تواجه اللغة المصممة لتفسر كل شيء موجود مشكلات وصعوبات بسبب محاولتها تلك للوصول إلى الكمال
شِعريّات كمومية: بورخيس وهايزنبرج يتفقان على غموض اللغة
مقال ويليام إيجنتون
ترجمة رحاب عيد
نشر في مجلة Aeon
ويليام إيجنتون أستاذ في العلوم الإنسانية بكلية ديكر، ومدير معهد ألكسندر غراس للعلوم الإنسانية في جامعة جونز هوبكنز في بالتيمور.

مع تمدد أكثر الحروب دمويةً في التاريخ من أوروبا إلى خارجها، التقى رجلان، من بلدين بعيدين كل البعد عن بعضهما وتخصصين مختلفين تمامًا، في فكرتين متشابهتين في جوهرهما. كان أحدهما شاعرًا ومؤلف قصص قصيرة يحظى بنجاح عاديّ في بلده، ولكنه يكاد يكون مغمورًا خارج حدوده. أما الآخر فكان قد فاز بجائزة نوبل على أحد اكتشافاته التي توصل إليها منذ ما يقرب من 15 عامًا، وعلى وشك أن يتصدر قائمة الحلفاء لأكثر المطلوبين بسبب شكهم في مشاركته في برنامج الأسلحة الذرية الألماني غير الناجح.
ولكن بينما لم يعرف خورخي لويس بورخيس أي شيء عن التقدّم الذي وصلت إليه ميكانيكا الكم، وبينما لم يكن لفيرنر هايزنبرج أن يصادفه أي عمل من أعمال رجل له مؤلفات من بينها كتاب بيع منه بالكاد 37 نسخة على الجهة الأخرى من العالم في الأرجنتين، ففي حوالي عام 1942، كان كلاهما مهووسًا بنفس السؤال: كيف يُمكن للغة أن تُمكننا من فهم الواقع وأن تتداخل مع فهمنا له في آنٍ واحد؟
بعد الفشل المدوّي لكتابه تاريخ الأبدية (1936)، والذي بيع منه 37 نسخة فقط في عام، ولم يحصد أي انتباه يُذكر، عانى بورخيس من اكتئابٍ شديد. ومع ذلك، استمرت المواضيع الفلسفية التي احتوى عليها ذلك الكتاب في التطور حتى ظهرت في صورة مختلفة تمامًا في سلسلة من القصص بعنوان "احتيالات" (1944). في القصة الافتتاحية لتلك المجموعة، وصف بورخيس رجلاً فقد قدرته على النسيان، وعُرف بعدة أسماء منها إيرينو فونس. عندما قابله راوي القصة، كان لا يزال شابًا ومشهورًا في قريته بقدرته الغريبة في معرفة الوقت، على الرغم من أنه لم يرتد ساعة قط. وبعد مرور عامين، بعد عودته إلى المدينة، عرف الراوي أن فونس قد أُصيب بحادث تسبب له في شلل كلي جعله حبيس منزله على أطراف المدينة. ذهب الراوي لزيارته، ووجده يعيش بمفرده طريح فراشه الصغير ويدخن سيجارًا في الظلام. ومع اندهاش الراوي وحزنه على مصير فونس، تفاجئ أكثر حين علم أنه لم ينظر لحالته تلك على أنها إعاقة، بل منحة. يعتقد فونس أن تلك الحادثة منحته ذاكرة مثالية.
فذلك الشاب، الذي لم يسبق له أن درس اللاتينية، استعار من الراوي قاموسًا للغة اللاتينية ونسخة من موسوعة التاريخ الطبيعي لبليني. ثم بعد ذلك حيّاه عند عودته بالاستشهاد، من دون الخطأ بحرف، بالفقرة الأولى من الفصل الرابع والعشرين من الكتاب السابع: فقرة عن الذاكرة. لكن على الرغم من أن قدرته على التذكر مذهلة، كانت المنحة التي حظي بها فونس أكثر من مجرد ذاكرة فولاذية. فانغماسه في اللحظة الحالية كان عميقًا للغاية، مثاليًا للغاية، إلى الدرجة التي لا يُمكن أن يغفل فيها عن أي شيء تلتقطه حواسه.
وفي فقرة شِعريّة، وصف بورخيس قدرات فونس قائلاً: بنظرة سريعة، نرى أنا وأنت ثلاث زجاجات نبيذ على المنضدة، أما فونس فيرى جميع الأفنان والعناقيد والأعناب في الكرمة. كان يتذكر أشكال الغيوم في الجنوب عند الفجر يوم 30 من نيسان عام 1882، ويستطيع أن يقارنها في تذكره بالخطوط الرخامية التي رآها ذات مرة على غلاف كتاب مجلد، وبالخطوط التي ينثرها مجداف ارتفع عن الماء في النهر الأسود عشية معركة "كبراتشو".
بينما كان فونس مصرًا على أن قدراته الحالية مقارنة بسابقتها تجعل حياته السابقة تبدو وكأنها حياة رجلٌ أعمى، سرد الراوي مرة القيود التي تفرضها عليه حالته. حيث كتب بورخيس: كان [فونس] يستطيع استذكار كل أحلامه وأخيلته. وتمكّن في مرتين أو ثلاث من استذكار يوم بكامله؛ من دون أن يزل أو يخطئ، وكانت كل محاولة استذكار تستغرق يومًا كاملاً.
الرجل الذي يُدرك ويتذكر بشكلٍ لا تشوبه شائبة كل شيء يُحيط به يكون منغمسًا بعمق في ذكرياته الحيّة. فالشدة التي يختبر بها العالم تتداخل مع تلك التجربة. لأنه، إذا كانت محاولة استذكار يوم تستغرق يومًا كاملاً، فأين ذهب ذلك اليوم الجديد؟ وهل من المدهش لرجل يختبر العالم بتلك الطريقة أن يشعر بالحاجة إلى عزل نفسه في غرفة مظلمة ليتجنب أن يستهلكه تجمّع الذكريات وإدراكه الحسي للأشياء؟
حالما بدأ راوي بورخيس في إدراك حالة فونس، تجلّت مفارقات حالة فونس في الصعوبات التي كان يواجهها في التعبير من خلال اللغة. وخير دليل على هذه الصعوبات هو الطريقة التي كان يتعامل فيها فونس مع الأرقام، فبدلاً من أن يراها كعناصر نظام عام، شعر فونس بالحاجة إلى خلق هوية فردية وإطلاق اسم معين لكل رقم، إلى أن تجاوز نظام التعداد الخاص به في الوقت الذي كان يتحدث فيه مع راوي بورخيس الأربعة وعشرين ألفًا.
كما كتب بورخيس: فبدلاً من سبعة آلاف وثلاثة عشر (7013)، صار يقول، مثلاً "مكسيمو بيريز"، وبدلاً من سبعة آلاف وأربعة عشر (7014)، صار يقول "سكة الحديد"؛ واختزل أرقامًا أخرى بعبارات مثل: "لويس ميليان لافينور"، "أوليمار"، "الكبريت"، النوادي"، "الحوت"، "الغاز"، "القِدْر"، "نابليون"، "أوغسطين دي فيديا". وبدلاً من خمسمائة (500)، صار يقول "تسعة"
بصرف النظر عن كونه مضحكًا، فإن فكرة استخدام فونس لأحد الأرقام للإشارة إلى رقم آخر تبرز التحدي الهائل الذي يواجهه في التعبير بسبب امتلاكه لقوته العظمى. لاحظ راوي بورخيس ذلك أيضًا، حيث أشار إلى أنه حاول إقناع فونس أن نظامه يقف على النقيض تمامًا من نظام الأرقام، ولكن بلا جدوى. يعجز فونس عن التعميم، أن يستخدم علامة واحدة للإشارة إلى أكثر من شيء واحد. إنه يعيش في عالم يسكنه مختلف الأفراد، ويتطلب نظامًا تمثيليًا يُقدّس تلك الفردية.
أراد فونس تلك اللغة التي افترضها بعض من الفلاسفة المعاصرين الأوائل مثل جون لوك، والتي تحدد مصطلحًا لكل كائن في الوجود. ولكن الراوي واصل في تكهنه قائلاً إذا كان لوك قد أعرض عن تلك اللغة كونها محددة للغاية إلى الحد الذي يجعلها عديمة الجدوى، فإن فونس سيرفضها باعتبارها عامّة جدًا بالنسبة له. ذلك لأن فونس يعجز عن القيام بالوظيفة الأساسية والكامنة وراء التفكير في كل شيء وتمكينه، ألا وهي التجريد. وبالتالي، فإن الطريقة التي يستخدم بها البشر الآخرون اللغة لا تُرضيه بالضرورة. يُخبرنا الراوي: ولم يكن يعسر عليه أن المصطلح الدال على النوع "كلب" يشمل جميع الأفراد المتباينة من جميع الأشكال والأحجام، بل كان يضايقه أن كلبًا في الساعة الثالثة وأربعة عشر دقيقة (منظورًا إليه جانبيًا) ينبغي أن يحمل اسم "الكلب" نفسه في الثالثة وخمسة عشر دقيقة (منظورًا إليه من الأمام). كان يُذهله رؤية كل من يديه ووجهه في المرآة، كلما رآهما.
إن لغة البشر عند فونس محدودة بسبب غموضها تحديدًا، بيد أنه خلف رغبته في الحصول على إدراك مثالي لكل الأشياء وقدرة مثالية على تذكرها، وهنا العبقرية الفلسفية لاستكشاف بورخيس، تقبع مفارقة.. يدفعنا فونس لتصديق أن كل انطباع يكونه عن العالم يكون محددًا للغاية إلى الدرجة التي تجعل استخدامنا كلمة "كلب" لوصف أحد الكلاب في شريحتين مختلفتين من الزمكان أمرًا غير دقيق؛ وأنه يندهش في كل مرة يرى فيها انعكاسه في المرآة.
لكن كل من دهشته وانزعاجه يكذّبان الادعاء الذي يحاول إثباته؛ ذلك لأنه ليتمكن فونس من الاندهاش من انعكاسه في المرآة، والانزعاج من عمومية استخدام كلمة "كلب"؛ عليه أن يكون قادرًا على تعميم التعبيرات المختلفة التي يصنعها وجهه في المرآة أو الكلب في الفترة بين 3:14 و3:15 مساءً. لأنه من المستحيل أن تكون منغمسًا كليًا في الحاضر، كما يدعي فونس، وأن تكون في نفس الوقت واعيًا بما يكفي لعمومية اللغة لتنتقدها، وهذا هو بيت القصيد من تأمّل بورخيس. يجمع فونس بين الشيء "تجربة عمومية اللغة التي تسمح له بتحديد جوانب مختلفة من الشيء"، ونقيضه "الانغماس الكلّي في الحاضر إلى الحد الذي يحول دون إدراك تلك العمومية".
في تلك الفترة نفسها، وفي ظل اندلاع الحرب من حوله، كان العالم هايزنبرج يكرس جهوده لإنتاج (أو عرقلة إنتاج، قد لا نعرف أبدًا على وجه اليقين) سلاحًا ذريًا لصالح ألمانيا، وفي الوقت نفسه، كان يعمل سرًا على كتابة عمل فلسفي. لم يُنشر كتابه "مخطوطة عام 1942" إلا بعد فترة طويلة من وفاته، ولم يُطلق عليه هذا الاسم في العام الذي نُشر فيه، بل في العام الذي انتهى فيه منه ووزعه على الأصدقاء المقربين. يبدو من الكتاب أن ما أثار اهتمام هايزنبرج حقًا خلال الوقت الذي كان من المفترض أن يعمل فيه في برنامج الأسلحة الألماني هو لغز علاقتنا بالواقع ومعرفتنا به، حيث اعتقد أن المسألة برمتها تدور حول اللغة.
بالنسبة لهايزنبرج، يحوّل العلم الواقع إلى أفكار، ويحتاج البشر بدورهم إلى اللغة حتى يفكروا. ومع ذلك، تعتمد اللغة على نفس القيود، التي وضحها هايزنبرج في كتابه من عشرينيات القرن الماضي، على معرفتنا بالطبيعة. يُمكن للغة أن تستهدف العالم بدرجة عالية من الموضوعية، حيث تُصبح مُحدِّدة بدقة ومفيدة للعلماء الذين يدرسون العالم الطبيعي. ولكن عندما تكون اللغة مُركزة للغاية ومصقولة بدقة، فإنها تفقد جانبها الأساسي الآخر، وهو الجانب الذي نحتاج إليه لنتمكن من التفكير. على وجه التحديد، تفقد كلماتنا قدرتها على حيازة معانِ تتغير اعتمادًا على سياقها.
يطلق هايزنبرج على النوع الأول من استخدام اللغة الاستخدام الثابت، وعلى الثاني الاستخدام الديناميكي. يستخدم البشر اللغة بطرائق متنوعة تمتد في نطاق واسع بين الاستخدام الثابت في الغالب أو الديناميكي في الغالب. من ناحية، يوجد علماء الفيزياء الذين يسعون جاهدين إلى اختيار المصطلحات التي يصفون بها إحدى الظواهر بدقة بالغة قدر الإمكان. ومن ناحية أخرى، يوجد الشعراء الذين يعتمد استخدامهم للغة على قدرتها على حيازة معانِ متعددة. في حين يستخدم العلماء الكلمات استخدامًا ثابتًا لتدوين الملاحظات تحت ظروف محددة للغاية، فإنهم يدفعون كلفة ذلك.
وكما كتب هايزنبرج: يتمثل ما نضحي به عند استخدام الوصف "الثابت" في الارتباط المعقد واللانهائي بين الكلمات والمفاهيم، والذي من دونه نفتقر تمامًا إلى الشعور بأننا فهمنا أي شيء عن الوفرة اللامتناهية للواقع. وبسبب هذه المفاضلة، فإنه بقدر ما يعتمد التفكير في العالم على تنسيق كل من الجوانب الثابتة والديناميكية للغة، "لا يمكن أبدًا الوصول إلى تصوّر كامل ودقيق للواقع".
يُمكننا أن نفهم من نظرية هايزنبرج الكيفية التي يستخدم فيها فونس جانبي اللغة بالتوازي، والمُشار إليها هنا بالصعوبات التي يواجهها في التعبير باللغة. مع هايزنبرج، يُصبح إبداع بورخيس الأدبي لشخصية فونس مثالاً مجازيًا على نحوٍ مثالي للقيود الداخلية على معرفتنا وفهمنا، حيث تحولت ذاكرة فونس وقدراته الإدراكية الاستثنائية إلى عائق أمام فهم التصورات والذكريات أو القدرة على التمييز بينهما. تخيّل فونس كعالم فيزياء في مختبره، يميز كل ملاحظة على أنها فريدة من نوعها، ولا علاقة لها بأي شيء آخر. تسمح له قدرته الاستثنائية في الإدراك على تذكر، على حد تعبير بورخيس، "ليس فقط كل ورقة على كل شجرة في كل غابة، بل كان يتذكر أيضًا كل مرة من المرات التي يفكر فيها بتلك الورقة أو يتخيلها". أعطه غرفة سحابية، ولن يميز فقط كل قطرة من قطرات التكثيف التي خلّفها إلكترون شارد، بل سيميز الجسيم نفسه؛ ولن يتوقف الأمر عند ذلك، بل سيميز كل لحظة في التسلسل اللانهائي للحظات التي تحدد مساره.
ولكن لا يمكنه فعل ذلك بالطبع. ذلك لأن طبيعة إدراك شيء ما - الجسيم في هذه الحالة - وهو يتغير بمرور الوقت تتطلب من المُدِرك أن ينسى، بشكل طفيف، الفرق الدقيق بين شريحتين مختلفتين في الزمكان. ومن دون هذا الإغفال الطفيف، فإن التربص لكل لحظة من الزمن لتسجيل التغيير متناهي الصغر الذي ستمر به في اللحظة التالية، سيجعل جُلّ ما سيختبره فونس عالم الفيزياء هو حاضر أزليّ، وسيحول دون إطلاق المصطلح الدال على النوع "كلب" على كلب تمت رؤيته في تمام الساعة 3:14 مساءً منظورًا إليه من الأمام، ومن دون التعرف عليه وملاحظته من الأساس.
على غرار بورخيس في سعيه لتخيل كيف يكون العالم لشخص يمتلك قدرة مثالية على الإدراك، توصل هايزنبرج إلى أن مراقبة موقع الجسيم وزخم حركته بدقة في نفس الوقت يتطلب تزامن حضور المراقب مع الجسيم في شريحة واحدة من الزمكان، وهو شرط يتعارض مع إمكانية مراقبة أي شيء على الإطلاق. لا يكون ذلك لأن عالم المواد الأساسية يتسم بالشبحية بعض الشيء، ولكن لأن طبيعة المراقبة ذاتها تتمثل في الجمع بين شريحتين مختلفتين على الأقل في الزمكان. كما قال الفيلسوف البروسي العظيم إيمانويل كانط قبل أكثر من 100 عام، فإن أي ملاحظة تتطلب تمييز "الوقت في تعاقب الانطباعات على بعضها البعض". تقوّض الملاحظة الحضور الكامل في اللحظة الآنية، وذلك لأنها تُقحم الزمان والمكان فيما تتم ملاحظته. فالجسيم الذي تتم ملاحظته في شريحة واحدة من الزمكان لا يكون قابلاً للإدراك بحكم طبيعته، وذلك لأنه، على حد تعبير كانط، "لا يُمكن لأي تمثيل وارد في لحظة واحدة أن يكون أي شيء آخر سوى وحدة مطلقة"، كشريحة بالغة الرقة من الزمكان، لا يسبقها ولا يليها شيء، مما يجعلها غير ملائمة لأن تكون شيئًا يمكن تمييزه أو إدراكه.
اعتقد كانط أنه من الضروري فهم هذا الحد الأساسي للمعرفة البشرية من أجل ضمان عدم وقوع العلم في الخطأ. ورأى هايزنبرج الضرورة في ذلك أيضًا. كما كتب في مخطوطته، عندما يكتشف العلم اكتشافًا جديدًا، فإن مجال صحة هذا الاكتشاف يبدو وكأنه يمتد إلى "ظلام لا يمكن اختراقه" من الأفكار المحدودة التي تتمكن اللغة من التعبير عنها في نطاق قدرتها. ويُحدد هذا الشعور اتجاه تفكيرنا، لكن يكمن جزء من جوهر التفكير في أن العلاقة المعقدة التي يسعى إلى استكشافها لا يمكن صياغتها في كلمات.
نحن بحاجة إلى أن نكون واعين للحاجز الذي يحيط بمعرفتنا، ولا يُشار هنا إلى حاجز في الكون، بل الذي نصنعه عندما نفرض تصورنا عن الواقع على حد استكشافاتنا المستقبلية الذي يأخذ في الانحسار على نحو دائم. ومرة أخرى، على حد تعبير هايزنبرج: إن قدرة البشر على الفهم لا حدود لها، ولكن لا يمكنهم صياغة الأشياء المطلقة في كلمات. أو بعبارة أخرى، فإننا نضع قيودًا على قدرتنا على الفهم من خلال افتراض أننا نتحدث عن أشياء مطلقة.
في نفس العام الذي أنهى فيه هايزنبرج مخطوطته ووزعها على دائرة صغيرة من الأصدقاء، ليتجنب تدقيق النظام الذي وصف نوع الفيزياء التي مارسها "بالعلم اليهودي" واستهدفه شخصيًا بوصفه "باليهودي الأبيض"، نشر بورخيس مقالًا فضوليًا في صحيفة La Nación. استعرض المقال ظاهريًا مساهمات جون ويلكنز، وهو فيلسوف طبيعي من القرن السابع عشر ومؤسس مشارك للجمعية الملكية، التي قدمها في البحث عن لغة لا تعاني من أوجه القصور والطفرات التي تصيب اللغات الطبيعية.
تأتي أشهر الجمل في المقال من فقراته الختامية، حيث يقارن بورخيس التكرارات والتناقضات التي يراها في لغة ويلكنز العقلانية بنظام التصنيف الذي يدعي أنه وجده في موسوعة صينية معينة بعنوان "Celestial Emporium of Benevolent Knowledge (السوق السماوي للمعارف الخيّرة)، حيث: تنقسم الحيوانات إلى: (أ) يملكها الإمبراطور، (ب) محنّطة، (ج) داجنة، (د) خنازير رضيعة، (هـ) جنّيات البحر، (و) خرافية، (ز) كلاب طليقة، (ح) ما يدخل في هذا التصنيف، (ط) تهيج كالمجانين، (ي) حيوانات لا تُحصى، (ك) مرسومة بريشة دقيقة من وبر الجمل، (ل) إلى آخره، (م) التي كسرت الجرّة لتوها، (ن) والتي تبدو من بعيد كالذباب.
بدأ ميشيل فوكو كتابه "نظام الأشياء" (1966) بمقدمة لا تُنسى ذكر فيه رد فعله عند قراءة قائمة بورخيس لأول مرة. ولكن بينما كانت ردة فعل فوكو الانبهار، والاندهاش بغرائبية نظام التصنيف المختلف تمامًا والاعتباطي والمتناقض هذا، هدفت موسوعة بورخيس الخيالية إلى وضع حد للثقة التي نميل إلى مشاركتها مع ويلكينز، والتي بُنيت عليها لغته العقلانية.
تواجه اللغة المصممة لتفسر كل شيء موجود مشكلات وصعوبات بسبب محاولتها تلك للوصول إلى الكمال، فالتواصل صعب لأن الكلمات في اللغات الطبيعية على حد تقييم فرديناند دي سوسور، تفتقر إلى نوازع أصيلة، وتقسِّم الكلمات المختلفة في اللغات المختلفة العالم بطرق مختلفة، ولكن اللغة العقلانية الحقّة ستتجنب هذا الإزعاج، وسنتخلص من تحديات الترجمة إلى الأبد. يهدف ويلكينز إلى إنشاء نظام تصنيف يكون على غرار نظام تصنيف لينايوس، ولكن يزيد في أنه يمكن تطبيقه على كل شيء يمكن التعبير عنه باللغة، حيث يصبح كل حرف في كل كلمة مهم وذا معنى، ويصقل تميزها. وشرح بورخيس ذلك قائلاً: على سبيل المثال، تعني "de" عنصر، وتعني "deb" أول العناصر، أي النار، بينما تُشير "deba" إلى جزء من عنصر النار، أي اللهيب.
ولكن بعيدًا عن قابلية التواصل العقلانية والمثالية، يتحول نظام ويلكينز إلى فوضى عارمة من التناقضات وحالات التكرار والحشو في الكلام. تبيّن أن اللغة المصممة لتفسر كل شيء موجود تواجه مشكلات وصعوبات بسبب محاولتها تلك للوصول إلى الكمال. لم يهدف ويلكينز إلى إنتاج عمل كوميدي، لكن قوائمه عبثية تمامًا مثل تلك الموجودة في السوق السماوي. ومع ذلك، لا يتعلق السبب وراء ذلك بأي شكل بالخيارات التي يتخذها ويلكينز، حيث يشير بورخيس إلى أن أي محاولة شبيهة ستفضي إلى نفس الفوضى العارمة بسرعة كبيرة. ويكمن السبب في ذلك في أن فكرة إنشاء نظام تمثيلي ذاتها، والتي تصنف الأشياء تصنيفات فردية؛ مثل نظام جون لوك الذي تخلّى عن فكرة إنشائه؛ ونظام التعداد المضحك الذي صممه فونس، تنقل فكرة خاطئة عن جوهر الواقع، حيث تصنفه وكأنه شيء خارجي ينقسم إلى أجزاء صغيرة تنتظر أن تتوافق أنظمتنا التمثيلية معها. ولكن، كما واصل بورخيس قائلاً: من الواضح أنه لا يوجد تصنيف للكون ليس اعتباطيًا أو تخمينيًا، والسبب في ذلك بسيط جدًا، وهو عدم معرفتنا ماهية الكون. واستأنف قائلاً، علاوة على ذلك: يجب أن نشك في أنه لا يوجد "كون" بالمعنى الأصيل الموحّد الكامن في تلك الكلمة الطموحة.
ومع ذلك، فإن "الكون" بهذا المعنى الأصيل الموحّد هو الأساس الذي قامت عليه الافتراضات المسبقة المتراكمة حول طبيعة المكان والزمان، واستقلال الواقع عن قياساتنا له، وقدرة العلم على معرفة ذلك الواقع وصولاً إلى جوهره الأعمق. لقد كان هذا الكون الكلاسيكي، حيث يكون للجسيم موقع وزخم محددان يمكن للعلم التقليدي قياسهما بدقة، هو ذاته الكون الذي هدمه هايزنبرج باكتشافه.
* الترجمة خاصة بـ Boring Books
** تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها