخيل]، لكن تُنطق بالخاء المخففة، فعائلتها أوروبية كما تقول.

ربما وجدتُ رغبةً فيَّ تقول إن صُحبَتها شتيمة لاذعة في وجه زوجتي، وهذه غاية رحلتي كلها. أعترف أني شاكر للربكةِ التي اعترضت تفكيري. أول شيءٍ فعلته أنها أشعلت سيجارة وتجوَّلتْ حولي وأشارت إلى القضيب الاصطناعي ونفخت حلقةَ دخان وقالت لي، كما لو أنها تسأل عن الوقت، «هل أنت مخنث؟»

أجبت باشمئزاز «لا». ثم لسببٍ ما – ربما لأني أردت تثقيفها وإبهارها «أنا لستُ مخنَّثًا وإنما مثليّ». تهجَّأتُ الكلمة بحرصٍ شديد، أمطُّ الحروف وأمدُّ حرف الياء، وأظنُّني أفرضُ فوقيَّتي تماشيًا مع فحوى كلامي.

قالت «صدقًا؟»، وهي تنقر سيجارتها لامحةً عانتي.

سألتني «كيف تعرف إم جي؟» وارتديتُ القميص.

قلتُ «صديق».

سألت «صديق من أي نوع؟»

أجبت «صديق عزيز جدًّا». خرجت الكلمات مني. قعدت على الكرسي متربِّعًا. كأنما ميخيل قرأت أفكاري حيث مدَّت لي سيجارة. نظرت إليَّ نظرةَ شك. دخنت تدخينَ شخصٍ بلغَ في تخنُّثهِ مبلغًا شديدًا، مقرِّبًا السيجارة لشفتي الممطوطتَين، ماصًّا وجنتي، مادًّا ذراعي، وكوعي بعيد حتى أقصاه، نافخًا إلى جانبي. أعرف أني خدعتها. كنتُ كما لو أنني قطة تهرهر.

سألتني «هل تأتي إلى هنا كثيرًا؟ لرؤية إم جي؟»

أجبتها «من حينٍ إلى حين» وساقاي تتأرجحان. «عندما نستطيع أن نلوذ بعيدًا».

ما زلت الفتاة تنشق، ورمت سيجارتها من الباب المفتوح وأغلقته، ووردت إلى النار لتدفئ يديها.

سألت «أين ذهب؟» لم تكن سهلةَ المنال، ولم تكن من الفتيات التي تُهان بسهولة. آلف من يشابهنها من الفتيات – قوية وحِرَفيَّة. كنَّ يتحلَّقنَ حولي عندما كنت طالبًا، خارجَ الحرم الجامعي. كانت هناك فتاة مثل ميخيل تعمل نادلةً في إحدى حانات البلياردو الصغيرة التي ارتدتها أنا وأصحابي لأننا حسبنا الحانة عتيقة. تلك الفتاة جميلة، كانت لتكون نجمة أفلام لو أرادت، لكنها ما فتئت تمضغ العلكة وعيناها خابيتان وبدت محصَّنةً عن الغزل أو المهانة. هذا ما كانت عليه ميخيل. محصَّنةً. ولهذا السبب، شعرتُ بغواية إيذائها.

قلت «لقد خرج لشراء فتَّاحة». أشرتُ إلى نبيذ الشيتو شيفال بلانك على الأرضية بجانب كيسة النوم.

رفعتْ القنينة، ومسحتْ أنفها في كمها. كانت فاتنة. وجه بارد بملامح طفولية صغيرة، لا تجاعيد ولا أمارات.

أمسكت القنينة من عرقوبها ولوَّحت بها وركزت بصرها على الطمغة.

سألت «هل تحب النبيذ؟». كانت مهذبة، تحاول أن تحادثني. كنتُ خائفًا لئلا تسقط القنينة وتكسرها. حاولتُ أن أكون مسترخيًا.

أجبت «أحب النبيذ. الأحمرَ، الأبيض، الروزيه». جربت كلمةً أخرى «المتورِّد».

«لم يخبرني إم جي أنك ستكون هنا» أخبرتني وهي تنزل قنينة النبيذ. «اتفقنا على الوقت وكل الأمور» هازَّةً كتفيها وشعرها.

قلت «سيرجع، وسنحل الأمور».

أومأت ونشقت وضمت ذراعيها وأسبلت رأسها.

سألتها «هل أنتِ جائعة؟» وأشرتُ إلى برجر الوبر الآخر الذي ما زال على المجلى.

قالت «لا. شكرًا».

قلتُ «أنا نباتيٌّ. إم جي يحب هذا النوع من الطعام». كنتُ أشعر أني ذكي جدًّا وصريح جدًّا. «هذا ما أحبُّه فيه – ذوقه الطفولي». بهذه الجملة، شعرت أني تفوقت على سوء الفهم وتخرَّجت في الخداع، من مبتدئ إلى خبير. «هو يحب أن يلهو. يلهو ويلهو. أحسب أن هذا ما تفعلانه معًا؟»

قعدت على السرير وضمَّت ساقيها بالطريقة الهندية. قالت «نحن ندخن». «مخدرات الكرستال؟» أخرجت أنبوب زجاج من جيبها، وورق قصدير مكور، وعرضتهما لي على راحة كفها مثل قارئة كف أو لاعب خفة بالسيرك، ثم وضعتهما على الملاءة بجانبها.

قلت «أها». بدوتُ جَدًّا أمامها. كانت تعشش على السرير مثل عصفورة، وشعرها يرفُّ بجلال جرَّاء حركة معصمها تحت ضوءٍ متواتر من النافذة الصغيرة. قضينا دقيقةً أو دقيقتين في صمتٍ طويل مطبق. شعرتُ أنني في حضرةِ تجلٍّ لقوى عظيمة. ثم فجأة واتاني احتمال أن إم جي سيأتي.

قلت «ربما سأغادر، وأترككما أنتما الاثنان». لم تحاول إيقافي. جمعتُ أغراضي. احتذيت البسطال. لكنني لم أترك الفتاة وحيدةً هناك. هذا كوخي على أي حال. قعدت. نظرت إلى هاتفها بعضًا من الوقت.

همهمت «لا أبراج»، عاضَّة شفتيها. وتثائبتْ.

ثمة شيءٌ واحد أحبه في أخي. كان مخلصًا. صحيح أنه يلكمني ويهينني لكنه لا يخونني. برغم الاختلافات التي بيننا، أظنه يفهمني. عندما كنا صغيرَين، أظن ذوَي سبعٍ وعشر، اشتغلت أمي في عيادة في الكنيسة بعد المدرسة، وتركتنا نلعب في الفناء الخلفي حيث كانت هناك أرجوحة ومِرمَلة وشجيرات توت حذرتنا ألا نقطف منها. لكني أحب أن أجمع التوت. أعبئ جيوبي بها وما إن أرجع البيت، أرميها في المرحاض. أنا وأخي لم نتكلم تلك العصرية. كان ولدًا صغيرًا. يحفر الرمل ويبول فيه، ويبصق فيه، ويرمي الحصى على السناجب ويحشو عارضات الأرجوحة بالرمل، ويهددني برمي الحذاء على رأسي. أما أنا أقعد على الأرجوحة أو تحت الشجر. فأنا خيرٌ من أي لعبة.

بعد مضيِّ أسابيع، مللنا وبدأنا نتمشى في الحارة. كانت حارةَ أثرياء – بيوت جميلة بمعمار هولندي، ومساكن فيكتورية كبيرة جدًّا. تبلغ قيمة هذه البيوت الآن الملايين. تمشينا هنا وهناك، نطلُّ من النوافذ. إم جي يحب التنقيب في صناديق البريد أو يرن أجراس الأبواب ويهرب، حيث يتركني واقفًا هناك ويداي في جيبي. لكن لا أحد يخرج من هذه البيوت. من المؤكد أن إم جي يعلم ذلك. كان يجرؤ على فعل الأمور، أمور غبية، أما أنا جبان. كان يدعوني «رأس الكس» ولم أهتم إلا قليلا. يمكنه قول ما يحب. يمكنه فعل ما يحلو له بي. كنتُ أضمر له، وعندما يحين الوقت، سأردها إليه.

ذات ظهيرة، وجدنا بيتًا خاويًا ودفعنا أنفسنا عبر النافذة. إم جي نزل إلى القبو، أما أنا تجمَّدتُ وافقًا في المطبخ، أنتظر خائفًا من مناداته، وقلبي يتمزق داخل صدري. عندما صعد إم جي، وفي يده مطرقة وقال «للسناجب». فتح الثلاجة، وداخلها أشهى أطعمة رأيتها في حياتي. ثمة لحم خنزير مشوي، وأصناف أجبان وفطيرة – أظنها فطيرة توت أزرق. شيءٌ اعتملَ في داخلي في تلك اللحظة. دسستُ توتًا سامًّا من جيبي ودعسته داخل الفطيرة فوق الأطراف. أشار لي إم جي إشارةَ رضا. تلك المرة الأولى التي اقتحمنا بيتًا معًا. سرقتُ قطعة من جبنة الروكفور ذلك اليوم. رجعنا اليوم التالي وسرقتها كلها. وتكرر هذا الفعل لعدة أشهر حتى أدخلتنا أمنا دروس تقوية. ما زلت أحتفظ بعملة البافلو التي سرقتها من داخل طاولة في إحدى البيوت. أشياءٌ كثيرة سرقناها ورميناها – ملاحظات، دفاتر عناوين، شوكة، خبصة ورق، فرشاة أسنان، أشياءٌ كهذه. أحيانًا أقلب الأغراض النسائية، أشمُّ كل العطور والمرطبات، أرى انعكاسَ وجهي في المرآة بينما إم جي يعكُّ غرفَ الأولاد. أنضحُ وجنتيَّ بالبودرة. أستلقي على السرير المائي الرجراج. أشمُّ الأشياء وألحسها ثم أضع كلَّ شيءٍ كما كان.

بعد عشرين سنة، ما زلتُ أرى أن الأشياء الجيدة، الأشياء التي أرغبُ بها، كانت لشخصٍ آخر. أبصرتُ الضوء الخافت يرقص في عينَي ميخيل الخابيتَين. بادلتني النظرة لبرهة. من الواضح أن الستارة أُغرِمَت بها أيضًا. أظننا تشاركنا لحظات تعارف، وحيدَين في الكوخِ الآيلِ للعتمة.

قالت أخيرًا «لا أظن أن إم جي سيأتي». نظرت مباشرةً نحو وجهي، وهي تهزُّ كتفَيها. بدأت تقول «إن كان سيأتي…».

«سنقول إننا لم نستطع الانتظار. سنقول "من سبق لبق". وافقتها وهي تسوِّي القصدير.

قضينا أمسيةً رائعة معًا. كأننا كنا نشغل دورَ العاشقَين المعذَّبَين. عندما أخَذَتْ القضيب الاصطناعي من إطار النافذة، أحسستُ أننا سنحقِّقُ أهدافًا عظيمة. سمحتُ لها أن تفعل ما ترغب في فعله بي ذاك اليوم في الكوخ. لم يكن مؤلمًا ولا مرعبًا بل مقززًا — كما تمنَّيتُ تمامًا.




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول المطلوبة مُشار إليها *

انضم للقائمة البريدية

تابعنا على السوشيال ميديا

النشرة البريدية