الكاتب (مو يان) قد حقق موازنة صعبة في هذه الرواية، فقد سرد الفظائع التي جرت، لكنه منح الضحية والجلاد صوتا للحكي على حد سواء
الضفادع: الحرب على الرغبة الإنسانية في إنجاب طفل
مقال إبتهال سلمان
مراجعة رواية «الضفادع» للروائي الصيني الحائز على جائزة نوبل للآداب مو يان، ترجمة ميراي يونس، عن دار المطبوعات للتوزيع والنشر، الصادرة في عام 2018.

إذا ما فكرت في مشهد إعلان قرب قدوم طفل، فغالبا ما يرتبط هذا المشهد بالبهجة والاحتفال. لكن هل يمكنك تخيل أن يكون ذات المشهد، سببا لإنهيار العالم فوق رأسي زوجين شابين ينتظران طفلا؟ خارج بيتهم تقف كتيبة نظامية مصحوبة بالجرارات ومهددة: ”إما أن تخرج المرأة الحامل لتخضع نفسها للإجهاض، أو يتم هدم دور جيرانها واحدا بعد الاخر، إلى أن تُهدم دارها أيضا، وتُجهض بلا مفر“. أي خطأ اقترفته المرأة، أو خلل مروع أصاب العالم، لتكون هذه حفلة استقبال طفل؟
يخرج هذا المشهد المرعب من عمق رواية الكاتب الصيني مو يان ”الضفادع“ التي جاءت بترجمة ممتازة من ميراي يونس وتروي شيئا من قصص تطبيق سياسة تنظيم النسل في الصين في السبعينيات التي عُرفت بسياسية الطفل الواحد واستمرت حتى العام 2015. يروي لنا الخبب الوئيد، أو (الشرغوف) كما يلقب نفسه، قصة عمته (وان القلب) قابلة التوليد البارعة، التي ُولد على يدها آلاف الأطفال، وكانت أيضا الرقيبة المتفانية في التأكد من تطبيق سياسة تنظيم النسل، وأُجهض على يدها آلاف من الأجنة. «يدا العمة ملطختان بنوعين من الدماء، أحدهما يعبق أريجًا، والآخر تنبعث منه رائحة نتنة». لكن هل تستطيع حكومة أو نظام إيقاف البشر عن التناسل؟ وهل تستطيع الجرافات قتل رغبة البشر الأصيلة في أن يكون لهم ذرية؟
واحدٌ ليس قليلًا
في السبعينيات، وإثر تضخم في عدد السكان، شنت الحكومة الصينية حملات تنظيم النسل، وأطلقت سياسة الطفل الواحد تحت شعار: «واحدٌ ليس قليلًا، اثنان كفاية، والثلاثة يفوقون المعدل بواحد». تخبرنا الرواية عن القوانين الصارمة التي فُرضت: يحق للضابط طفل واحد فقط، والفلاح إذا كان مولوده الأول بنتا، يحق له طفل ثان شرط أن ينتظر ثمان سنوات. على السيدات أن يضعن اللولب لتفادي الحمل، وعلى الرجال الخضوع لعملية قطع القناة الدافقة.
تستطيع الحكومة سن ما تشاء من قوانين، لكن هل تستطيع تطبيق هذه القوانين على شعب بمئات الملايين، وفي جغرافيا هائلة الاتساع؟ لعلها تنجح بفضل المنفذّين المخلصين المتفانين، ولو على حساب أنفسهم وأهلهم، كما هي العمة (وان القلب).
«التخطيط الأُسري قضية وطنية سامية. من دون ضبط التزايد السكاني لن يكفي الغذاء واللباس الجميع، لن يتحسن مستوى التعليم، وسيصعب رفع جودة رفاه السكان وجعل البلد غنيًّا وقويًّا. أنا، وان القلب، أعلن أن الموت فداء هذه القضية الوطنية يشرفني».
يروي الخبب الوئيد سيرة استبسال عمته في ملاحقة المخالفين، والتأكد من أن لا يرى طفل واحد زائد نور الحياة. العمة شخصية استثنائية. إنها أولا متفوقة في عملها كقابلة توليد نسائية. وهي مخلصة للحزب، حتى بعد أن تعرضت للحساب والعقاب، لم ينخفض ولاءها له. وهي مؤمنة بالكامل بقضيتها ومستعدة لفعل كل شيء لأجل تحقيق الهدف. كل شيء. «لو طلب الحزب من العمة تسلق جبلٍ من السكاكين، لفعلت، لو طُلِب منها الغوص في محيطٍ من نار، لما تراجعت». نراها تتعرض للضرب والاعتداء والشتم في سبيل تنفيذ القانون لكنها لا تتراجع، تجلب الجرافات لهدم المنازل لإجبار الحامل على تسليم نفسها للإجهاض، تلاحق الهاربين برا وفي الأنهار، تفتش عن المختبئين بلا هوادة، وتسحب نفسها من سرير المستشفى بينما جراحها لم تبرأ لتواصل مطارداتها المحمومة لمنع زيادة عدد السكان بخلاف القانون. وهي أيضا لا تحابي قريبا أو صديقا، وحتى عندما تعلق الأمر بزوجة ابن أخيها بالذات (الراوي)، لم تتردد في إجبارها على الإجهاض. يقول الناس أن العمة تتجاوز أقرانها في بقية المقاطعات في فرض سياسة تنظيم النسل، ”هذه سياسة عمتك المحلية. في إقليم جياو، ليسوا متشددين إلى هذا الحد“. وتفتخر العمة أنها استطاعت ضبط الأمور في مقاطعتها ”لثلاث سنوات متتالية لم تحدث حالة خرق واحدة للتخطيط الأسري“. إنها باختصار لا تبالي بشيء في سبيل تطبيق القانون، ولا حتى تلطيخ يديها بالدم.
«لا أخاف أن أُعَدّ منغّصةً للأفراح، ووجود أشخاص مثلي ضروري. وأعرف تمامًا تمنياتكم بأن أذهب إلى الجحيم بعد موتي. لكننا نحن الشيوعيين، لا نؤمن بكل ذلك، والقائل بالنظرة المادية الصرف لا يهاب شيئًا! حتى وإن كان الجحيم موجودًا، فذلك لا يخيفني! إن لم أذهب أنا إلى الجحيم، فمَن يفعل!».
ليست العمة شخصية شريرة بشكل فاضح كما قد تصفها بعض شخصيات الرواية، ولا في تقديرها الشخصي، حين تقدم دمها ذاته لمساعدة ضحاياها النازفين على النجاة. لكنها شخصية تضع العواطف جانبا، وتركز على أهداف مجردة. إنها تذكرني بوصف الشيطان في مسرحية فاوست للكاتب الألماني غوته ”أنا جزء من تلك القوة التي تريد الشر دائماً، لكنها تقترف الخير دائما“، مع اختلاف بسيط، أن ما تريده العمة هو الخير، لكنها تنتهي -بتقديري الشخصي- لارتكاب الشر، ومع ملاحظة أن ذلك الخلط بين المقاصد والنتائج غالبا ما يحدث حين يتم إعلاء الغاية فوق الوسيلة. التفكير في النماذج المتفانية مثل العمة، هو السبيل لإدراك كيف استطاعت الصين، بالنار والحديد، أن تتجنب ما يقارب 400 مليون ولادة منذ بدء تطبيق سياسة الطفل الواحد وحتى إلغاءها في العام 2015.
«كل ذلك أصبح من الماضي، والتاريخ لا ينظر إلّا في النتائج وقلَّما تهمّه الوسائل، كما هي الحال عند تأملنا سور الصين العظيم، وأهرام مصر، وغيرهما من الصروح المجيدة، قلَّما نرى على أقدامها ما زهق من أرواح».
مُنتهَكة وخارج النقاش
القصص التي يرويها الخبب الوئيد تحفل بالحزن والدم والموت. ففي الطرف المقابل لمطاردات العمة، نرى استماتة الإنسان للحصول على طفل، بالرغم من كل العقبات التي تضعها الدولة في طريقه. لا يعدم الإنسان حيلة. تخاطر الأم بحياتها لأجل محبة طفل. ولا تستسلم بسهولة، ليس دون صراع، لفكرة التخلي عنه. إنها قصص محزنة لأنها أيضا تخبرنا، لا عن الحيوات التي أبيدت قبل أن تكون فقط، بل أيضا عن كل تلك الطرق التي انتُهكت بها أجساد النساء. تُنتهك حين يوضع لولب في جسدها يحرمها القدرة على الإنجاب ولم تُستشر بشأنه. حين تعنّف بسبب حملها، وتُطارد، وتُجهض قسرا، مهما كان الحمل متقدما، ورغم ارتفاع الخطر على حياتها ذاتها، لأجل تطبيق النظام. لقد صار للنظام أهمية تفوق حياة البشر، لا الأجنة فقط، بل حتى الأمهات. وهذا يأتي في صميم واقع العيش تحت نظام شيوعي، حيث تعلو فكرة التضحية الفردية لأجل الأهداف المركزية، ويتحتم على الفرد أن يخضع لمصلحة الجماعة. "ليس لدى الإنسان حقوق فردية، بل واجبات تجاه المجتمع".
وليس النظام هو المنتهِك الوحيد، بل تُنتهك أجساد النساء من قبل الأزواج، الطامعين إلى الذرية، الباحثين عن الذكر، فيعرّض الواحد منهم امرأته، لكل تلك الأهوال في سبيل طفل ذكر. وحين بعد طول عناء يجيء الطفل أنثى، لا يحظى باهتمام الأب ورعايته.
«قال عمي، إنَّها قضية يتداولها الرجال في ما بينهم.
- ما تعني بقولك هذا؟ صرخت حماتي بصوت حاد، يدفعون ابنتي نحو أبواب الجحيم، وتقول لي إنها مسألة يحلّها الرجال!».
وهي تُنتهك أيضا، كما نرى في فصول الرواية الأخيرة، عبر تحويل أجساد النساء إلى حاضنات مؤقتة لإنجاب الأطفال وبيعهم للراغبين في الذرية بطرق سرية. عندما جعلت الدولة الإنجاب صعبا، واصل الناس تحايلهم على القوانين، لاسيما من يملك المال والنفوذ، للحصول على الطفل المنشود، ولو باستئجار أم بديلة وسرية. وحين صارت الغرامات المالية هي العقاب السائد، صار الإنجاب شيئا يخص الأغنياء.
صباح الخير أيها الضمير
طيلة ”نضال“ العمة لتطبيق قانون التخطيط الأسري، لا نرى أي أثر لتبكيت الضمير، ومهما ارتكبت العمة من أفعال فادحة، ومهما تسربت على يدها من أرواح. إلا أن شيئا تغير بعد ذلك. في الفصول الأخيرة من الرواية، تنتقل إلى ما بعد أكثر من عشرين عاما على بدء تطبيق سياسات تنظيم النسل.
في ليلة تقاعدها بالذات، عاشت العمة تجربة رهيبة ومُغيّرة. إذ تعرضت لمطاردة محمومة من آلاف الضفادع، يرتفع نقيقها ”وا وا وا“ مذكرا ببكاء الأطفال. شعرت العمة أن نقيق الضفادع يحمل ”ما يشبه الحقد، شعورا بالظلم“ أو ”صرخات اتهام من الأرواح المعذبة لمولودين جدد“. التصقت بها الضفادع وحاصرتها، ووجدت نفسها تركض إلى أن وجدت منقذها: هاو اليدين الكبيرتين. لا يمكنك القول بالضبط إن كان ما حدث للعمة هو هلوسات، أحلام، أم أنه واقع عاشته. لكن تلك التجربة قد تكون تعبيرا عن استيقاظ متأخر لضمير العمة، جعلها تتساءل عما فعلته، وتبحث عن كفارة. «حين أعجز عن النوم، أفكر، تكرّ أمامي لحظات حياتي، مذ أوَّل طفلٍ ولدته، وصولًا إلى الأخير، مشهدًا تلو مشهد، وكأنه فِلم. مبدئيًّا، لم أقصد الأذى طوال حياتي.. ولكن تلك الأفعال.. هل هي سيئة؟».
حين يعدمون السبل، يختار الناس الإيمان بالخرافات لأجل الحصول على طفل. في القرية، ثمة اعتقاد شائع أن من يشتري تمثال طفل شكَّله هاو اليدان الكبيرتان، ويعد له طقوس معينة، يمكنه في النهاية أن يحصل على طفل حقيقي. لكن هاو اليدان الكبيرتان لا يمنح الأفراد حرية اختيار الطفل، بالضبط كما هو في الواقع، عليهم أن يقبلوا بأي شيء يجيء به القدر، أو تمتد به يدا هاو من تحت غطاء التماثيل. ومن الغريب أن هذا المعتقد الذي يجذب الطامعين في الذرية، أيضا هو الفكرة التي تعلقت بها العمة، لاستعادة الأطفال المُجهضين.
عبر يدي هاو اليدين الكبيرتين، الفنان الذي تزوجته، وجدت وسيلتها للتكفير. إنها تملي عليه مواصفات الطفل، اسمه وصفات والديه، وهو يصنعه بيديه من الصلصال. طفلا بعد الآخر، صنعا معا تمثالا لكل واحد من الألفين وثمانمائة طفل الذين أجهضتهم العمة. تتخيل العمة مستقبلا بديلا لكل واحد منهم، تتصوره فيه يولد من جديد، بطريقة مختلفة عن التي أبيد بها.
قد يبدو فعل العمة تعبيرا صامتا عن تبكيت الضمير، لكن ابن أخيها الراوي (الخبب الوئيد) لن يدينها بشيء، حتى وإن كان له نصيبه من الخسارات. إنه يصرّ بحزم أن ما فعلته كان ضروريا لتحصل الصين على الرخاء الذي صارت إليه، وأن المسؤولية تقع على من خالفوا القانون. يبدو لي أن الكاتب (مو يان) قد حقق موازنة صعبة في هذه الرواية، فقد سرد الفظائع التي جرت، لكنه منح الضحية والجلاد صوتا للحكي على حد سواء، وجعل الجميع متورطين في المسألة كل بطريقته ودوره، وأبقى على السؤال الثقيل حاضرا: «لو لم يتم ذلك، فكيف كانت ستبدو حال الصين اليوم، يصعب الجزم».
وا وا وا: مسرحية داخل الرواية
تجيء الرواية في صيغة رسائل يكتبها (الخبب الوئيد/ الشرغوف) ليسرد سيرة عمته قابلة التوليد. وهي رسائل ممتدة عبر سنوات طويلة، متقطعة. أما الفصل الأخير من الرواية فهو مسرحية كتبها الشرغوف من تسعة فصول، تتحدث أيضا عن العمة. لقد كان السؤال الذي طرأ بذهني، لماذا تعيد سرد القصة ذاتها مرتين؟ ثم أدركت ما يفعله الكاتب الشرغوف في المسرحية، إنه يضيف رؤيته الخاصة على ما حدث، ويمنح الشخصيات فرصة لقول ما لم تقله في الحياة الواقعية التي سردها في الفصول السابقة. فقط في المسرحية سنسمع العمة تتحدث صراحة عن شكها في صحة ما فعلته، أو خوفها من أشباح الأطفال التي تلاحقها. في المسرحية نسمع صوت المرأة التي استُغل جسدها وحُرمت من طفلها، ويتحدث بصراحة عن الواقع الذي انتهت إليه سياسة الطفل الواحد، لم تعد القابِلة هي المجرمة الوحيدة في تحدي امتلاك طفل.
ليس عنوان الرواية في الترجمة العربية (الضفادع) ذا جاذبية، ولا غلافها الأخضر، ولا ينبئان بشيء عن موضوعها. لكن العنوان في لغته الأصلية الصينية (وا) يتلاعب بالتشابه على المستوى الصوتي بين كلمتي ضفدع وصوت بكاء الطفل. ويصبح هذا التمثيل أوضح في مشهد ملاحقة الضفادع للعمة، ونقيقها الذي يشبه بكاء طفل. يشبه الشرغوف، طفل الضفدع، شكل المني الذكري، ويمكن مشابهة شكل الجنين في شهره الثالث بشكل الضفدعيات أثناء تحوُّلها. بسبب هذه التشابهات قد نفهم ذعر العمة من الضفادع، وشعورها القوي بتمثل الأجنة التي أجهضتها في ملاحقة الضفادع لها. وتحفل الرواية برمزيات وإشارات أخرى إلى الضفادع، فالراوي يتخذ من (الشرغوف) اسما مستعارا ككاتب، وهو يدير مجلة أدبية تحمل اسم (غناء الضفادع)، أما المصنع الذي تدار منه عمليات الإنجاب السرية، فيحمل في العلن عنوان مصنع لتربية الضفادع.
هذه رواية مميزة في تعدد جوانب طرحها لقضية شائكة، من جوانب إنسانية، وعبر عقود من الزمن متابعة التحولات التي حلت بمصائر وطرق تفكير الشخصيات، وذلك الرقص الذي لا ينتهي بين قيود السلطة، والرغبة البشرية الأصيلة في إنجاب الأطفال.
* المقال خاص بـ Boring Books
** تحتفظ كاتبة المقال بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالها دون إذن منها