اعتبر سبِنوزا أنّ المنتحر كان ميتًا من قبل أن يزهق نفسه. ففي نظره، لا يمكن لأي أحد أن يسعى بمحض إرادته إلى إهلاك نفسه. فلكي يقدر شخص على إزهاق نفسه بيديه، لا بد أنه قد «قُهر قهرًا تامًا بواسطة أسباب خارجة عنه» قبل أن يفعل فعلته، ولذلك كان ميتًا حتى قبل موته.

موجز تاريخ الحشرات

مقال مران بُجوڨِتش

ترجمة طارق عثمان

Miran Božovič, “A Brief History of Insects,” in Idem, an utterly dark spot: gaze and body in early modern philosophy (Ann Arbor: the university of Michigan Press, 2000), 15-23.

مران بُجوڨِتش فيلسوف سلوڨيني معاصر، من أعلام مدرسة ليوبليانا للتحليل النفسي


العثة التي ظهرت على غلاف فيلم صمت الحملان، عن abc

«لننظر إلى بيت العنكبوت من هذا المنظور. لا يعلم العنكبوت شيئًا عن الذباب، ولا يستطيع أن يأخذ مقاسات فريسته، كما يأخذ الخياط مقاسات زبونه قبل أن يحيك بذلته. ومع ذلك، يحدد العنكبوت طول الغُرز في شبكته وفقًا لأبعاد جسد الذباب، ويضبط مقاومة الخيوط بما يناسب قوة اصطدام جسد الذبابة الطائرة. وكذلك، خيوط الشبكة الدائرية مغطاة بسائل لزج يجعلها مرنة بالقدر اللازم لحبس الذبابة ومنعها من الطيران مرة أخرى. أما خيوطها القُطرية فأصلب وأملس وأجف، لأن العنكبوت يستعملها كطرق مختصرة ينقض منها على فريسته ليلفها، أخيرًا، في سجنها الخفي. لكن الأمر الأشد إدهاشًا بلا شك هو أنّ خيوط شبكة العنكبوت متناسبة تمامًا مع قدرة الذبابة البصرية، فالذبابة لا تستطيع أن تراها، ولذلك تطير إلى حتفها من حيث لا تدري».

چورچيو أجامبِن[1]

1. لاهوت الحشرات

ما شأن الحشرات حتى تفتن الفلاسفة إلى هذا الحد؟

يرى نِكولا مالبرانش (ت. 1715) أنّ «صِغر» حجم الحشرات هو ما يجعلها «مهيبة».[2] فبنيتها الجسدية أشد تعقيدًا بكثير من «بنية الحيوانات الضخمة بل لعلها أشد منها روعة وإعجازًا»―على سبيل المثال: توجد «عدسة واحدة لا غير في عين ثور»، بينما توجد «عدة آلاف في عين ذبابة»[3]―ومع ذلك، هذه البنية أدق من أن تُرى بأعين البشر المجردة، إذ لا يمكننا أن نراها إلا من خلال مِجهر.

نحن نرى تحت المجهر أجزاء الحشرات التي نراها بأعيننا المجردة على نحو أشد تفصيلًا، لكننا نرى تحت المجهر، أيضًا، أجزاء لم نكن نعلم حتى أنها موجودة من ذي قبل. ولذلك، لمّا تفحص چايوڨانّي فابر، في سنة 1624، ذبابة تحت مِجهر جاليليو، أثنى على جاليليو بأنه «أشبه بخالق، إذ أبان عن شيء لم يعلم أي أحد من ذي قبل أنه قد خُلِق».[4] فبعد النظر من خلال المجهر، وبعده فحسب، يمكن لـ«كل جزء من المادة» أن يُعتبر «كبستان غاصّ بالنباتات وكبِركة غاصّة بالأسماك،» ويمكن «لكل فرع في نبات، ولكل طرف في حيوان، ولكل قطرة من أخلاط جسده» أن يُعتبر «بستان آخر أو بِركة أخرى»كذلك، على حد قول جوتفرِد لايبنتْز (ت. 1716).[5]

إنّ «أصغر ذبابة لتُجلّي قدرة الله وحكمته… أكثر مما تفعل كل الأشياء التي يعلمها الفلكيون عن السماوات»، كما يقول مالبرانش.[6] ومع ذلك، يبدو أنّ البنية الجسدية لأغلب الحشرات محجوبة عن أبصارنا. ولأنه كان من الممكن لهذا الجزء من الخليقة أن يظل، بلا شك، خافيًا على أعيننا، يحق لنا القول إنّ الله لم يخلق الحشرات لكي نتأملها ونعجب منها. قد يبدو الأمر إذًا كما لو أنّ الله قد أراد أن يحجب هذا الجزء بالغ الروعة والكثرة والتنوع من خليقته عن أعيننا. لكن إن شئنا الدقة، لم يشأ الله أن يحجب أي شيء هنا عن أعيننا وإنما أهمل بصرنا ببساطة، ضرب عنه صفحًا. ومن خلال هذا الإهمال التام لبصرنا جلّى الله طبيعته الإلهية. ومن هذا الوجه، يسوغ لنا تشبيه خلق الله للحشرات بتشييد عمود تَراچان في روما: فالنقوش الرائعة خفيضة البروز المنحوتة عليه لا يمكن أن تُرى بالعين المجردة، ولذلك لم يُقصد منها، يقينًا، أن يتأملها الناظرون ويعجبوا منها. لكن هذا الإهمال التام لعجب الرعية، هذا «الهدر المحض غير المحسوب» هو تحديدًا ما جعل الروم يرفعون أباطرتهم إلى مقام إلهي.[7] ألا يجوز لنا القول إذًا أننا نرى الله نفسه أهلًا للعبادة كإله تحديدًا لأنه بخلقه الحشرات أظهر إهماًلا تامًا لعجبنا من بديع صنعه؟

إضافة إلى ذلك، اعتقد جاليليو أنّ بفهم الرياضيات يتطابق العقل البشري مع العقل الإلهي،[8] لكن يبدو أن الحشرات قد تفوقت في الرياضيات على علماء الرياضيات أنفسهم، على الأقل حتى القرن السابع عشر. على سبيل المثال، يتبع المسار الذي تسلكه بعض الحشرات نحو مصدر الضوء منحنى حلزون لوغاريتمي.[9] أي في حين لم يعرف الرياضيون الحلزون اللوغاريتمي إلا في سنة 1638، عندما وصف ديكارت خصائصه لأول مرة، تتبع الحشرات في طيرانها منحنى هذا الحلزون بعينه منذ خلق الله العالم؛ وبالمثل، يبدو أن النحل قد حلّ، ببنائه لقرص العسل، مسألة رياضية لم يقدر الرياضيون على حلها قبل لايبنتْز ونيوتن.[10] يضطر البشر إلى اكتساب علم الهندسة بأنفسهم، في حين يبدو كما لو أن الله قد أنعم على الحشرات بمعرفة هندسية فطرية. 

فيما يخص التلّون التكيفي، أي المشهد الذي تعرضه بعض الحيوانات لنظر الآخر، الحشرات هي الأقدر على الإتيان بأغرب أشكال الخداع. فعن طريق العُيينات، وهي بقع صغيرة داكنة تحاكي العيون على أجنحتها، تستطيع بعض الحشرات، كالفراشات والعث، أن تردّ النظرة. فعلى نظرة الآخر المفترس، تردّ أجساد هذه الحشرات بنظرة مفترسِه (أي بنظرة مفترس مفترسها). ويُحدِث ذلك أثرًا مروعًا: تخيل لوهلة أنك فأر تهُمّ بافتراس عثة، ولذلك أنت آخر منظر ستراه هذه الحشرة على الأرجح. ثم فجأة تبسط الحشرة جناحيها فترد على نظرتك بنظرة بومة، أي بآخر منظر ستراه أنت على الأرجح. وهكذا، تعرض الحشرات، في تلّونها التكيفي، مشهدًا لنظرة الآخر، بل وتستنسخ، عن طريق العُيينات الموجودة على أجنحتها، نظرة الآخر نفسها كذلك.[11]

2. روح الفراشة

منذ زمن الإغريق القدماء وحتى زمننا هذا، يوجد شيء فاتن، لكنه مشؤوم ومقلق مع ذلك، في تحول الحشرات أثناء دورة حياتها، وتحديدًا في تحول العذراء (الشرنقة أو الخادرة) إلى فراشة. فكما لاحظ دَرسي تومسون، «تندر الإشارة إلى الفراشة» في الشعر الإغريقي.[12] وحتى يومنا هذا، يجد مؤرخو العلم أنفسهم في حيرة من أنّ أرسطو، أول عالِم حشرات، قد أعوزته الكلمات عندما أراد أن يصف تحول العذراء إلى فراشة في كتابه تاريخ الحيوانات، الذي قدّم فيه، على خلاف فِعله في هذا الموضع، وصفا مفصّلًا وشافيًا لأغلب الأنواع.[13]

ما الذي فتن أرسطو إذًا، لكن نفّره في الوقت عينه، عندما أبصر تحول العذراء إلى فراشة؟ دعونا ننظر في وصف أرسطو لتطور الفراشات من العذارى كما فسّره دَرسي تومسون. من ناحية، العذراء لا تأكل وإنما ترقد جامدة وخامدة كما لو كانت ميتة. وباختصار، العذراء جثة في الظاهر، وهو ما يشير إليه اسمها اليوناني nekýdallos، الذي يشبه في نطقه كلمة جثة باليونانية nékys.[14] ومن ناحية أخرى، الفراشة التي تخرج بعد فترة معينة من العذراء تسمى psyché، أي روح باليونانية. أي أنّ ما شهده أرسطو أثناء ملاحظته لخروج الفراشة من العذراء هو خروج الروح، حرفيًا، من الجسد الميت.

ولذلك، أضحى تحول العذراء إلى فراشة يُفهم كمجاز أو مَثل على البعث. فبحسب مالبرانش، أراد الله أن يرينا من خلال تحول الحشرات حياة المسيح وموته وبعثه.[15] فكما تقبر اليرقة نفسها ميتة على ما يبدو ثم تخرج حية من قبرها بعد فترة «من دون أن تتحلل» مات المسيح وبُعث «من دون أن يتعرض جسده للتحلل».[16] وفي نظر مالبرانش، تُبعث الحشرة من شرنقتها في هيئة «جسد روحاني بالكامل»، جسد هو روح في حد ذاته، أي في هيئة فراشة. وكما تطير الفراشة في الهواء، رُفع المسيح إلى السموات. وهذا التشبيه ليس، في نظره، متعسفًا ولا متكلفًا: فـ«مشيئة الله أن يرينا حياة المسيح من خلال التغيرات التي تطرأ على حياة الحشرات  أمر جلي للغاية».[17]

يمكن أن نجد مسألة تحول الحشرات الأرسطية―تحول النغفة إلى ذبابة وتحول اليرقة إلى فراشة―عند لايبنتْز أيضًا، لكن في موضع القلب من نظرية مختلفة تمامًا عن نظرية أرسطو. ففي حين يرى أرسطو أن تحول الحشرات حجة تجريبية مؤيدة لمذهب فيثاغورث القائل بانتقال الروح من جسد إلى آخر، يرى لايبنتْز أنه حجة مؤيدة لنقيض هذا القول، أي لعدم انفصال الروح عن الجسد: فـ«في أثناء نشأة الحشرة ونموها، كانت الروح في جزء حي منها»، وكذلك «ستظل الروح، بعد فناء الحشرة، في جزء لا يزال حيًا منها». إن لايبنتْز يستبدل الـ metempsychosis، أي تقمص الروح أو تنقلها من جسد إلى آخر، بالـ metamorphosis، أي تحول الجسد أو تبدله من حال إلى آخر: فلا توجد عنده انتقالات للأرواح وإنما توجد تحولات للجسد، أي «تحولات نفس الجسد الذي يحفظ نفس الروح على الدوام».[18] ومثلما لا توجد أجساد بلا أرواح لا توجد أيضًا، عنده، أرواح بلا أجساد.[19]

في رواية The Silence of Lambs،  صمت الحملان، لتوماس هاريس [والفيلم المبني عليها]، وجد المتحول جنسيًا "بافلو بِل" نفسه بين هذين الخيارين عينهما: إما الـ metamorphosis أو الـ metempsychosis، إما تحويل الجسد أو نقل الروح، إما لايبنتْز أو فيثاغورث. بعدما حُرم "بافلو بِل" من إجراء جراحة تحويل جنسي بسبب سجله الإجرامي، صار قاتل نساء متسلسل. لماذا؟ لأن بحرمانه من جراحة التحويل الجنسي حُرم، في واقع الأمر، من الخيار اللايبنتزي، أي تحويل نفس الجسد الذي يحفظ نفس الروح على الدوام، ولذلك عمد، على نحو متفهم، إلى الخيار الوحيد المتاح له، وهو الخيار الفيثاغورثي، أي نقل الروح من الجسد الذكري إلى الجسد الأنثوي. ولهذا، راح يقتل النساء بنية الحلول في أجسادهن. ولأنه مفتون، كأرسطو، بتحول الحشرات، كان يضع عذراء حشرة―عثة أكيرونشيا، التي تحمل صورة جمجمة فوق ظهرها―في أفواه ضحاياه المسلوخات. و«تُحيل العذراء»، هنا كما نصّ الدكتور هانِبال لِكتر، «على التغيّر».[20] ففي عين القاتل، ليست الضحية سوى عذراء ميتة على ما يبدو، ستُبعث، بعد فترة زمنية معينة، كعثة. لقد كان يسلخ ضحيته ويسربل نفسه بجلدها، وفي اللحظة التي تطير فيها العثة من فمها، أي اللحظة التي تترك فيها الروح الجسد الميت، يحل هو في جسدها. وبذلك يتحول إلى امرأة. وبتدخله في دورة الحياة، على هذا النحو، ارتكب القاتل الجريمة التامة: فالضحية، أي روحها، ستواصل الحياة كعثة تحمل صورة جمجمة فوق ظهرها، بينما ستحل روحه هو، بعدما تخلى عن جسده، في جسدها فتحييه. ولكي يفتتح دورة الحياة هذه، ليس على القاتل إلا أن يضحي بجسده، الذي لم يكن راضيًا عنه في المقام الأول، لأنه رأى نفسه أنثى مسجونة في جسد ذكر.

بقوله إنّ الروح لا تنفصل عن جسدها، تمكّن لايبنتْز من تلافي الاعتراضات العديدة التي وجِهت إلى نظرية تناقل الأرواح، ومن أهمها تلك التي وجهها مِشيل دو مونتين (ت.  1592): ما الذي سيحدث للأرواح في حال كان عدد المخلوقات الميتة أكبر من عدد المخلوقات المولودة، أي في حال كانت الأرواح أكثر من الأجساد؟ لأن الأرواح خالدة ولا يمكن أن تهلك، من الممكن لها أن تتزاحم وتتنافس على الأجساد الوليدة. لكن ما الذي سيحدث للأجساد في حال كان عدد المخلوقات المولودة أكبر من عدد المخلوقات الميتة، أي في حال كانت الأجساد أكثر من الأرواح؟ ستضطر الأجساد إلى انتظار حلول الأرواح فيها. ولأن الأجساد ليست خالدة كالأرواح، يمكن لهذا الانتظار أن يهلكها. وبحسب مونتين، من اليسير والحال هذه أن «تموت العديد من الأجساد من قبل أن تحيا».[21]

ولذلك، لا يوجد عند لايبنتْز ميلاد أو موت، نشأة (تكوين) أو تحلل (فناء). إذ يرى أنّ الميلاد والموت ليسا سوى تأويلين خاطئين للتحولات: «فما نسميه نشأة ليس إلا بسط ونمو، كما أنّ ما نسميه موت ليس إلا انحسار ونقص».[22]

وعلى مدار عملية التحول هذه، يظل جسد أولي حي موجودًا على الدوام، جسد جليل معفي من دورة النشأة والتحلل: جسد «كان حيًا» قبل الميلاد و«سيظل حيًا» بعد الموت.[23] وهكذا، عوضًا عن أن نجد عند لايبنتْز دورات متعاقبة من النشأة والتحلل، نجد جسدًا حيًا أبدًا يمر بتحولات شتى: فعند الميلاد، يتكون المخلوق من خلال تحول جسد أولي قديم الوجود؛ وعند الموت، يتحلل المخلوق إلى جسد أولي تزوي إليه روحه، وإلى جثة تتألف هي الأخرى من مخلوقات حية عديدة لكل منها روحه.

أحد لوازم نظرية لايبنتْز هذه، أنّ الأجساد والأرواح المتحولة لنوع حيواني منقرض―الديناصورات على سبيل المثال―لا تزال موجودة، ولا بد، في مكان ما، حتى الآن. ولأنه يرى أنّ «كل جزء من المادة» يمكن أن يُعتبر «كبستان غاصّ بالنباتات وكبِركة غاصّة بالأسماك»، وأنّ «كل فرع في نبات، وكل طرف في حيوان، وكل قطرة من أخلاط جسده» يمكن أن يُعتبر «بستان آخر أو بِركة أخرى» كذلك،[24] يوجد ولا بد في كون لايبنتز متسع لكل شيء، حتى للحيوانات السابقة على التاريخ، كالديناصورات. وهكذا، يمكن لبكتريا واحدة في جسدي أن تكون ناتجة عن تحول جسد ديناصور، ويمكن للروح التي تحيي هذا الكائن الدقيق المتألف من خلية واحدة أن تكون عين الروح التي أحيت، قبل حوالي سبعين مليون سنة خلت، جسد ديناصور بأكمله.

3.  الموت قبل الولادة

لكي يبرهن لايبنتْز على صحة مذهبه القائل بأنه لا يوجد ميلاد أو موت، بالمعنى الدقيق للكلمة، وأنهما ليسا سوى تأويلين خاطئين لتحولات نفس الجسد الحي أبدًا الذي يحفظ نفس الروح على الدوام، يحتاج إلى كائن كان حيًا قبل أن يولد ويظل حيًا بعد أن يموت.

لذلك نجده يحيل على الملاحظات المجهرية ليان زفامردام (ت. 1680) ومارسِلّو مالبيجي (ت. 1694) وأنطوني لِڨينهوك (ت. 1723)، التي تثبت بما لا يدع مجالًا للشك قدم الحياة، أي وجود الحياة قبل الولادة.[25] لقد أثبتوا، كما يقول لايبنتْز، أنه لا يوجد «ميلاد أول» أو «نشأة جديدة بالكلية»؛ فباستثناء خلق العالم، لا توجد بداية مطلقة، وكل بداية ظاهرة لنا تسبقها، في واقع الأمر، بداية أخرى: فالحيوانات الضخمة نشأت عن تحول «حيوانات منوية،» قد نشأت هي الأخري «عن حيوانات منوية أصغر منها».[26] 

لكن لايبنتْز يفتقر هنا إلى دليل تجريبي صريح يثبت قوله إنه لا يوجد أيضًا «فناء نهائي» أو «موت تام»، وأنّ كل موت ظاهر لنا يتبعه، في واقع الأمر، موت آخر: فالفناء النهائي أو الموت التام مؤجل أبدًا إلى أن ينتهي العالم. وفي ظل غياب دليل تجريبي صريح، خلص لايبنتز إلى القول: «لا يوجد ميلاد أول أو نشأة جديدة بالكلية، ويلزم عن ذلك أنه لن يوجد فناء نهائي أو موت تام بالمعنى الميتافيزيقي الدقيق للكلمة».[27] وفي رسائله إلى أنطوان أرنولد (ت. 1694)، دعم لايبنتْز هذا الاستنتاج بواسطة أمثلة عديدة على البعث الذي يقع بعد الموت الظاهر للجسد، ومنها: قد تُظنّ حالات النوم العميق أو الغشية، في بعض الأحيان، موتًا، لكن يمكن للمرء أن يستيقظ منها، ويقوم من الموت، إذا جاز القول؛ وقد تُظنّ العذراء المتكفنة بهيكلها ميتة، لكن بعد فترة معينة تخرج منها فراشة؛ وقد يُظنّ مَن تجمّد أو غرق أو شُنق ميتًا، لكن يمكن، في بعض الأحيان، رده إلى الحياة مرة أخرى.[28]

تُثبت أمثلة لايبنتْز هذه أنّ النوم العميق والغشية ونحو ذلك قد يُظنّ موتًا بالخطأ، لكنها لا تثبت صحة عكس ذلك: إذ لا يمكن للموت، في نهاية المطاف، أن يُظنّ نومًا بالخطأ، لأن الموت، وعلى خلاف النوم، لا يمكن لأي أحد أن يستيقظ منه. وعليه، الدليل الذي يحتاج إليه لايبنتْز ليحتج به على صحة قوله بعدم وجود فناء نهائي أو موت تام لا بد أن يكون مخلوق يظل حيا بعد موته، أي ميت حي.

كان من الممكن للايبنتْز أن يجد هذا الدليل، هذا الميت الحي، في كتاب الإتيقا (الأخلاق) لباروخ سبِنوزا (ت. 1677). ففي أحد المواضع، اعتبر سبِنوزا أنّ المنتحر كان ميتًا من قبل أن يزهق نفسه. ففي نظره، لا يمكن لأي أحد أن يسعى بمحض إرادته إلى إهلاك نفسه. فلكي يقدر شخص على إزهاق نفسه بيديه، لا بد أنه قد «قُهر قهرًا تامًا بواسطة أسباب خارجة عنه» قبل أن يفعل فعلته، ولذلك كان ميتًا حتى قبل موته.[29] ولنا في تخيل لوي ألتوسير (ت. 1990) لعدم وجوده خير شاهد على ذلك: فلقد أراد ألتوسير أن يُهلك نفسه مهما كان الثمن، لأنه―وبكلماته―اعتقد أنه لم يوجد قط (أي ميتًا من قبل أن يموت).[30] لا يمكننا أن نقول عن شخص إنه قد قُهر قهرًا تامًا بواسطة أسباب خارجة عنه إلا بأثر رجعي، أي بعد انتحاره؛ لكن يوجد بلا شك آخرون كُثر، قهرتهم أسباب خارجية، ويتصرفون على نحو مهلك للنفس، ومع ذلك لم ينتحروا. ووفقًا لسبِنوزا، يسوغ لنا أنّ نعتبر هؤلاء موتى أحياء: إنهم موتى بالفعل (بموجب القهر) لكنهم يواصلون عيش الحياة على الرغم من ذلك.[31] بالطبع، موتى سبِنوزا الأحياء ليسوا أمثلة على الحياة بعد الموت بقدر ما هم أمثلة على الموت قبل الموت نفسه. لكن ألا يجوز لنا القول إنّ إحجامهم عن فعل الفعلة التي يساقون إليها سوقًا، أي الانتحار، على الرغم من قهرهم بالأسباب الخارجية، أي على الرغم من أنهم موتى، يُعدّ أول فعل يفعلونه بمحض إرادتهم حقًا، ولذلك يُعدّ بعثًا لهم من الموت؟

لكن بوسعنا أن نأتي بمثال من شأنه أن يثبت، بحد ذاته، انعدام الميلاد والموت كليهما. دعونا ننظر في نهج لايبنتْز عن كثب. يسعى لايبنتْز إلى إثبات انعدام الميلاد والموت عن طريق بيان أنّ الميلاد الأول فيما يظهر ليس الأول حقًا، وأن الفناء الأخير فيما يظهر ليس الأخير حقًا. فكل ولادة، كل نشأة، مسبوقة بنشأة قبلها، وكل موت، كل تحلل، متبوع بتحلل بعده. وبناءً عليه، سلسلة تحولات لايبنتْز بلا نهاية: إنها تمتد منذ خلق العالم إلى الأبدية.

لكن يمكن تركيب سلسلة التحولات هذه على نحو مغاير، بحيث تتكثف سمات هذه السلسلة الأبدية في حلقة واحدة. وذلك عن طريق قلب دورة الحياة نفسها ببساطة، أي بوضع الموت قبل الحياة. ولأن المخلوق الذي يتبع دورة الحياة المقلوبة هذه، لا يولد إلا بعد أن يموت، ويموت قبل أن يعيش على الإطلاق، يسوغ لنا القول إنه لا يوجد في حالته ميلاد أو موت «بالمعنى الميتافيزيقي الدقيق للكلمة».[32]

لن ينقرض هذا المخلوق المناقض أو المفارق لأن موته يسبق حياته وإنما سيواصل الوجود بفضل هذا القلب عينه لدورة الحياة. حيث سيأتي أفراده إلى الحياة وهم أموات ويذهبون إلى الموت من قبل أن يعيشوا. ما سيحفظ وجود هذا النوع، إذًا، هو الأجنة والجثث فحسب، لأن أفراده لن يكونوا جسدًا حيًّا قط.

هذا النوع من المخلوقات موجود في واقع الأمر. إذ يوجد جنس من السوس يجسّد ذكوره انقلاب دورة الحياة هذا في أنقى صورة: إذ يجامع الذكر أخواته في بطن أمه ثم يموت قبل أن يولد.[33] هذا هو إذًا نوع المخلوقات المناقض الذي يحفظ وجوده عن طريق الأجنة والجثث حصرًا وليس الأجساد الحية قط. إذ لا يوجد ذكر هذا الجنس من السوس إلا كجنين ثم جثة في بطن أمه. ولذلك لا عجب أنه قد ظل غير مكتشف لزمن طويل.[34]

في دورة الحياة اللايبنتزية، حيث كل نشأة مسبوقة دائمًا بنشأة قبلها وكل تحلل متبوع دائمًا بتحلل بعده، لا يوجد إلا الجسد الحي؛ لا توجد أجنة (ما ينشأ) ولا جثث (ما يتحلل). أما في دورة الحياة المقلوبة، حيث يسبق الموت الولادة، لا توجد إلا الأجنة والجثث؛ لا يوجد جسد حي. "حشرة" لايبنتز (أو جزء منها) تحيا قبل أن تولد وتظل حية بعد أن تموت،[35] أما الحشرة المناقضة (ذكر السوس) فتموت قبل أن تحيا.

ولذلك لا نجد في دورة الحياة المقلوبة سلسلة تحولات بلا نهاية يمر بها نفس الجسد الحي الذي يحفظ نفس الروح على الدوام، وإنما نجد سلسلة تتألف بأكملها من الأجنة والجثث، وروح بلا جسد في بحث أبدي عن جسدها غير الموجود.

لعله من الممكن إذًا تعديل وجهة نظر لايبنتز على النحو التالي: قد يدل انعدام الجنين والجثة على انعدام النشأة والتحلل، ويدل وجود الجسد الحي على انعدام الموت على وجه العموم، أما وجود الأجنة والجثث فلا يدل، بالضرورة، على وجود النشأة والتحلل، كما لا يدل انعدام الجسد الحي على انعدام الحياة على وجه العموم.   


[1]*** Giorgio Agamben, The Open,trans. Kevin Attell (Stanford California: Stanford University Press, 2004), 41-42. هذا النقل من وضع المترجم

[2] Malebranche, Dialogues on Metaphysics and on Religion, trans. David Scott (Cambridge: Cambridge University Press, 1997), 176.

[3] المصدر نفسه.

[4] Stillman Drake, Galileo at Work (Chicago: University of Chicago Press, 1981), 289.

[5] G. W. Leibniz, The Monadology, in Philosophical Essays, trans. Roger Ariew and Daniel Garber (Indianapolis: Hackett, 1989), 222.

[6] Malebranche, The Search after Truth and Elucidations of the Search after Truth, trans. Thomas M. Lennon and Paul J. Olscamp (Columbus: Ohio State University Press, 1980), 296-97.

[7]  Jon Elster, Sour Grapes (Cambridge: Cambridge University Press, 1983), 67-68.

[8] Dialogue concerning the Two Chief World Systems, trans. Stillman Drake (Berkeley and Los Angeles: University ofCalifornia Press, 1967), 103.

[9] D'Arcy W. Thompson, On Growth and Form (Cambridge: Cambridge University Press, 1984), 176-80.

[10] انظر المرجع السابق، ص 107-117.

[11] قد تشبه هذه العيون الزائفة (eyespots) عين الحيوان الذي يحملها كما في حالة بعض أنواع الأسماك، حيث تظهر هذه العين على الذيل لينخدع المفترس ويظن أنه الرأس، وبذلك توجه السمكة مفترسها نحو ذيلها وتحمي رأسها. وقد تشبه عين حيوان آخر وتحديدًا عين مفترس مفترسها، كما في حالة العث: تحمل أجنحة العث عين بومة، أي عين المفترس الذي يفترس مفترسها، الفأر. وقد تكون هذه العيون لأغراض جمالية محضة، ترمي إلى تعزيز القيمة التزاوجية، كما في حالة الطاووس: إذ تزيد قيمة ذكر الطاووس في عين الإناث كلما زاد عدد هذه العيون على ريشه. (المترجم)

[12] D'Arcy W. Thompson, "Aristotle the Naturalist," in Science and the Classics (Oxford: Oxford University Press, 1940), 62.

[13] يقول پيير لوي على سبيل المثال: «يبدو أنّ الفراشات لم تثر اهتمامه [أرسطو] قط...ومن العجيب أنه لم يمعن النظر في المراحل المختلفة لهذا التحول من [عذراء إلى فراشة]. والأعجب من ذلك أنّ جمال ألوان الفراشات لم يجذب انتباهه على ما يبدو،» انظر:

Pierre Louis, La Decouverte de la vie: Aristotle (Paris: Hermann, 1977), 117.

[14] Thompson, "Aristotle the Naturalist," 62-63.

[15] Malebranche, Dialogues on Metaphysics and on Religion, 212-13.

[16] المصدر نفسه، ص 213.

[17] نفسه، ص 213. 

[18] Leibniz to Arnauld, 30 April 1687 , in Philosophical Essays, 88.

[19] يقول، على سبيل المثال: «لا توجد روح بدون جسد تحييه،» انظر:

Leibniz to Arnauld, 9 October 1687, in G. W. Leibniz, Philosophical Texts, trans. and ed. Roger S. Woolhouse and Richard Francks (Oxford: Oxford University Press, 1998), 134.

ويقول أيضا: «كل روح...متحدة مع جسد على الدوام و...لا توجد روح قط بدون جسد،»  انظر:

New Essays on Human Understanding, trans. and ed. Peter Remnant and Jonathan Bennett (Cambridge: Cambridge University Press, (996), 58.

[20] Thomas Harris, The Silence of the Lambs (London: Mandarin,1991), 157.

[21] Montaigne, "Apology for Raymond Sebond," in The Complete Essays of Montaigne, trans. Donald M. Frame (Stanford: StanfordUniversity Press, 1965), 416.

[22] Leibniz, The Monadology, 278التشديد (على نشأة وموت) في الأصل .

[23] Leibniz to Arnauld, 30 April 1687 , in Philosophical Essays, 88.

[24] Leibniz, The Monadology, 222.

[25] Leibniz, New System of Nature, in Philosophical Essays, 140 .

[26] Leibniz, Principles of Nature and Grace, Based on Reason, in Philosophical Essays, 209.

[27] Leibniz, New System of Nature, 141.

[28] Leibniz to Arnauld, 9 October 1687, in Philosophical Texts, 133·

[29] Spinoza, Ethics, part 4, proposition 18, scholium, 1:556.

[30] Louis Althusser, The Future Lasts a Long Time, trans. Richard Veasey (London: Chatto and Windus, 1993), 93.

[31]  أستند هنا على  پاولو كريستوفولايني:

Paolo Cristofolini, Spinoza: Chemins dans ľ''Ethique'' (Paris: Presses Universitaires de France, 1996), 52.

[32] للمرء أن يستحضر هنا رواية حالة بنچامين بوتون العجيبة لسكوت فيتزجيرالد (والفيلم المبني عليها). فدورة حياة بنچامين بوتون مقلوبة، إذ تسبق شيخوخته طفولته. ولذلك لا توجد هنا "شيخوخة أو طفولة بالمعنى الميتافيزيقي الدقيق للكلمة"، تنويعًا على عبارة لايبنتْز. لكن لنتصور قًلبا أشد جذرية من هذا: أن يسبق موته ولادته، وبذلك لا يولد إلا بعد موته، ويموت من دون أن يعيش قط. (المترجم)

[33] Stephen Jay Gould, "Death before Birth, or a Mite's Nunc Dimittis," in The Panda’s Thumb (Harmondsworth: Penguin, 1983),64·

[34] في بحث منشور سنة 1966، وصف السيد البدري ومحمد توفيق دورة حياة جنس عجيب من السوس اسمه Adactylidium. إنه جنس من الإناث فحسب، يعيش على بيضة حشرة التربس، وهذه هي دورة حياته باختصار: تلتصق السوسة المخصبة ببيضة التربس، وبعد مضي حوالي يومين، يفقس البيض (من ست إلى تسع) بداخلها إلى يرقات، كلها إناث إلا ذكر واحد. تتغذى اليرقات على جسد الأم، تلتهمه من الداخل. وبعد يومين إضافيين، تتحول اليرقات إلى حوريات ثم إلى بالغات، وحينها يجامع الذكر أخواته كلهن في بطن الأم. ثم تمزق الذرية جسد الأم، أو ما تبقى منه، وتخرج إلى العالم. فتهرع الإناث المخصبة إلى البحث عن بيضة تربس لتعيد دورة الحياة كرة أخرى، أما الذكر الذي أدى واجبه التطوري على أتم وجه من قبل أن يولد، فلا يلبث إلا أن يموت. في هذا الجنس من السوس، يولد الذكر ثم يموت عاجلًا من دون أن يأكل أو يجامع، لكنه يموت بعد أن يولد على أية حال.

لكن أشار ستيڨِن جاي جولد إلى نوع سوس آخر اسمه Acarophenax tribolii (وهو الذي يعنينا هنا) قريب جدًا من الذي وصفه البدري وتوفيق، ويتبع نفس دورة حياته، حاشا اختلافًا واحدًا: يجامع الذكر البالغ أخواته كلهن (14 هذه المرة) في بطن أمه، ثم يموت من قبل أن يولد حتى. يخصب الذكر أخواته، وبذلك يبلغ غاية حياته، فيدعو―والتشبيه لجاي جولد―ربه، على عجل، بدعوة سمعان العجوز بعدما أبصر المسيح الطفل بعينيه واحتضنه بين ذراعيه، وبذلك بلغ غاية حياته: «والآن ياربي، دع عبدك يرحل بسلام» (لوقا 2: 29)، فيموت في بطن أمه من قبل أن يعيش في هذا العالم لحظة واحدة.

هل يولد (بالمعنى الدقيق للكلمة) ذكر السوس هذا؟ لا، لأنه يموت في بطن أمه. وهل يموت (بالمعنى الدقيق للكلمة)؟ لا، أنه يموت من دون أن يعيش في الدنيا قط. هل يفنى ذكر السوس هذا أو ينقرض؟ لا، وذلك بفضل مجامعته لأخواته وهو في بطن أمه، ومع ذلك لا نراه قط جسدًا بالغًا حيًا يتحرك في الأرجاء، إذ لا يوجد إلا كجنين ثم جثة في بطن أمه.

  لبحث البدري وتوفيق، انظر:

E. A. Elbadry, M. S. F. Tawfik, “Life Cycle of the Mite Adactylidium sp. (Acarina: Pyemotidae), a Predator of Thrips Eggs in the United Arab Republic,” Annals of the Entomological Society of America, Volume 59, Issue 3, 1 May 1966, Pages 458–461.

ولمقالة جاي جولد، انظر المرجع السابق (المترجم).

[35] Leibniz to Arnauld, 30 April 1687, in Philosophical Essays, 88.