في الواقع أنه لم يكن يتأمل المارة في الطرقات لكي يتعرف على الحياة. بل على العكس كان يحاول التعرف على الحياة داخل الكتب لكي يتأمل المارة في الطرقات. وربما كانت تلك الخطة طريقًا غير مباشرة لمعرفة الحياة.

قصة حياة شينسكيه دايدوجي

-لوحات نفسية لمناظر طبيعية-

قصة ريونوسكيه أكوتاجاوا

ترجمة ميسرة عفيفي

نُشرت هذه القصة للمرة الأولى في مجلة "الرأي العام المركزي" بتاريخ 1 يناير 1925 ثم نُشرت في كتاب من دار إيوانامي للنشر لأول مرة في يناير من عام 1930 بعد رحيل المؤلف (المترجم).


ريونوسكيه أكوتاجاوا، عن iztok-zapad

    1- هونجو

    وُلد شينسكيه دايدوجي بجوار معبد إكوين في حي هونجو. ولكنه لا يتذكر أي موضع جمال في حيّه هذا، ما من بيت جميل واحد. خاصة وأن الدور المجاورة، إحداها لنجار يصنع من الخشب مخازن أرضية، والثاني محل حلويات تقليدية، والثالث محل آخر لبيع الأدوات التقليدية العتيقة. وكانت تلك البيوت تطل على طريق يمتلئ دائمًا بالوحل. ثم في نهاية ذلك الطريق قناة أوتاكيجورا للصرف الصحي. ومن القناة تفوح رائحة عفنة وتطفو على سطحها طحالب شديدة السواد. بالتأكيد كان شينسكيه يشعر بالكآبة من تلك المناظر. ولكنه كان يكره الأحياء الأخرى أكثر من حي هونجو. كان يكره أحياء طوكيو الراقية ذات البيوت السكنية الكثيرة، بل حتى الأحياء الشعبية المتواصلة من عصر إيدو التي تصطف فيها المحلات الصغيرة الجميلة كانت تجعل صدره يضيق ضيقًا شديدًا. أحب شينسكيه على العكس حي هونجو الكئيب أكثر من حي هونجوو وحي نيهونباشي، أحب معبد إكوين، وجسر كوماتوميه، وحي يوكوامي، وحي واريجيسوي، ومنطقة هانوكيبابا وقناة أوتاكيجورا. ربما كان ذلك شيئًا أقرب إلى الشفقة منه إلى الحب. ولكن حتى وإن كانت شفقة، فبعد مرور ثلاثين عامًا، لا يرى شينسكيه في أحلامه حاليًا إلا هذه المناظر...

    ظل شينسكيه يحب مناظر حي هونجو منذ أن وعى على الحياة. كان حيًّا خاليًا من الأشجار ويمتلئ هواؤه دائمًا بالأتربة والغبار. ومع ذلك كان حي هونجو بالذات هو الذي علَّم الطفل شينسكيه جمال الطبيعة. تربى شينسكيه وهو يأكل الحلويات التقليدية في الشوارع المكتظة بالمارة. وطفل تربى بهذه الطريقة، لم يهتم مطلقًا بالريف، خاصة ريف أحواض الأرز المستصلح شرقي حي هونجو. لا يتمتع ذلك الريف بجمال الطبيعة بل على العكس كان قبح الطبيعة فيه يُصدم شينسكيه. حتى لو كانت مناظر حي هونجو تفتقر إلى الطبيعة إلا أنها أظهرت له في أعشاب الأسطح المزهرة وفي غيوم الربيع التي تنعكس على سطح البرك، جمالًا عذبًا جذابًا نوعًا ما. بدأ حب شينسكيه للطبيعة بسبب تلك المناظر. ومع ذلك لم تقتصر المناظر التي فتحت عينيه على جمال الطبيعة على حي هونجو فقط. بل الكتب كذلك… بالتأكيد زادت من تثقيفه كتب مثل كتاب "الحياة والطبيعة" للأديب الياباني روكا توكوتومي، الذي أعاد قراءته مرات عديدة وهو في المدرسة الابتدائية، وكذلك ترجمة كتاب جون لابوك "جمال الطبيعة". ولكن لا شك أن مناظر حي هونجو كان لها أكبر الأثر في نظرته تجاه الطبيعة. كان حي هونجو مزريًا لدرجة عجيبة؛ البيوت والأشجار والطرقات كلها مزرية.

    في الواقع أعطى حي هونجو المزري هذا أكبر الأثر لنظرته إلى الطبيعة. وسافر شينسكيه بعد ذلك بسنوات في رحلات قصيرة من حين لآخر إلى العديد من المدن في جزيرة هونشو اليابانية. ولكن كانت الطبيعة الفظة القاسية في إقليم كيسو تثير قلقه واضطرابه دائمًا. وأيضًا كانت طبيعة بحر سيتوؤتشي الحانية تثير ملله دائمًا. وبديلًا عن تلك المناظر الطبيعية كان يحب بدرجة أكبر بكثير مناظر الطبيعة المزرية. وبصفة خاصة كان يحب الطبيعة التي تعاني من صعوبة التنفس داخل الحضارة المصطنعة. ما زال جمال الطبيعة هذا متبقيًّا في كل مكان… في شجر صفصاف قناة الصرف في حي هونجو قبل ثلاثين عامًا، وفناء معبد كايكوين البوذي، وغابة أوتاكيجورا البرية الموحشة. لم يذهب شينسكيه مثل أصدقائه إلى مدن نيكّو وكاماكورا. ولكنه كان يتنزه في المنطقة المحيطة ببيته صباح كل يوم مع والده. ومن المؤكد أن ذلك كان يسبب لشينسكيه سعادة لا حدود لها في ذلك الوقت. ولكنها كانت أيضًا سعادة يخجل نوعًا ما من أن يذكرها بفخر أمام أصدقائه.

    وفي أحد الأيام ذهب مع والده إلى منطقة هيابونجوي[1] للتنزه كالمعتاد في وقت من صباح كادت أن تختفي فيه حمرة الفجر. كانت منطقة هيابونجوي مكان يكثر فيه هواة الصيد بصفة خاصة على ضفاف نهر أوكاوا. ولكن في ذلك الصباح مهما أدار بصره من حوله لم يعثر على صياد واحد. حشرات بلاط البحر فقط تتحرك بين السور الحجري في ضفة النهر الفسيحة. كاد يسأل والده عن سبب انعدام الصيادين في ذلك اليوم بالذات. ولكنه اكتشف السبب على الفور، قبل أن يلفظ فمه بالسؤال. فقد رأى جثة برأس حليق، تطفو وسط أمواج النهر التي تتحرك تحت شفق الصباح، بين أعشاب الماء ذات الرائحة الكريهة والنفايات التي تشابكت في الأوتاد المغروسة كأسافين في النهر… يتذكر شينسكيه صباح منطقة هيابونجوي حتى الآن بوضوح تام. تركت مناظر حي هونجو منذ ثلاثين عامًا في قلبه الحساس ذكرى لوحات لمناظر طبيعية لا حصر لها. ولكن بصفة خاصة منطقة هيابونجوي في ذلك الصباح... كانت هي تلك اللوحة الوحيدة، وفي نفس الوقت كانت هي كل الظلال النفسية التي تلقيها مناطق حي هونجو.

    2- حليب البقر

    لم يرضع شينسكيه ثدي أمه بتاتًا. فأمه –ضعيفة البنية من الأصل– بعد أن ولدته كبذرة صغيرة لم ترضعه ثديها ولو يمتص قطرة واحدة من لبنها. ليس ذلك فحسب بل لم تستطع أسرته الفقيرة أن تجلب له مرضعة وتتكفل بمعاشها. ولهذا السبب فقد تربى منذ ولادته على حليب البقر. وقتها حقد شينسكيه بشدة على قدره هذا. كان يحتقر زجاجات الحليب التي تأتي كل صباح إلى المطبخ. وكان كذلك يحسد أصدقاءه الذين يعرفون مذاق لبن الأم حتى وإن كانوا لا يعرفون شيئًا آخر غيره. وفي الواقع عندما التحق بالمدرسة الابتدائية، بدأت خالته صغيرة السن تعاني من آلام ثدييها بسبب تكون اللبن كلما جاءت لزيارتهم في أعياد رأس السنة أو غيرها من الأعياد. ولكنها مهما عصرت ثدييها في كوب الغرغرة النحاسي لم يخرج منهما أي قطرة. ذات مرة عقدت خالته حاجبيها وقالت ساخرة: "لأجعل شين تشان يمتصه من صدري"، ولكن بالطبع لم يكن يعرف وهو الذي تربى على حليب البقر كيفية الرضاعة. وأخيرًا جعلت الخالة ابنة الجيران –ابنة روزو النجار– تمتص اللبن من ثديها المتصلب. كان العروق الزرقاء ظاهرة من فوق الثدي الذي نهد في شكل نصف كروي. حتى لو استطاع شينسكيه الخجول الرضاعة، فلا شك أنه لم يكن ليستطيع مطلقًا أن يرضع ثدي خالته بأي حال. ورغم ذلك شعر بالحقد تجاه ابنة الجيران. وفي نفس الوقت شعر بالغضب تجاه خالته التي جعلت ابنة الجيران ترضع ثديها. لم يترك هذا الحادث التافه في ذاكرته إلا شعورًا ثقيلًا بالغيرة فقط. ولكن، بخلاف الغيرة ربما قد بدأت بالفعل منذ ذلك الوقت "حياته الجنسية[2]"...

    كان شينسكيه يخجل من عدم معرفة لبن الأم باستثناء حليب البقر المعبأة في زجاجات. وكان ذلك سره. سر حياته الذي لم يكن ليبوح به إلى أي إنسان مهما كان. وكذلك كان هذا السر يتزامن وقتها مع إحدى الخرافات الشعبية. كان شينسكيه كبير الرأس فقط وهزيل الجسم لدرجة مريعة. ليس هذا فقط بل علاوة على خجله الشديد كان فتى يرتفع نبضه لمجرد رؤية سكين القصاب المصقول. وفي هذه النقطة –بصفة خاصة هذه النقطة– لا شك أنه لم يكن بأي حال يشبه والده الذي كان في العادة مصدر فخره بشجاعته، أنه اخترق النيران في معركة توبا – فوشيمي. تُرى متى، ومن أي نظرية تيقن من أن الحليب البقري هو سبب عدم شبهه بوالده. كلا، بل تيقن أن الحليب البقري هو سبب هزاله البدني؟ لو كان الحليب البقري هو السبب، فلا شك أنه لو أظهر أي مظهر بسيط من مظاهر الضعف أمام أصدقائه ستكون النهاية، وسيتمكن الأصدقاء من معرفة سر حياته. ولهذا السبب كان يستجيب لتحدي أصدقائه في أي وقت وأي مكان. وبالطبع لم يكن تحديًّا واحدًا. كان التحدي أحيانًا هو القفز من قناة الصرف الكبرى عند أوتاكيجورا دون استخدام عصا الزانة. وفي أحيان أخرى هو تسلق شجرة الجنكو الكبرى في معبد إكوين دون استخدام سلم. وفي وقت آخر هو مباراة ملاكمة مع أحد هؤلاء الأصدقاء. وقف شينسكيه أمام قناة الصرف الكبرى فشعر برعشة في ركبتيه. ولكنه بذل كل جهده في أن يقفز متخطيًا قناة الصرف الكبرى التي يطفو فوق سطح مياهها طحالب نانكينج وهو يغمض عينيه بصرامة. اجتاحته مشاعر الرعب والتردد نفسها التي شعر بها كما هو متوقع في أثناء تسلقه شجرة الجنكو الكبرى، وكذلك في أثناء الملاكمة مع أحد الأصدقاء. ولكنه في كل مرة كان يتغلب عليها بشجاعة. من المؤكد أن ذلك كله كان تدريبات على طريقة إسبرطة حتى وإن كان مصدره الخرافة. تركت تدريبات إسبرطة تلك آثار جروح في ركبته اليمنى لن تزول طوال عمره. وعلى الأرجح في شخصيته كذلك – يتذكر شينسكيه حتى الآن شكوى والده منه وقد دفع جذعه للأمام في حالة من التأهب: "من المؤسف أن تكون عنيدًا في كل ما تفعله رغم أنك ضعيف العزيمة".

    ولكن من حسن حظه أن تلك الخرافة اختفت تدريجيًّا. ليس هذا فقط، بل اكتشف في تاريخ الغرب على الأقل ما يقترب من الدليل الذي يدحض تلك الخرافة. فقرة تقول إن أنثى ذئب هي من أرضع روميوس مؤسس روما. ومن حينها بات لا يأبه مطلقًا لعدم معرفته مذاق لبن الأم. كلا بل على العكس كان يفخر بأن تربى على الحليب البقري. يتذكر شينسكيه أنه ذهب في الربيع الذي التحق فيه بالمدرسة المتوسطة مع خاله إلى مزرعة الأبقار التي كان يمتلكها خاله وقتها. ويتذكر بصفة خاصة إعطاءه العشب الجاف لبقرة بيضاء اقتربت من أمامه بعد جهد جهيد وقد ارتفع فوق السياج فتزحزح زي المدرسة الموحد حتى وصل إلى صدره. دفعت البقرة بأنفها بهدوء تجاه العشب الجاف وعيناها تحملقان في وجهه. عندما تأمل وجه تلك البقرة شعر في مقلتيها فجأة بشيء قريب من البشر. هل هذا خيال؟… ربما كان ذلك خيالًا. ولكن ما زالت في ذاكرته حتى الآن بقرة بيضاء تنظر إليه تحت سياج أغصان شجرة جنكو متفتحة الزهور. تنظر إليه بإمعان وحنين...

    3- الفقر

    كانت أسرة شينسكيه فقيرة. في الأصل لم يكن فقرهم هو فقر الطبقات الدنيا التي تقيم بازدحام في بيوت الناجايا لا يفصل بين أسرة وأخرى سوى لوح خشبي فقط. ولكنه فقر الطبقة المتوسطة السفلى التي تعاني من أجل أن تظهر بمظهر لائق. فأبوه الذي كان موظفًا حكوميًّا متقاعدًا، كان يجب عليه أن يسد رمق خمسة أفراد، بالإضافة إلى الخادمة، من خلال مرتب تقاعد يبلغ خمسمئة ينٍ في العام، إذا استثنينا عوائد مدخراته القليلة. من أجل ذلك كان يجب عليه بالطبع ترشيد النفقات أولًا وأخيرًا. كانوا يعيشون في بيت مستقل من خمس حجرات بالإضافة إلى المدخل، بل وكان بيتًا له حديقة صغيرة وبوابة مهيبة. ولكن لم يكن أي منهم يستطيع طلب كيمونو جديدًا من الحائك. وكان والده يكتفي في المعتاد بشرب خمر رديء لا يستطيع تقديمه للضيوف. وكانت والدته تُخفي حزام الكيمونو المهترئ تحت معطفها. وشينسكيه كذلك، ما زال يتذكر حتى الآن مكتبه برائحة الورنيش الكريهة. اشترى والده له ذلك المكتب المستعمل، ولكن القماش الأخضر السميك الذي فُرش فوقه ومقابض الأدراج الفضية اللامعة جعلته يبدو أنيقًا ومرتبًا. ولكن في الواقع لم يكن القماش سميكًا، ولم يحدث أن فُتحت أدراجه من أول مرة بسهولة. لم يكن ذلك مجرد مكتب له بل كان رمزًا لأسرته، رمزًا لأسرته التي كان يجب عليها أن تظهر بالمظهر اللائق على الدوام...

    حقد شينسكيه على فقره هذا. كلا، بل يظل حتى الآن متبقيًا صدى يصعب محوه في أعمق قاع من قلبه لحقده وقتها. لم يكن يستطيع شراء الكتب. ولم يكن يستطيع الذهاب إلى معسكرات المدرسة الصيفية. ولم يكن يستطيع اقتناء معطف جديد. ولكن كان أصدقاؤه جميعًا يستطيعون. فكان يغبطهم. بل لدرجة أنه كان يحسدهم في بعض الأحيان. ولكن لم يستجب لأمر الاعتراف الذاتي بتلك الغبطة وذلك الحسد. والسبب في ذلك أنه كان يحتقر قدراتهم ومواهبهم. ولكن لم تتغير مشاعر حقده تجاه الفقر ولو قليلًا. كان يحقد على كل مظاهر الفاقة في بيت أسرته… حصير التاتامي الذي بلي من القدم، والمصباح المعتم، وورق الحائط المتهرئ. ولكن ما زال هذا في حدود المعقول. الطامة أنه كره والديه بسبب هذا الفقر فقط. كره بصفة خاصة والده الأصلع القصير. كان والده يحضر أحيانًا اجتماع أولياء الأمور في المدرسة. كان شينسكيه يخجل من رؤية والده هذا أمام أصدقائه. وفي نفس الوقت كان يخجل من حقارة نفسه تلك التي تخجل من والده. ولذا ترك شينسكيه السطر التالي في صفحة من الورق الأصفر المسطر لرواية "يوميات السخرية من الذات" التي اتخذ شينسكيه من عمل دوبُّو كونيكيدا نموذجًا لها...

    "أنا لا أستطيع أن أحب والديَّ. كلا، ليس بمعنى أنني غير قادر على الحب. أحب والديَّ ولكنني لا أستطيع أن أحب مظهرهما الخارجي. من العار على الإنسان العاقل أن يفضل الناس بناء على أشكالهم. فما بالك بمن يعترض على مظهر والديه! ورغم ذلك فإنني لا أستطيع أن أحب مظهر والديّ الخارجي مهما حاولت"...

    ولكن ما كان يكرهه أكثر من هذا المظهر البائس هو الكذب الناتج عن الفقر. كانت والدته تقدم هدايا لأقربائه من كعكة الكستيلا ملفوفة في ورق حلوى متجر "فوجيتسودو" الشهير. ولكن كان المحتوى، كستيلا اشترتها من محل الحلويات المجاور لبيتنا وليس بالطبع من متجر فوجيتسودو. مهما علَّمه والده "احترام العمل والشجاعة" بدرجة جديرة بالتصديق، إلا أنه كان مثل والدته. قال له والده: إن مجرد شراء معجم صيني – ياباني بخلاف معجم يوبيان الصيني العتيق يُعدُّ "رفاهية وغرق في المتعة الأدبية"! ليس هذا فقط، بل أن شينسكيه ذاته لم يكن أقل من والديه في اختلاق الكذب فوق الكذب. وكان ذلك من أجل أن يحصل ولو على سن واحد زيادة على مصروفه الشهري الذي يبلغ خمسين سنًا لشراء الكتب والمجلات التي يتوق إليها شغفًا أكثر من أي شيء آخر. كان يحاول سرقة النقود من والديه باختلاق العديد والعديد من الحجج التي تناسب كل موقف على حدة… فيدعي أن الباقي وقع منه في الطريق، أو أنه اشترى كراسة للمدرسة، أو أنه دفع اشتراك نادي الطلبة إلخ. ورغم ذلك عندما كانت النقود لا تكفي، كان يحاول استدرار عطف والديه بمهارة لكي يعطوه مصروف الشهر القادم قبل موعده. وبصفة خاصة كان يحاول أن يتملق والدته العجوز التي تتساهل معه. وبالطبع كان يشعر بالحنق تجاه كذبه الشخصي كما كان يشعر به تجاه كذب والديه. ومع ذلك كان يواصل الكذب. يواصل الكذب بجراءة متناهية وبدهاء شديد. ولا شك أن الكذب كان ضرورة تسبق أي اعتبار آخر. وفي نفس الوقت لاحظ أن الكذب كان يعطي له متعة مرضية تشبه إلى حد ما متعة قتل الإله. ومن المؤكد أن شينسكيه قد اقترب في هذه النقطة فقط من الشباب المشاغبين. في الصفحة الأخيرة من كتابه "يوميات السخرية من الذات" ترك السطور التالية:

    "يستطيع دوبّو أن يقول إنه يحب الحب. أمَّا أنا فأقول إنني لا أكره الكراهية. لا أكره الكراهية بكافة أنواعها؛ كراهية الفقر، وكراهية الكذب والخداع… إلخ".

    كانت تلك هي مشاعر شينسكيه الحقيقية. وفي نهاية المطاف كره شينسكيه حتى كراهيته للفقر ذاتها. لطالما عذبته مثل هذه الكراهية مزدوجة الطبقات حتى سن العشرين. من الطبيعي ألا تنعدم تمامًا بعض لحظات السعادة البسيطة. في كل اختبار يجتازه كان يحصل على المركز الثالث أو الرابع. وكذلك أظهر له أحد الفتيان الحسان من الصفوف الأصغر حبه دون أن يطلب منه ذلك. ولكن كان ذلك بالنسبة لشينسكيه أشعة ضوء خافتة تتسرب من بين غيوم كثيفة في سماء حياته. فلقد سيطرت مشاعر الكراهية على أي مشاعر أخرى داخل قلبه. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل في نهاية المطاف تركت الكراهية داخل قلبه آثارًا لا تنمحي مع الزمن. حتى بعد أن تخلص من الفقر، لم يستطع إلا أن يواصل كراهية الفقر. وفي نفس الوقت، لم يستطع إلا أن يكره الرفاهية أيضًا. فكره الرفاهية كذلك، إن كراهية الرفاهية تلك هي وصم يتركه الفقر على الطبقات الدنيا من الطبقة الاجتماعية الوسطى. واليوم أيضًا يشعر شينسكيه بهذه الكراهية داخله. يشعر بالرعب الأخلاقي للبرجوازية الصغيرة التي يتحتم عليها الصراع ضد هذا الفقر...

    في خريف عام تخرجه من الجامعة، زار شينسكيه صديقًا يدرس القانون. كانا يتحدثان في غرفة مساحتها ثمان حصيرات من التاتامي جدرانها بالية وورق حيطانها رث. فأطل عجوز في حوالي الستين من العمر بوجهه لتحيتهما. رأى شينسكيه بفراسته في وجه ذلك العجوز، وجه موظف حكومي عجوز، تقاعد عن العمل وأدمن الكحول.

    - إنه أبي.

    قدم صديقه له ذلك العجوز بهذا التعريف البسيط. وعلى العكس تجاهل العجوز باستعلاء ما قاله شينسكيه لتحيته، ثم قبل أن ينسحب للداخل قال:

    - تفضل بالاسترخاء في ذلك المقعد.

    كان هناك مقعدان بمساند للمرفق متجاوران في الجانب المظلم من الغرفة المطل على حديقة البيت. ولكنهما كانا مقعدين قديمين بخصرين مرتفعين مر عليهما نصف قرن وقد بهتت ألوان وسادتهما الحمراوين. شعر شينسكيه في الكرسيين بالطبقات الدنيا من الطبقة الوسطى جميعها. وشعر في نفس الوقت كذلك، أن صديقه مثله تمامًا يخجل من والده. تبقَّى مثل هذا الحدث البسيط محفورًا في ذاكرته بوضوح شديدة لدرجة مؤلمة. ربما كانت الأفكار التي اعتنقها فيما بعد قد ألقت بظلالها على تلك الأحداث وأعطت لها زخمًا. ولكنه كان ابن موظف حكومي متقاعد قبل أن يكون أي شيء آخر. إنسان أولده فقر الطبقات الدنيا من الطبقة الوسطى التي يتحتم عليها أن تتهاون مع الكذب والخداع أكثر من تهاونها مع فقر الطبقات الدنيا.

    4- المدرسة

    لم تترك المدرسة في ذاكرة شينسكيه إلا ذكريات كئيبة. إذا استثنينا في دراسته الجامعية محاضرتين أو ثلاث محاضرات حضرها دون أن يدون شيئًا في كراسته، لم يحدث أن شعر بالاهتمام ولو مرة واحدة تجاه أي درس حضره في كل المراحل الدراسية التي درسها. ولكن، كان انتقاله بين المدارس؛ من المدرسة المتوسطة إلى المدرسة الثانوية ومن المدرسة الثانوية إلى الجامعة طوق نجاة له من الفقر ولو بدرجة قليلة. في الأصل لم يكن شينسكيه يعترف بتلك الحقيقة أثناء دراسته في المدرسة المتوسطة. أو على الأقل لم يعترف بها بوضوح. ولكن منذ تخرجه من المدرسة الابتدائية بدأ رعب الفقر يسيطر على قلبه مثل السماء الغائمة. لقد خطط مرات عديدة لترك الدراسة عندما كان في المدرسة الثانوية والجامعة. ولكن كان الرعب من الفقر يُظهر له في كل مرة مستقبلًا مظلمًا إلى حد ما، ويحول بعشوائية بينه وبين تنفيذ خططه تلك. وبالطبع كره شينسكيه المدرسة. وبصفة خاصة كره المدرسة المتوسطة كثيرة القيود. كم كان صوت البوق الذي يطلقه حارس البوابة يبلغه بأصداء معبرة عن عدم الإحساس. وكم كانت أشجار الحور في فناء المدرسة تنبت بلون كئيب. تعلَّم شينسكيه هناك العديد من المعلومات الصغيرة التي لا جدوى منها، مثل التاريخ الغربي، ومعادلات كيميائية بلا تجارب، وعدد سكان المدن الأوروبية والأمريكية. ولم يكن ذلك بالضرورة عملًا شاقًا بالنسبة له لو بذل له القليل من الجهد. ولكن كان من الصعب عليه أن ينسى حقيقة أنها معارف تافهة لا ضرورة لها. يحكي دوستويفسكي في رواية "بيت الموتى" عن انتحار سجين يجبر على عمل بلا فائدة، وهو أن يفرغ مياه دلو في دلو آخر ثم بإعادة المياه من ذلك الدلو إلى الدلو الأول بلا نهاية. عانى شينسكيه نفس هذه المعاناة النفسية التي عاناها ذلك السجين داخل مباني المدرسة ذات اللون الفئراني ثم داخل اهتزاز أشجار الحور فارعة الطول. ليس هذا فحسب...

    ليس هذا فحسب، بل كان أكثر من كره من مدرسيه هم مدرسيه في المدرسة المتوسطة. لا شك أن المدرسين شخصيًّا لم يكونوا جميعًا من الأشرار. ولكن "المسؤولية التعليمية" وبصفة خاصة الحق في معاقبة التلاميذ تلقائيًّا جعلهم جميعًا طغاة. لم يترددوا في اختيار أي وسيلة كانت لدمغ قلوب التلاميذ بتحيزاتهم هم أنفسهم. وعلى أرض الواقع أحدهم، وهو مدرس اللغة الإنجليزية اسم الشهرة له بين التلاميذ كان "داروما" كان يعاقب شينسكيه بدنيًّا مرات عديدة قائلًا له "لأنك وقح". ولكن، في النهاية لم يكن سبب تلك "الوقاحة" شيئًا آخر إلا أنه يقرأ أعمال دوبّو وكاتاي. وكذلك كان أحدهم… وهو مدرس اللغة اليابانية والأدب الصيني عينه اليسرى كانت عينًا صناعية. لم يُسر ذلك المدرس من عدم اهتمام شينسكيه بالمنافسات الرياضية وفنون الساموراي. ومن أجل ذلك كان يسخر منه كثيرًا بقوله له وهو يضحك: "هل أنت أنثى؟" وفي إحدى المرات أجاب شينسكيه على سؤاله في لحظة غضب بسؤال: "وهل أنت رجل يا أستاذ؟" وبالطبع لم يترك المدرس الأمر دون أن يعاقبه عقابًا شديدًا على عدم تأدبه هذا. وغير ذلك إذا أعدتم قراءة "يوميات السخرية من الذات" الذي اصفرت صفحاته، ففيه مواقف تلقَّى فيها خزيًا وعارًا لدرجة يصعب حصرها كلها هنا. ومن أجل أن يحافظ شينسكيه نفسه حتى على سبيل العناد وهو المعروف عنه اعتزازه بكرامته، كان يتحتم عليه أن يُظهر هذا التمرد والاعتراض تجاه ذلك الذل. وإلا لانتهى الأمر مثل العديد من الشباب المشاغب، كان سيستخف هو نفسه من نفسه. وبالطبع كان يبحث في "يوميات السخرية من الذات" عن وسائل تفجير الذات تلك...

    "لدي الكثير من الأسماء السيئة، إلا أنني أستطيع تقسيمها إلى ثلاث فئات"

    "أولهم الأدبي الضعيف. ويشير الأدبي الضعيف إلى اهتمامي بالقوة الذهنية أكثر من القوة البدنية"

    "وثانيهم الأرعن. وتشير الرعونة إلى حبي للجمال بالإضافة إلى المنفعة"

    "وثالثهم المتكبر. ويشير المتكبر إلى عدم استسلامي أمام رأي الآخرين بسهولة"

    ولكن لا يعني ذلك أن المدرسين جميعهم اضطهدوه عن بكرة أبيهم. فمنهم من كان يدعوه إلى حفلاته العائلية. ومنهم كذلك من أعاره روايات إنجليزية. ويتذكر شينسكيه أنه عندما تخرج من السنة الرابعة اكتشف بين تلك الروايات التي استعارها الترجمة الإنجليزية لكتاب "مذكرات صياد" فقرأها بسعادة بالغة. ولكن كانت "المسؤولية التعليمية" تعيق دائمًا الامتزاج الحميمي معهم كبشر. وكان السبب هو إحساسه نوعًا ما بخزي التملق إلى سلطتهم القوية حتى وقت تلقيه معروفًا منهم. وإن لم يكن، فبسبب قبح التملق لمثليتهم. مهما حاول لم يستطع أن يكون على حريته أمامهم. ليس هذا فقط، بل أنه أحيانًا ما يمد يده بحركة غير طبيعية إلى علبة السجائر، أو يثرثر عن مسرحية شاهدها. وبالطبع يفسرون ذلك السلوك على أنه عدم احترام منه تجاههم. وتفسيرهم منطقي تمامًا. فلا شك أنه لم يكن في الأصل من ذلك النوع من التلاميذ الذين يفعلون ما يحبذه الآخرون. ففي صورة قديمة له في قاع وعيه، تنعكس هيئة فتى ضعيف البنية كالمرضى وكبير الدماغ بما لا يتناسب مع حجم جسمه وعينيه فقط تتألقان في شغب. بل كان ذلك التلميذ ذا الوجه الشاحب اللون كالمرضى يمطرهم بالأسئلة المسمومة بلا توقف ويشعر بمتعة لا حد لها عندما يتسبب في معاناة المدرسين الطيبين!

    كانت درجات شينسكيه مرتفعة جدًا دائمًا في كل الاختبارات. ولكن لم ترتفع درجته في مادة السلوك عن ست درجات من عشر ولو مرة واحدة. شعر بأن رقم 6 بالأرقام العربية يعبر عن السخرية داخل غرفة المدرسين. وفي الواقع كان المدرسون يسخرون منه بالفعل بسبب درجاته في مادة السلوك. وجعلته درجات مادة السلوك الست تلك لا يبلغ مطلقًا ترتيبًا فوق الثالث. كان يكره مثل هذا النوع من الانتقام، ويكره المدرس الذي يُقدم عليه. والآن كذلك… كلا، بل نسي في غفلة من الزمن كل ما كان يكرهه وقتها. كانت المدرسة المتوسطة كابوسًا بالنسبة له. ولكن أن تكون كابوسًا لا يعني بالضرورة أن تكون تعيسة. فبفضلها استطاع على الأقل أن يتحمّل الوحدة. وإلّا كانت مسيرته في الحياة غالبًا أكثر معاناة مما هي عليه اليوم. فقد غدا مؤلفًا لبضعة كتب كما كان يحلم. ولكن في النهاية ما حصل عليه مقابلها هو الوحدة الموحشة. وهو اليوم حيث ينعم بوحدته… أو لنقل: وهو اليوم حيث يدرك أنه لا مفر من الوحدة إلا أن ينعم بها، إذا نظر خلفه قبل عشرين عامًا، على العكس يرى المدرسة المتوسطة التي كانت تعذبه، جميلة داخل هالة وردية من الضوء الخافت. تردد أغصان شجر الحور الكئيبة، صدى رياح الوحدة في فناء المدرسة...

    5- الكتب

    بدأ شغف شينسكيه للكتب في المدرسة الابتدائية. والذي علمه ذلك الشغف هو طبعة جيب شعبية قابعة في قاع صندوق كتب والده من الرواية الصينية "حافة الماء" من دار النشر الإمبراطورية. ظل تلميذ الابتدائية كبير الدماغ يكرر قراءة "حافة الماء" عدة مرات تحت المصباح المعتم. ليس هذا فحسب، بل عندما لا يفتح كتابًا، كان تدور في خياله رايات "العمل نيابة عن السماء"، ونمر هضبة جيانج يانج العملاق، وأفخاذ البشر المتدلية من عوارض البستاني زيانج تشانج. خيال؟… ولكن كان ذلك الخيال أكثر واقعية من الواقع ذاته. رفع شينسكيه السيف الخشبي عدة مرات في حديقة البيت الخلفية التي تتدلى فيها الخضروات المجففة، وتصارع مع الشخصيات التي تظهر في "حافة الماء"... تصارع مع هيو ساننيانج الأزرق الذي يبلغ ثلاثة أمتار والراهب الزهري ليو زيتشينج. واستمر ذلك الشغف الملتهب يسيطر عليه بلا انقطاع على مدى ثلاثين عامًا. يتذكر أنه مرات عديدة يقضي الليل بطوله ساهرًا حتى الصباح أمام كتاب. كلا، بل يتذكر أنه كان يقرأ الكتب بشغف وحماس على المكتب، وفي السيارة، وفي المرحاض… وفي بعض الأحيان في الطرقات. وبالطبع لم تمتد يده إلى السيف الخشبي مرة أخرى بعد انتهائه من "حافة الماء" ولكنه كثيرًا ما ضحك وكثيرًا ما بكى فوق الكتب. وهذا ما يمكن وصفه بأنه تحوله الكبير في حياته. تحوّله ليكون هو شخصيات الكتب. لقد تنقل في تناسخ أرواح لا حصر لها... بوذا في جبل تيانزهو... إيفان كارامازوف... هاملت... الدوق أندريه... دون جوان... مفيستوفيلس... الثعلب راينيك... بل لم يقتصر تحوله إلى تلك الشخصيات فقط. ففي ظهيرة يوم من نهايات خريف أحد الأعوام، زار خاله العجوز من أجل أن يحصل منه على مصروف لشراء الكتب. كان خاله من مدينة هاجي بإقليم تشوشو. ظل يشرح بإسهاب أمام خاله الأعمال العظيمة للحركة الإصلاحية في بداية عصر ميجي، وأخذ يمدح الكوادر البشرية التي شاركته فيها من إقليم تشوشو بداية من أعلاها سيفو موراتا ووصولًا إلى أدناها أريتومو ياماجاتا. ولكنها شخصية الشاب جوليان سوريه بطل رواية "الأحمر والأسود" أكثر من كونها شينسكيه دايدوجي الذي كان وقتها طالبًا في المدرسة الثانوية بوجه شاحب أزرق اللون.

    ومن الطبيعي أن شينسكيه هذا قد تعلم من الكتب العديد من الأمور. على الأقل ما من شيء واحد مما تعلمه يخلو تمامًا من اعتماده على الكتب. في الواقع أنه لم يكن يتأمل المارة في الطرقات لكي يتعرف على الحياة. بل على العكس كان يحاول التعرف على الحياة داخل الكتب لكي يتأمل المارة في الطرقات. وربما كانت تلك الخطة طريقًا غير مباشرة لمعرفة الحياة. ولكن، كان المارة في الطرقات مجرد مارة بالنسبة له. فلم يكن هناك مفر من أن يقرأ الكتب لكي يعرفهم... لكي يعرف حبهم ويعرف كراهيتهم ويعرف غرورهم. يقرأ الكتب... وخاصة الروايات والمسرحيات التي أنتجتها أوروبا في نهاية القرن. لقد اكتشف داخل ذلك الشعاع البارد أخيرًا ملهاة البشرية التي تُعرض أمام عينيه. كلا، بل ربما أنه اكتشف روحه ذاتها التي لا تفرق بين الخير والشر. لا يقتصر ذلك على الحياة. لقد اكتشف جمال الطبيعة في شوارع حي هونجو. ولكن علاوة على بصره الحاد في رؤية الطبيعة، كان حبه لقراءة الكتب… وبصفة خاصة شعر الهايكو في عصر جينروكو، جعله يكتشف جمال الطبيعة الذي لم تعلمه إياه المناطق الطبيعية في حي هونجو؛ "أشكال الجبال القريبة من العاصمة"، "ونسيم الخريف في حقول الكركم"، "والإبحار الحر والمقيد في عرض البحر في مواسم المطر"، "وأصوات الجندي الراحل وحيدًا في الظلام". كان هذا التحول من الكتب إلى الواقع حقيقة دائمة بالنسبة لشينسكيه. ثم شعر شينسكيه بالحب تجاه عدد من النساء في حياته. ولكنه لم يتعلم الجمال من أي منهن. أو على الأقل لم يتعلم منهن خلاف ما تعلمه من الكتب فيما يتعلق بجمال المرأة. لقد تعلم من جوتيه وبلزاك وتولستوي؛ جمال الأذن التي تشف أشعة الشمس، وجمال ظلال الأهداب الواقعة فوق الجبين. من أجلهم ما زالت المرأة إلى الآن تصل الجمال إلى شينسكيه. وإذا لم يتعلم ذلك منهم، ربما اكتشف الأنثى فقط بديلًا عن المرأة...

    ومن الأصل لم يكن شينسكيه الفقير يستطيع شراء الكتب التي يقرأها بحرية مطلقًا. ولقد استطاع التغلب بشكل أو بآخر على تلك المعضلة أولًا بفضل المكتبات العامة. وثانيًا بفضل تأجير الكتب. وثالثًا بفضل ترشيده في الإنفاق الذي كان سببًا في السخرية منه كبخيل. إنه يتذكر بوضوح... يتذكر محل تأجير الكتب المطل على قناة الصرف الصحي، ويتذكر العجوز طيبة القلب التي كانت تصنع في المحل زهور تزيين الشعر الصناعية في وقت فراغها. كانت تلك العجوز تثق في براءة "الولد الصغير" الطفولية الذي دخل المدرسة الابتدائية لتوه. ولكن كان ذلك "الولد الصغير" قد اخترع في غفلة منها طريقة لقراءة الكتب خلسة أثناء تظاهره بالبحث عن كتاب ما. وكذلك يتذكر شينسكيه بوضوح... يتذكر شارع جينبوتشو قبل عشرين عامًا حيث كانت محلات بيع الكتب القديمة فقط تتراص فيه جنبًا إلى جنب بكثرة. ويتذكر السطح المائل لمنحدر كودانزاكا حيث تسقط عليه أشعة الشمس من فوق أسطح محلات الكتب القديمة تلك. وبالطبع لم يكن وقتها يمر من شارع جينبوتشو لا القطار ولا الحناطير. كان شينسكيه، تلميذ المدرسة الابتدائية ذو الثانية عشرة من عمره يمر من هذا الشارع ذهابًا وإيابًا مرات لا حصر لها حاملًا صندوق وجبة الغداء وكراسته تحت إبطه للتردد على مكتبة أوهاشي العامة. كانت مسافة الطريق 6 كيلومترات ذهابًا وإيابًا. ثم من مكتبة أوهاشي العامة إلى المكتبة الإمبراطورية العامة. يتذكر شينسكيه الانبهار الذي أعطته له المكتبة الإمبراطورية العامة لأول مرة… يتذكر رعبه من شدة ارتفاع السقف، ويتذكر رعبه من كبر حجم النوافذ، ويتذكر رعبه من بشر بلا عدد يملؤون مقاعد بلا عدد. ولكن من حسن حظه أن ذلك الرعب اختفى بعد تردده على المكتبة عدة مرات. بدأ يشعر على الفور بالألفة تجاه غرفة الاطلاع، وتجاه السلالم المعدنية وتجاه صندوق الكتالوجات وتجاه المطعم في البدروم. ثم إلى مكتبة المدرسة الثانوية ومكتبة الجامعة. لقد استعار من تلك المكتبات كتبًا ربما يصل عددها إلى المئات. ثم أحب من تلك الكتب عددًا ربما يصل إلى العشرات. ولكن...

    ولكن ما أحبه شينسكيه من الكتب… هي على الأرجح الكتب التي اشتراها بنفسه مهما كان محتواها. لم يكن شينسكيه يذهب إلى المقاهي، لكي يوفر المال لشراء الكتب. ولكن بالطبع كان مصروفه دائمًا لا يكفي. ولذا كان يعلم الرياضيات(!)[3] لتلاميذ المدرسة المتوسطة من أقاربه ثلاث مرات في الأسبوع. ورغم ذلك عندما كان المال لا يكفي كان يضطر إلى بيع كتبه. ولم يحدث مرة واحدة أن زاد سعر كتاب باعه، عن نصف سعره عندما اشتراه. ليس هذا فحسب بل كان إعطاء الكتب التي اقتناها لسنين طويلة إلى بائعي الكتب القديمة بالنسبة له مأساة دائمة. ذهب شينسكيه في ليلة تهطل فيها ثلوج خفيفة ليتجول بين محلات بيع الكتب القديمة في شارع جينبوتشو واحدًا بعد آخر. فاكتشف في أحد تلك المحلات نسخة من كتاب "زرادشت". ولكنها لم تكن مجرد نسخة عادية من كتاب "زرادشت". بل كانت نسخة من كاتب "زرادشت" باعها هو بنفسه لمحل كتب قديمة منذ شهرين وتحتفظ جلدة الكتاب بآثار يديه عليها. وقف شينسكيه أمام المحل يقرأ مجددًا هنا وهناك داخل نسخة زرادشت القديمة تلك. وكلما أعادة القراءة شعر بالحنين إلى الكتاب مرة أخرى.

    مرت عشر دقائق تقريبًا ثم سأل صاحبة المحل وهو يشير إلى كتاب "زرادشت":

    - كم سعر هذا الكتاب؟

    - ين وستون سن، … ولكن من أجلك أنت سأجعله ينًا وخمسين سِنًّا فقط.

    تذكر شينسكيه أنه باع تلك النسخة بسبعين سنًا فقط. ولكنه في نهاية المطاف قرر شراءه مرة أخرى بعد أن خفَّض السعر ووصل به أخيرًا إلى ضعف السعر الذي باعه به ألا وهو ينٌ وأربعون سن. في ليالي الثلوج تكون الشوارع والبيوت والقطارات هادئة هدوءًا مريبًا. وفي طريق عودته الطويل إلى حي هونجوو كان يشعر بلا انقطاع بكتاب "زرادشت" المجلد بغلاف معدني اللون داخل جيبه. ولكن في الوقت نفسه ظهرت عدة مرات على فمه ابتسامة ساخرة تجاه ذاته...

    6- الأصدقاء

    لم يستطع شينسكيه أن يكوِّن أصدقاء بغض النظر عن حجم مواهبهم. لم تكن لديه حاجة إلى الفتيان الذين ليس لهم مميزات إلا سلوكهم فقط مهما كانوا فضلاء. كلا، بل على العكس كان مهرجًا لا يطيق إلا السخرية منهم في كل مرة يرى فيها وجوههم. ولا شك أن ذلك الأمر الطبيعي من شخص مثله يحصل على ست درجات فقط في مادة السلوك. لقد ظل يسخر منهم بلا انقطاع في أثناء مروره بعدة مدارس من المدرسة المتوسطة إلى المدرسة الثانوية ومن الثانوية إلى الجامعة. وبالطبع كان منهم من ينفجر غضبًا من سخريته. ولكن كان منهم أيضًا الفاضل المثالي جدًا الذي لم يشعر حتى بسخريته. كان شينسكيه يشعر دائمًا بمتعة كبيرة من وصفه "بالشخص القميء". ولكن، كان هو ذاته لا يطيق إلا أن ينفجر غضبًا من عدم إعطاء السخرية أي رد فعل أكثر مهما سخر. وعلى أرض الواقع كان من هؤلاء الفضلاء –طالب في القسم الأدبي في المدرسة الثانوية‏–‏ يحب ليفينجستون لدرجة العبادة. وفي إحدى المرات تحدث معه شينسكيه الذي كان يسكن معه في أحد مساكن الطلبة الأهلية فقال له حديثًا مختلقًا إن بايرون عندما قرأ سيرة ليفينجستون لم يستطع التوقف عن البكاء. ومنذ ذلك اليوم وحتى الآن على مدى عشرين عامًا، لم يتغير عبد ليفينجستون هذا، فقد قرأ شينسكيه له مديحًا لليفينجستون في مجلة تُصدرها إحدى الكنائس المسيحية في اليابان. ليس هذا فقط بل لقد بدأ مقالته بالجملة التالية: "تُرى ما الذي يمكننا أن نتعلمه عندما نعرف أن حتى الشاعر الشيطاني بايرون ذاته قد بكى بكاء مريرًا عندما قرأ سيرة ليفينجستون؟!"

    لم يستطع شينسكيه أن يكوِّن أصدقاء بغض النظر عن حجم مواهبهم. كان شينسكيه يعد أي شاب يفتقر للنهم إلى المعرفة حتى ولو لم يكن ملتزمًا بالسلوك، مجرد عابر سبيل. لم يكن شينسكيه يبحث عن المشاعر الرهيفة عند أصدقائه. لم يمانع أن يكون الصديق شابًا بلا قلب شاب. كلا، بل على العكس كان مفهوم الصديق الحميم ذاته يسبب له الرعب. ومقابل ذلك كان يجب على الصديق أن يمتلك عقلًا ذكيًّا. يمتلك عقلًا… عقلًا مكتملًا بإحكام تام. لقد أحب شينسكيه صاحب ذلك العقل أكثر من أي فتى جميل الوجه مهما كان. وفي نفس الوقت كان كذلك يكره صاحب ذلك العقل أكثر من أي شاب ملتزم بالسلوك مهما كان. وفي الواقع كل صداقاته كانت دائمًا مشتعلة بشغف متولد عن مشاعر كراهية تختلط إلى حد ما بمشاعر حب. وحتى اليوم يؤمن شينسكيه أنه ما من صداقة تخلو من ذلك الشغف. أو على الأقل يؤمن بعدم وجود صداقة لا تحمل رائحة السيد والخادم[4] ‏بخلاف ذلك الشغف. ناهيك عن أصدقائه في ذلك الوقت الذين كانوا في جانب منهم لا يرتقون لمرتبة عدو في معركة الموت. لقد قاتلهم شينسكيه بلا انقطاع مستخدمًا عقله سلاحًا في المعركة. كانت ساحة المعركة تشمل كل المجالات تقريبًا… وايتمان، الشعر الحر، التطور الخلَّاق إلخ. صارع شينسكيه أصدقاءه في ساحات المعارك تلك، فكان ينتصر مرة وينهزم أخرى. ولا شك أن تلك المعارك الفكرية كانت تُجرى من أجل متعة القتل أكثر من أي سبب آخر. ولكن الحقيقة أيضًا أنه في أثناء تلك المعارك ظهرت من تلقاء نفسها أفكار جديدة وأشكال جمال جديد. لا ندري كم أضاء لهب الشموع جدالهم هذا حتى الساعة الثالثة من الصباح، وكذلك كم سيطرت أعمال الروائي سانياتسو موشانوكوجي على جدالهم!… يتذكر شينسكيه بوضوح تام عددًا من حشرات الهاموش الكبيرة تجمعت حول الشموع في إحدى ليالي الخريف. وُلد الهاموش براقًا فجأة من وسط الظلام الدامس. ولكنه مات سريعًا وهو يرفرف بأجنحته بمجرد أن لمس اللهب وكأن وجوده خدعة كاذبة. وربما كان ذلك أمرًا لا قيمة له لدرجة التندر الآن بعد فوات الأوان. ولكن كان شينسكيه حتى اليوم كلما تذكر تلك الحادثة التافهة… كلما تذكر موت وحياة الهاموش الجميلة تلك، يشعر لسبب مجهول بوحدة كبيرة في أعماق قلبه...

    لم يستطع شينسكيه أن يكوِّن أصدقاء بغض النظر عن حجم مواهبهم. كان ذلك فقط هو معياره. ولكن بالطبع لم يكن ذلك المعيار بلا استثناءات على الإطلاق. وكان ذلك هو تميز الطبقة الاجتماعية الذي فصل بينه وبين أصدقائه. فلم يشعر شينسكيه بأي قلق اجتماعي بينه وبين الشباب الذين يشبهونه في أنهم تربوا في الطبقة الوسطى من المجتمع. ولكنه شعر بحقد مريب وغريب عنه تجاه فتيان الطبقة العليا، وفي بعض الأحيان تجاه فتيان الطبقة المتوسطة العليا. كان منهم الكسول، ومنهم الجبان، وكذلك منهم عبد المتعة. ولكنه لم يكرههم بسبب تلك الصفات بالضرورة. كلا، بل كان السبب على العكس شيئًا غامضًا خلاف ذلك كله. وفي الأصل كان منهم من يكره بنفسه ذلك "الشيء الغامض" بلا وعي. ومن أجل ذلك أيضًا كان شينسكيه يشعر بحنين مَرَضي تجاه طبقات المجتمع الدنيا في نقطة إظهارها للفروق الاجتماعية. وكان يشعر بالتعاطف تجاههم. ولكن في نهاية المطاف لم يفدهم تعاطفه معهم. كان ذلك "الشيء الغامض" أشواكًا توخز يده قبل أن يصافحهم. عندما كان طالبًا في المدرسة الثانوية وقف شينسكيه فوق هضبة جزيرة إينوشيما مع أحدهم في عصر يومٍ بارد من أيام شهر أبريل، وكان أحدهم هذا الابن البكر لأحد النبلاء في اليابان. وكانت أمواج البحر هائجة تحت عيونهم مباشرة. ثم ألقوا عددًا من العملات النحاسية من أجل أطفال "الغوص". فكان الأطفال كلما رُميت عملة يقفزون وراءها داخل البحر في ضجة. ولكن ثمة "غطاسة" كانت تجلس أمام نار أشعلتها من القمامة تحت الهضبة تتأملهم ضاحكة.

    - هذه المرة سوف أجعلها هي أيضًا تغطس في البحر.

    ثم غلَّف صديقه إحدى العملات النحاسية بورق علبة السجائر الفضي. ثم لوى جسده وألقى بتلك العملة النحاسية بكل ما لديه من قوة. سقطت العملة النحاسية خلف موجة رياح عاتية وهي تتلألأ في بريق لامع. وفي تلك اللحظة قفزت الغطاسة بالفعل في البحر. وما زال شينسكيه يتذكر حتى الآن بوضوح الابتسامة الوحشية التي ارتسمت على وجه صديقه. كان صديقه هذا لديه موهبة في تعلم اللغات تفوق الآخرين بكثير. ولكنه كان لديه أيضًا أنياب كلبية تفوق الآخرين بالتأكيد...

    حاشية: أنوي الاستمرار في هذه القصة لتكون ثلاثة أو أربعة أمثال حجمها الحالي. لا ريب أن ما ذكرته هذه المرة لا يتناسب مع عنوان "قصة حياة شينسكيه دايدوجي" الذي وضعته لها، ولكنني استخدمت ذلك العنوان مضطرًا لعدم وجود عنوان آخر. وسأكون سعيدًا لو اعتبرتم أنه الجزء الأول من "قصة حياة شينسكيه دايدوجي"[5].

    (كتب المؤلف هذه الحاشية في يوم 9 ديسمبر من عام 1924).


    [1] هيابونجوي تعني باللغة اليابانية المئة وتد وهي الأوتاد التي رُشقت على الضفة لصد الأمواج (المترجم).

    [2] وردت الكلمة في الأصل باللغة الألمانية: Vita sexualis ويلمح الكاتب هنا إلى رواية الروائي الكبير أوجاي موري التي حكى فيها تجاربه الجنسية في حياته منذ كان طفلًا إلى ما بعد زواجه (المترجم).

    [3] هكذا في الأصل ويتعجب المؤلف من ذلك لأنه في الأصل أدبي يعشق الأدب فكيف يدرس الرياضيات! (المترجم).

    [4] وردت الكلمة في الأصل باللغة الألمانية: Herr und Knecht‏ (المترجم).

    [5] لم يترك المؤلف خلفه أي عمل يمكن اعتباره تكملة لهذه القصة‏ (المترجم).