يمكن بسهولة تصور الحنق الذي يصيب السيدات -وهنا أتحدث عن سيكولوجيا جماعية متخيلة ناتجة عن موضع السيدات في هذا النظام- لو دخل أحد الرجال إلى العربات المخصصة لهن

ارتكاب المترو

مقال أحمد إسماعيل


الخطوط الثلاثة لمترو القاهرة الكبرى

"قادرٌ أنا على أن أموت مطحونًا على يد محرك

شاعرًا بالاستسلام اللذيذ لامرأة تُضاجَع

فلتقذفوا بي إلى الأفران العالية!

اطرحوني أسفل القطارات!

اجلدوني بحذاء السفن!

هي ذي المازوخية من خلال الماكينوية!

سادية الحداثي المجهول، سادية الأنا والضجيج!"

ألبارو دي كامبوس (فرناندو بيسوا)، نشيد الظفر، ترجمة: المهدي أخريف

مدخل تاريخي ومقدمة شخصية

ترجع فكرة إنشاء مترو الأنفاق لعهد الملك فؤاد الأول، عندما أرسل إليه عامل مصلحة السكة الحديد المهندس سيد عبد الواحد أول اقتراح لعمل المترو، لكن اقتراحه تم تجاهله من قبل الملك ليغلق ذلك الملف ويفتح مرة أخرى بعد نجاح ثورة يوليو وتولّي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي طلب خبراء من فرنسا لإنشاء المترو، وضع الخبراء الفرنسيون تصورًا خاصًا بإنشاء شبكة من مترو الأنفاق تتكوّن من خطين: الأول بين باب اللوق وترعة الإسماعيلية بطول 12 كم، والثاني من بولاق أبو العلا إلى القلعة بطول 5 كم، حيث كانت تلك المناطق تمثل آنذاك مواضع الزحام المتوقعة في المستقبل.

انتقلت إلى القاهرة منذ حوالي خمسة أعوام، أستخدم من ساعتها المترو كوسيلة أساسية للانتقال اليومي. ومنذ أيامي الأولى في القاهرة وأنا ألاحظ ديناميكيات العلاقات في بيئة المترو وأسجل تلك الملاحظات في ذاكرتي الضعيفة. 

الوصف الطولي والمستعرض 

سيلاحظ الناظر إلى خريطة المترو ثلاثة خطوط ملونة ملتوية متقاطعة (عند كتابة هذه الكلمات ظهرت خرائط تتضمن خطًا رابعًا وخامسًا وسادسًا مستقبليين)، يحتوي كل منها على عدة عقد على مسافات متساوية تقريبًا وتمثل كل عقدة محطة من محطات الخط، سيلاحظ أيضاً تقاطعات في المحطات المركزية حيث يمكن الانتقال من خط إلى الآخر. لا تبيّن هذه الخرائط المسطحة الأبعادَ الثلاثية لهيكلة خطوط المترو ولا أيها يقع فوق الأرض وأيها تحت الأرض ولا يمكن استساغة هذه التقاطعات إلا بمعرفة مسبقة باختلاف المستويات الرأسية التي تمر فيها هذه الخطوط الثلاثة، وإلا فإن نقاط التقاطع في الخريطة ثنائية الأبعاد يكافئها في الواقع تصادمات مروعة. 

يمكن تصور كاميرا علوية تلتقط المنظر من فوق الخطوط الثلاثة المزعومة. نلاحظ أنها تقدر فقط على رؤية الخطوط في أماكن معينة تتركها لتندفن تحت الأرض أو تنبثق من تحت الأرض إليها، وتختفي في خلاف هذه المواضع عن أي إمكانية للملاحظة الطولية إلا باستعمال المخيلة. يمكن للملاحظة الطولية الجزئية التي تنقلها هذه الكاميرا أن توفر لنا تصورًا عن:

أولاً: شكل المترو من زاوية علوية وطوله وسرعته.

ثانيًا: شكل بعض محطات الوقوف وحجمها وكيفية انفصالها واتصالها بالشوارع الخارجية أي بعالم ما خارج المترو.

ثالثًا: كثافة الركاب الخارجين من المترو في كل المحطات الملاحظة والداخلين إليه من هذه المحطات دون أن تكون قادرة على تحديد النوع أو السن أو غيرها من المعلومات الديموغرافية.

رابعًا: التنسيق والتزامن بين القطارات المتتابعة وبين الدخول والخروج في المحطات النهائية.

أما الوصف المستعرض فهو الذي يمكن لفرد اختباره في لحظة معينة ومكان معين. معيارية الخبرة هنا هو الفرد البشري وبالتالي فإن العرض هنا ليس خطًا افتراضيًا لا سمك له لكن مجال الرؤية العادية لشخص عادي. 

يمكن لهذا الوصف أن يوفر لنا تصورًا عن:

أولًا: ديموغرافيا مستخدمي المترو وسيتطلب ذلك جمع الوصف المستعرض لملاحظين كثير وليس مجرد ملاحظ واحد.

ثانيًا: أصوات المترو الميكانيكية والأصوات المسجلة وأصوات الركاب وكذلك الأصوات الخارجية. 

ثالثًا: إحساسات أخرى مثل الرائحة والملمس والإضاءة والتفاصيل الداخلية للمترو ومحطاته.

رابعًا: شكل العربات الجانبي.

العلامة

لمن يستخدمون المترو لأول مرة فإن علامة المترو المميزة هي دليلهم عليه، العلامة هي دائرة محيطها أحمر اللون ومساحتها الداخلية بالأزرق بداخلها مثمن رمادي يتلامس في نقاطه الثمانية بمحيط الدائرة وينقسم فراغه الداخلي رأسيًا إلى جزئين غير متساويين، تحتل نصفه العلوي الأصغر كلمة مترو بيضاء مضلعة ويحتل نصفه السفلي الأكبر حرف إم لاتيني بلون أحمر، ولمن اعتادوا على مثل تلك العلامة فإن حرف الإم وكلمة مترو يبهتان تدريجيًا وينزويان في خلفية الصورة بحيث لا يستلزم رؤيتها والتعرف عليها لكن يكفي انطباع العلامة بكليتها على الشبكية الطرفية للعين -مقابل مركز العين في المرات الأولى- حتى يترجم المخ تلقائيًا وجود محطة مترو. نلاحظ أن عددا قليلًا من العلامات المستخدمة لها نفس الخاصية البصرية مثل علامة الصولجان والأفعى المميزة لجنس الصيدليات وعلامة النظارة المميزة لجنس محلات النظارات وعلامة المفتاح المميزة لجنس محلات بيع واستنساخ المفاتيح والأقفال. يشتركون جميعًا في الرمز المختزل وفي احتلالهم فراغًا مرتفعًا استعراضيًا يمكن الاستدلال عليه من بعيد. ذلك بالطبع في مقارنة بالعلامات الأخرى الأكثر تخصصًا والتي لا شأن لنا بها هنا مثل علامة بنك قناة السويس أو علامة ماكدونالدز التي لا تدل على جنس عام لكن فصيلة بعينها.

المترو الناطق

ربما يسترعي الميكروفون المتحدث في عربة المترو المكيف بالخط الأول والثالث انتباه المبتدئين ممن لا يعرفون بعد عدد المحطات ولا أشكالها، المتنقلون الجدد، من هم خارج المدينة أو من يستخدم لأول مرة خطًا جديدًا لمترو ناطق. غير أن الغريب هنا هو الإشارة التحذيرية الناطقة في منتصف المحطات غالبًا، التي تطالب الركاب الجدد -يفترض أنهم لم يركبوا بعد- بعدم الاتكاء على الباب أثناء الدخول وبإفساح المكان لكبار السن والسيدات في أماكنهم المعروفة، هذه الرسالة تخص من لا يسمعها ولا يسمعها إلا من لا تخصه غالبا، على الأقل في هذه الدورة من ثنائية الراسل والمرسل إليه، لكن الرسالة، إن كان لها أي وجاهة، وإن استبعدنا اعتباطية التصميم، ليست إرشادية في التو واللحظة لكنها تربوية لما سيتقدم من عادة الركوب، أي أن الرسالة تؤسس عملية متواصلة تعتمد على تكرار المعاملة في المستقبل رغم أنها لا تشير إلى ذلك مباشرة مثلًا أن تقول: بالرجاء عند ركوب المترو المرة القادمة عدم الاتكاء على الباب وبذلك تضعنا في خانة المتشكك والمؤول. تنطق الرسالة باللغتين العربية ثم الإنجليزية ولا يسعنا تجاهل الاختلاف بين أسلوب الرسالة ولهجتها عند المقارنة، فمثلا  حفاظًا على سلامتكم  تترجم إلى for safety بدون أن يكون لضمير المخاطب مكافئًا في الإنجليزية - لا نعلم تحديدًا أيهم هو النص الأصلي وأيهم هو المترجم - كما أن ذكر القاهرة الكبرى في آخر الرسالة تترجم إلى Cairo بدون النعت الزائد على الاسم.

الباعة والركاب

تختلف بيئة المترو كونها مكانًا لممارسة البيع والشراء أو الشحاذة عن مثيلاتها من الأسواق والشوارع العادية في عدة نقاط. أولها أن البائع هو من يختار بيئة التداول وأنه هو المتحرك في مقابل الشاري الثابت نسبيًا. وثانيهما أن بيئة المترو أصبحت مكانًا للتداول لا من حيث التصميم المسبق والمعد لكن كنوع من الالتفاف والمحايلة. وثالثهما أن المواد المتداولة في المترو ليست على هذا القدر من التنوع لما يستوجب من مواصفات خاصة مثل سهولة الحمل والمعاينة، وإذا قورن بالقطار، فسوق المترو يأخذ قدر ما يستطيع صفة التشعب الممتد إلى تفاصيل الحياة اليومية وسلعها، بينما سوق القطار مؤقت ومتقطع ومختزل، يعجز عن التجذر في ديمومة الاستهلاك اليومي. رابعًا أن التنظيم الداخلي للباعة في المترو يفرض ترتيبًا معينًا بحيث لا يعارض بائعٌ بائعًا غيره ولا يزايد عليه. خامسًا أن جمهور الزبائن المحتملة في اصطفافهم الطولي على جانبي مساحة العرض يشبهون إلى حد كبير جمهور المسرح أو الألعاب الشعبية ويشبه البائع الممثل المسرحي أو البهلوان الذي تسمح له الظروف الفريدة أن يؤدي دون مقاطعة دوره المعد بعناية بصرية وسمعية في تقديم سلعته أمام الجمهور. تشبه تلك العملية أيضًا الإعلانات التلفزيونية في أن للجمهور المستمع حقه في الانتباه إليها أو التململ حتى انتهائها لأن مثل تلك الإعلانات ليست هدفه الرئيسي من مشاهدة التلفاز أو ركوب المترو وهذا في مقابلة مع التشبيه بالمسرح.

يلاحظ أن لباعة المترو نمطًا أساسيًا يقل أن يشذ عنه أحد في تقديمهم لبضاعتهم حيث يبدأون بلفت الانتباه عن طريق طلب النظر مباشرة من الجالسين وبعدها في وصف تميز بضاعتهم دون أن يعلنوا عنها مباشرة ويقارنون بين سعرها في أي مكان آخر ثم سعرهم هم ويختمون ذلك غالبًا بالصلاة على النبي محمد في كلمات مسجوعة ومتناغمة وبتلك الدعوات يعلنون انتهاء عرضهم واستعدادهم لتلقي الطلبات ويبدأون بالتحرك من أماكنهم المركزية في وسط العربة إلى أطرافها ذهابًا وإيابًا مدللين على بضاعتهم بكلمات أقل، بعضهم يخترق مجال الجالسين بوضع البضائع على أرجلهم أو إلقائها في حجورهم، يتفادى الركاب المتمرسون ذلك بإشارة يد، متزامنة مع دخولهم في مجال رؤية البائع، ظاهرها الشكر وباطنها الرفض.

الركاب والركاب

تقوم العلاقة بين الركاب في الأساس على المنافسة/التصادم، سواء منافسة في نفس الاتجاه/تصادم جانبي، مثل المنافسة بين مجموع الراغبين في الركوب أو مجموع الراغبين في الخروج أو منافسة في اتجاهات متعاكسة/تصادم مباشر، مثل المنافسة بين النوعين السابقين. وتعتمد تلك المنافسة على افتراض أساسي هو تكافؤ المتنافسين. بينما تنفسخ تلك العلاقة التنافسية، ويتحول التصادم إلى مساعدة، حين يتضح أو يفرض عدم التكافؤ كما في حالة الشيوخ أو النساء أو المصابين بالعجز البدني الظاهر، وكلما كانت المنافسة أشد - قلة المقاعد الشاغرة وكثرة الركاب المنتظرين - كلما قل هامش التقدير الجزافي بحيث ترتفع العتبة الدنيا اللازمة لتعريف عدم التكافؤ وبالتالي التي تستأهل خرق قوانين المنافسة، والعكس صحيح.

تمتلك المقاعد الطرفية القيمة الأعلى بين كل المقاعد لعدة اعتبارات؛ أولها هي قربها من أبواب المترو وبالتالي سهولة الوصول من الخارج إليها ومنها إلى الخارج، ثانيها هي أنها تسترجع جزءًا من المساحة الشخصية التي انتهكها تصميم المترو، أي تقاوم الالتحام-التصاق اللحم باللحم- وتقدم الالتشاء -الالتصاق بالأشياء، الحديد والبلاستيك. وفي تفضيل هذه المقاعد اعتراف بهذا الانتهاك المؤقت المسلم به وفي نفس الوقت محاولة لمقاومته أو الاحتجاج عليه، أو بالأحرى رفض الاستسلام التام له. هل يمكن تخيل مترو يفضل الركاب فيه الالتحام عن الالتشاء؟ هل يكشف هذا التفضيل عن منطق أساسي؟ هل لو قامت علاقة الركاب فيما بينهم على شئ غير المنافسة لتغير الأمر؟ وما الذي فرض هذه المنافسة منذ البداية؟ 

إلى جانب التزاحم الجانبي الذي لا يكاد يدع مساحة بين الركاب، فإن المترو ينتهك المساحة الشخصية بطريقة أخرى غير معهودة أيضًا وهي التقابل. هذا التقابل الساكن غير اللحظي وغير المتفاعل الذي لا نجده بصورة يومية في أي مكان آخر، ربما في عيادات الأطباء والمصالح الحكومية فقط، وحتى في هذه المناسبات غير اليومية بالتأكيد، فإن هناك سياقًا موحدًا يمكن أن يجعل التقابل متفاعلًا، أما في حالة المترو فإنه لا سياق للمكان نفسه - اللهم إذا كان حدثًا له علاقة بالمملكة التي يسيطر عليها المترو وتسيطر هي أيضًا عليه؛ المسافة والوقت كالتأخر مثلًا في إحدى المحطات أو متابعة عروض الباعة في المترو - وعلى ذكر التقابل فإن عربات الترام كما يمكن أن تراها في الإسكندرية أو بعض العربات القديمة للمترو توفر تقابلًا أكثر حميمية، لأن المسافة بين الجالسين المتقابلين أقل من مثيلتها في المترو الحالي، غير أن هذا القرب، في الترام، بانتهاكه الفج للمساحة الشخصية، ونظرًا إلى تصميم هذا التقابل الموازي لخط السير فإنه يوفر عذرًا مقبولًا جدًا وامكانية فيزيقية لإدارة الرأس في اتجاه النوافذ والهروب من المواجهة - أي نظر الوجه إلى الوجه. نعود الآن إلى المترو، حيث خط التقابل عمودي على خط السير، والنوافذ في بعض الأحيان تكون معتمة ومغلقة - كما في العربات المكيفة للخط الأول في فترات الصيف - والمسافة ليست على هذا القدر من الحميمية وانتهاك المساحة الشخصية، وهنا يوفر المترو هذا المزيج الممتاز من الغرابة المحتملة والتردد بين الارتياح والضيق الذي يرد الراكب إلى مساءلة نفسه عن أسباب أحدهما أو كليهما. 

مترو السيدات 

يمكن بسهولة تصور الحنق الذي يصيب السيدات -وهنا أتحدث عن سيكولوجيا جماعية متخيلة ناتجة عن موضع السيدات في هذا النظام- لو دخل أحد الرجال إلى العربات المخصصة لهن، يُكبت هذا الرفض بعد انتهاء الساعات التي تفصل بين منع الرجال والسماح لهم. يتناسب الحنق عكسيًا مع زمن دخول الرجال بعد العلامة الزمنية للسماح (التاسعة مساء)، ويمكن للرجال ممارسة دور الاستباحة في تلك الفترة البينية التي يتكثف فيها الفارق بين الطبيعي ذي الحدود المائعة والصناعي ذي الحدود القاطعة، وبين الاجتماعي والقانوني. لو دخل أحد الرجال إلى عربة سيدات في الساعة 8:57 مساء مثلًا، أي فى الاحتمال الذي يحقق كل الإمكانيات، الاحتمال الذي يتعدى دون أن يُعاقب، لأنه بقدوم المحطة التالية سينتهي الشرط الزمني للتعدي، ولن يستطيع السائق -أو يسمح لنفسه بالتجاهل المتواطئ- أن يزعق في الميكروفون الداخلي "الأستاذ المتواجد في عربة السيدات ينزل في المحطة القادمة وإلا سيتعرض للغرامة"، يمكن تخيل متعة ذلك الرجل -إذا كان فعله هذا من باب ممارسة التعدي الآمن وليس من باب براجماتية خالية من الوجدان- وهي تتغذى على حنق السيدات وشلل القانون، اللهم إلا إذا قررت إحدى السيدات سلب انتصاره هذا بإشارة تجرح رجولته أو تعتمد على اللامعيارية الاجتماعية للزمن -لا توجد ساعات تمثل السلطة الرسمية للزمن داخل عربات المترو- التي لا يستطيع أحد نفيها أو إثباتها-ولا يهم- إذا قالت مثلًا أن الساعة لم تزل 9 إلا خمس أو عشر دقائق. 

غير أن هذا الرفض ليس مطلقًا؛ يتناسب الرفض عكسيًا أيضًا مع السلطة، أي مع السلطة التي يُخول لها التعدي على المحرم، أو بمعنى آخر، مع المستثنى من المنع/التحريم. لنتخيل مثلًا أن سائق المترو يدخل عربة السيدات من أجل إصلاح عطل ما (يحدث هذا أكثر في عربات الترام)، رمزية السائق هنا وسياقه يعطلان مؤقتًا هذا الرفض، بل ويتيحان أيضًا قبول مشاعر السماحية (سماحية شرطية محافظة). لنتخيل رمزًا أكثر كثافة مثل وزير النقل، ثم لننته بالرمز الأعلى كالرئيس أو الملك، ربما نجد أن ذلك الرفض يتحول إلى نقيضه تمامًا، إلى سماحية مطلقة قد تكون مباركة أو شاكرة، غير شرطية ولا سياقية ولا محافظة، إلى حد انتفاء أي صفة عن المكان سوى أنه ملك الملك، يا لكرمه أنني هنا أشاركه مساحته دون أن يطردني منها، وهنا أيضًا تنتفي أي ذكورة نسبية في حضور الذكورة المطلقة. على الناحية الأخرى، يختلف الرفض أيضًا في وجود الخصاء الواقعي والرمزي، مثل الأطفال الذكور- تحديد من هو طفل ومن تجاوز الطفولة أمر شائك يعتمد على عوامل كثيرة- وبعض الباعة، والمتسولين الذين يعانون من ضعف أو نقص جسماني واضح. يختلف الرفض باختلاف الموضع من الآخر على مقياس الندية، مع الاقتراب من الندية يزداد الرفض ويقل مع الابتعاد عنها ودخول الرمزي الأعلى أو الأدنى. 

استعارة المترو

أول ما يلاحظه الركاب الجدد، هو التنظيم المحكم لبيئة المترو، المسارات الصارمة والميكنة والأوتوماتيكيات التي يكسر حدتها باقي العاملين في المترو، من هنا تأتي الألفة الزائدة التي قد يستشعرها الركاب، أو بالأحرى من هم في طريقهم إلى الركوب، في البداية على الأقل، مع هؤلاء العاملين، هي ألفة البحث عن البشري داخل الآلة، الأمل في الهروب من إجبار التكرار الأوتوماتيكي والانحباس في جسد زومبي المترو ولارغبته. يفاجأ المبتدئون أيضًا بتعريف جديد للزمن، بعد انفتاح عربات المترو في المحطة ونزول ركاب وصعود آخرين، وبصوت الصفارة المتكرر السريع الذي لا يمكن ترجمته في البداية ولا الاستجابة له إلا بالحيرة والحذر، ينغلق الباب فجأة وتعلن المقصلة أولى الصدمات الحقيقة في هذا المجتمع الجديد، لا وقت ولا رحمة، يعيد الراكب المبتدئ تعريف الزمن والكرامة البشرية، ينبغي عليه أن يدخل المترو في خلال عدة ثوان، أن يصارع للدخول قبل أن تغلق عليه الأبواب الحدية للجنة-الجحيم، أن يتخلى عن أفكاره السابقة عن الوقت الاجتماعي وعن الاتفاق البشري النافذ (عجوز يصعد إلى الأتوبيس ببطء يساعده آخرون وينتظره السائق)، ويستوعب أن الجميع ضد الآلة، وحيث أن الآلة تنتصر، ولا مفر من اتباع قواعدها، تتحول المعركة ضد البشر بعضهم بعضًا. تتمظهر المقاومة ضد هذا النظام في معركة إبقاء الأبواب مفتوحة، ولو لبرهة، في محاولة فرض الزمن البشري المراعي على الآلة العمياء عن كل احتياج واعتبار، استبدال الذراع الآلي البارد بأذرع بشرية ساخنة وإن كانت أقل قوة، باتباع القانون ثم رفضه أحيانًا، بالخضوع والثورة، بالتقلب وغياب المعرفة المؤكدة، بالرغبة في والرغبة ضد. يؤسس زمنُ المقصلة إيقاعَ المترو برمته، يصبح مدلوله الأولي ووحدة قياسه الأساسية، يعيد برمجة الأفهام والتوقعات، يضبطنا ويعيد ضبطنا على وقع اصطكاكه الحديدي. 

ديالكتيك المترو 

لا يسمح المترو بالعضوي والحيوي إلا باعتباره بضاعة تُنقل، بأقل قدر ممكن من التفاعل أو التبادل. بداية من الأبواب الإلكترونية (كلما تقدمت التكنولوجيا أكثر، نزعت إلى تقليص التفاعل بين الآلة والركاب، قارن مثلًا بين بوابات التذاكر في الخطوط القديمة الأولى والثانية حيث يتدخل الراكب لتحريك الترس المعدني، وبين الخط الثالث حيث تنفتح البوابات وتنغلق مسرعة بلا مساس)، مرورًا بالمقاعد من البلاستيك القاسي الذي لا يفسد والعوارض الحديدة الخالدة، واختفاء أي كتابات أو ملصقات على الحوائط الداخلية للمترو، انتهاء بالاهتمام المبالغ فيه بنظافة المترو، أي خلوه من أي بقايا تدل أن بشرًا كانوا هنا. يدير هذا المنع منظومة متكاملة تبدأ بالتصميم نفسه الذي يحرص على إفساد أي فرصة اختلاء، بعيدًا عن أنظار باقي الركاب، بين راكب وبيئة المترو، أيْ تحريم أيِّ اختبار أخلاقي حقيقي يكون فيه الراكب راغبًا ومسؤولًا عن رغبته (عكس القطارات والأتوبيسات التي تمنح الركاب بعضًا من العزلة تسمح مثلًا بالأكل والشرب، أو لمراهق أن يحفر اسمه واسم حبيبته على خشب المقعد إذا أراد أو لطفل أن ينتف إسفنج المقعد إذا تجرأ) ويزيد عليه وجود كاميرات، في الخطوط الأحدث خاصة، تراقب وتتوعد، ومكبرات صوت تنقل يقظة البصاصين الدائمة. المترو يرفض الحياة ويرفض الموت (الانتحار بالمترو هي رسالة للجميع تذكر بهما؛ الحياة والموت، وتفرضهما فرضًا، في لحظة التحام/التشاء قصوى، على آلية العالم المتنصلة -وهنا أسأل، في صف من تقف الملابس؟)، هو فقط يقبل القانون الآلي، المترو نظرية بحتة بلا تطبيق، والتطبيق هنا يعني النزول لعالم البشر، وتقبل كل الإمكانات والتلاقحات، المترو نظريةٌ جانبها العملي وفيٌ لها فقط يخدّم عليها إلى الأبد ولا يعنيه مطلقًا واقع البشر، قانون المترو هو قانون الوسواس.

أصل المترو تحت الأرض وما فوق الأرض استثناء، أي أن أصل المترو مدفون، ماذا يعني الدفن إذا لم نستطع استخدام كلمة "دفن" للتعبير عنه؟ "تحت الأرض" ربما، وهو الاصطلاح الأنجلوفوني المعروف underground، الذي يختطف المعنى الآخر للكلمة؛ الاختلاف والمقاومة. غالبًا ما يؤدي الدفن إلى مقابله؛ الإحياء من جديد. الدفن المؤقت، مثل دفن الموتى، يعني انتظار البعث، الحركات السرية تتشوف مستقبلًا تخرج فيه إلى النور، تُدفن الكنوز حتى استخراجها. يصحبُ الدفنَ دائمًا ما يعمل عمل شاهد قبر، دالٌ يمثل هذه العملية الإخفائية وهذا الأمل المستقبلي في الانكشاف، المترو دفن أبدي فاشل، مقبرة جماعية بلا دوال، خندق للتخلص من النفايات، الدفن الأبدي والتنظيف الدائم هما محاولتا التطهير القصوى لعزل حقيقة الحياة وتخريجها براقة لامعة لا تشوبها شائبة.

المترو بوصفه حلمًا 

يتحرك المترو في اتجاه متعامد على اتجاه نظر الركاب، وفي المحطات على المستوى الأرضي أو ما فوق أرضي، حيث يمكن النظر إلى ما وراء النوافذ، تخضع العيون إلى عدة احتمالات؛ أولًا الانغلاق، ثانيًا توجيه النظر إلى مواضع داخلية ساكنة نسبيًا (الأرضية، حذاء، نقطة على جدار، كتاب) ، ثالثًا توجيه النظر خارج المترو إلى بيئة ثابتة نسبيًا (صباحًا، اتجاه آخر الخط، بعد نادي الشمس، يحط النور الآتي من الأفق على بآبئ معصورة ونظرات ملجمة ورغبات في الغزو، ينفلت اللجام، تتفرغ الشراهة وتصهل الجياد في البعيد، نعاسٌ حتى المحطة التالية)، رابعًا توجيه النظر خارج المترو إلى بيئة متحركة نسبيًا، وهنا نلاحظ رأرأة العيون (تتابع يتكون من حركة أفقية بطيئة عكس اتجاه المترو يتبعها حركة أفقية سريعة في نفس اتجاهه ثم نعيد الكرة). تتحرك عيون النائم، في مرحلة معينة من النوم، بمثل تلك الطريقة، فيها يمكن للنائم الحالم إذا استيقظ أن يتذكر حلمه، تسمي تلك المرحلة بالنوم المفارق، حيث تشبه إشارات المخ فيه وحالة الجسم الفسيولوجية تلك اللاتي في حالة اليقظة. تتوالى مشاهد الرؤية مثلما في الحلم، ركابٌ في حلم مشترك. خطوط المترو مستقيمة في أغلبها، تفتقر إلى الحركات الجانبية المتشنجة المعروفة في باقي وسائل المواصلات، أو حتى انحناءات الترام ودوراناته (على الأقل يحاول ألا يشعرنا بمثل هذه الحركات لأننا نعلم، إذا اطلعنا على خرائط المترو، أنه في الحقيقة يلف وأحيانًا يدور) ، لأن المترو تصميم صناعي خالص، اقتصادي خالص، لجأ إلى باطن الأرض البكر لتفادي المقاومة، يشبه كثيرًا أحلام اليقظة التي تتجاوز في تخيلاتها الواقع لتنفذ رغباتها.

المترو أيضًا كابوس، وجودٌ محبوسٌ في مساراته الأبدية، يتكرر كصدمة لم تروضها اللغة، ربما ينفلت شيء من الحرية كلما فُتحت محطات جديدة تعد بالخلاص، جدةٌ مؤقتة سرعان ما يستدخلها التكرار في جوفه، كيف نشعر عندما ننحبس في مسارات مدفونة؟ وكيف نستيقظ؟

المترو والفن 

كما هو منيع عن الحياة والموت فالمترو منيع عن الفن أيضًا، منيع عن أي تعبير، كيف يُصاغ المترو كفن؟ وهنا أعني للركاب أنفسهم، أي كفن يومي مَعيش وليس كتمثيل فني في مكان آخر. يترك الركاب بكتيريا وجلد متساقط، غازات عضوية ولعاب، يفر بعضهم من مقص الرقيب، من التنظيف، يُترك في بيئة المترو وينتقل من راكب لآخر كميكروفيلم تهربه الجواسيس، كتواطؤ بديهي غير منطوق، الأنفلونزا إحدى هذه التعبيرات، انتقالات تؤكد التشابك البشري وتقاوم التعقيم العضوي الضاري، النظرات المتبادلة، الكلمات الملتقطة، الضحكات المنفلتة، النشالين والباعة، حركات اقتصادية تميز ما هو حيوي وتملأ الآلة بما لا تستطيع فهمه أو منعه.

يتركنا ذلك مع المؤقت كوسيلة مقاومة، المؤقت في حسابه الفردي هو المستمر في حسابه الجماعي، لكن هل تنحصر المقاومة على ذلك الانتزاع والالتفاف والاختطاف والتواري فقط؟ مواجهة الآلة والتأكيد على آليتها الغبية كنقاط ضعف؟ ألا يؤكد ذلك على نفس الموقف مرارًا وتكرارًا؟ أننا بشر محاصرون لكن لا نستسلم؟ ألا يمكن بلوغ ما هو أبعد؟ فعل راديكالي متجاوز؟ أنسنة الآلة ربما، جعلها تحيا بالمجاز والمخيلة البشرية عوضًا عن قبول حدودها الميكانيكية الميتة، أن نمتد فيها لا أن ننتزع منها، التذاكر رسالة صديق، الحديد كتف استناد، قوانين التسارع ومقاومة الهواء هدهدةٌ في سرير الطفولة، قوابض البلاستيك يد شيخ صلد، أصوات الارتطام صراخ عجوزٍ صماء، حدية الأبواب عضة طفلٍ لثدي، نعيش في عرباتها مجتمعًا حقيقيًا كأنها مقاهي ومتنزهات وأسواق، نختبر فيه حياة ووقتًا حقيقيين -نُدفن فيه ونُبعث منه، بدل أن يكون زمنًا ضائعًا بين أزمنة أخرى مرغوبة (ربما يكون الأمر معكوسًا في الحقيقة، أي أن زمن الانتظار الضائع هو زمن حقيقي، بينما زمن الانفعال والتفاعل هو مُستقطع الزمن الذي يسمع بالعيش، أي أن خبرة العيش الحقة تندس في انقطاعات الزمن). 

يمنع أنسنتَها الاحتياجُ؛ استخدامنا للآلة نفسها كآلة غرضية، حاجة التنقل نفسها -رغبة غير مشبعة في التنقل الآني ترفض لازمنية العيش في المترو فتحوله لزمن انتظار- تنفي الاستئناس وتقف أمام اختيار حقيقي بالامتداد، من أين أتى الاحتياج؟ ومن ينصبه بيننا وبين آلاتنا المستأنسة؟ ويمنعنا أيضًا القانون الذي تخضع له هذه الآلة كما نخضع له نحن، يفرض عليها صفتها المتوحشة ويفرض علينا طرقًا صارمة للاستخدام، يسلبنا اكتشاف سبلاً للمعايشة وابتداع أوضاعًا جديدة، من وضع القانون؟