يأتي التتويج الأخير لعمل الأفلام، لمساعيها في فصل الإنسان عن الواقع، في اللقطات المقربة للوجوه.
كيف جعلتني الأفلام حزينًا؟
مقال سامح هواري
أتساءل الآن بجدية، وبغضب، وببعض الكراهية ربما، كيف لتلك الصور المتحركة، المزيفة، أن تملك علي أمري بهذا الشكل، كيف لها أن تنطبع في ذاكرتي ومخيلتي، في هذا الجزء العميق من نفسي، كمثل عليا تتخذ مكانها في عالمي، كمثل عليا أسعى دومًا تجاهها، كيف لحياتي أن تنحى هذا المنحى؟ استنادا لمخيلات مريضة "تأفلم" الواقع، تغرقه في الحلم والاستعارات، وتغرقني معها في غياهب المشاعر الثائرة، كبركان يطفو على سطح الأرض فيذيب ملامح الأشياء والحقائق، هذه محاولة لفهم الأمر، للتطهر الذاتي ربما.
لماذا الأفلام؟
في النصف الأول من القرن السابع عشر وجد ديكارت، ولم يكتفي بذلك بل أعلن فكرته الخطيرة، أنا أفكر فأنا موجود، في محاولة منه لتأسيس معرفة يقينية بالعالم بدأ بالشك في كل شيء، نظر للخارج وقال هذا وهم، رفع يديه أمام عينيه وتسائل من فعل هذا؟ من صوره لي؟ وظل ينزلق في منحدرٍ صنعته يداه حتى اصطدم بأرض من السحر أطلق عليها الأنا، أنا أفكر بكل هذا، أنظر أمامي فأبصر شيء ما، لا يهم إن كان حقيقي أو وهم، المهم أن هناك أرض تصطدم بها الأفكار والأشياء، "أنا" لا يمكن الشك فيها، إنكارها نفسه يثبت وجودها، وظل المسكين هناك، في مجال من الوضوح الزائف، لم يخلق سجن الأنا ولكنه فعل ما هو أبشع، جعله عام وسهل الإدراك، كڨيرس خرج من المعمل، ليضع ما تلاه من مفكرين وفلاسفة في مأزق لم يتخلصوا منه بعد.
رحل ديكارت وترك رفاقه جزر منعزلة، ينظر أحدهم للآخر فيبحث عن طرق تثبت أنه موجود، بعدما كان سجن الأنا مقتصر على الخاصة، الرهبان والنوادر من المهمشين، خرج السجن يحاوط الجميع، انكشف تحت الشمس لعيون المارة في الشوارع، ربما ساعدت التحولات التاريخية بعده على هذا الانتشار، ربما كانت جميعها رد فعل على هذا الوضوح، تفاعل معه وهرب منه.
تدرك الأنا ذاتها بمعرفة مهووسة باليقين، يقين مقدس لا يحتفي سوى بالمباشرة، بالاستغراق في أكثر الأمور وضوحا، في الانطباعات الداخلية، هذه الانفعال تجاه العالم يعطي للذات هويتها، وتظهر على هامشها إشارات للخارج، لما هو غير الذات، للعالم والأشياء والأشخاص، الآخر الذي تنعكس عليه الانطباعات، هنا يظهر هوس مضاد، بالعالم الخارج عن السيطرة، بمرآة تنعكس عليها صورة الذات، تتعرف الذات من خلاله على هويتها، ما ينتمي لها وما لا ينتمي، وهنا يظهر التجلي الأول للصورة، لمثال عالٍ تتوق إليه الذات.
ذلك الهوس بالمرآة، باستهلاك قصص الآخر، يحمل فعل تأكيد مستمر، أن هناك شيء ما خارج سجن الأنا، خارج هذه الوحدة اللانهائية التي تحيط بنا، وحدة هي مجال الوجود لكل شيء، الخلفية التي يقفز أمامها الآخر، كلاعب سيرك يقفز بين أدواته ليثير الانتباه، في هذه الصورة، الأنا هي الجمهور، الجالس في الظلام، والوحدة هي المسرح الذي يستوعب الجميع، الضوء اللامع والظلام، اللاعب والأدوات والجمهور، أصبحت الوحدة هي المسرح التي توجد عليه كل الأشياء، كلٌ له دور بداخله.
شيء ما فقد، ربما للأبد، ذلك الاتصال مع الخارج، التعامل مع العالم بشكل غريزي، كعضو ينتمي لجسد، عندما أخرج كوبرنيقوس الأرض من مركز الكون دق ناقوس الخطر، بداية خروج الإنسان من الطبيعة، ودق كون نيوتن الميكانيكي المسمار الأخير في نعش الإنسان ابن الطبيعة، ليولد انسان جديد، تنظر الأنا من شبابيكها، العينان في مقدمة الجمجمة، على العالم، تلاحظه وتكتب عنه، ترثيه وتهجوه وتستنبط نواميسه، تتأمل تمثيلها له، تعرف العالم كمجموعة من الصور المتحركة، التمثيل الذي يقف الإنسان خارجه، هنا ظهرت القصص في ثوب جديد، لم تعد عن الآلهة والأبطال، بل عن الآخر المستضعف، عن دون كيشوت المختل، عن انفصال الإنسان عن المحيط، فمرة يستيقظ في جسد حشرة، ومرة يستيقظ على حقيقة جنس آخر يستغله، يعزله في وعاء كيميائي يرسل لعقله الإشارات اللازمة للتحكم به وعزل عن العالم، وتتعقب الكاميرا الوجوه في شوارع المدينة أمام المباني الشاهقة، ازدحام من الجزر، من الفجوات بين الأنا والآخر، نفس النموذج في كل الأفلام، الإنسان في لحظة ما وهو مسجون بالداخل، ينقطع اتصاله بالعالم، هذا الكابوس الذي لا يمل مطاردتنا. ظهرت الأفلام أخيرًا، كوسيط يرى الإنسان الآخر من خلاله، يتصل معه ويفقد نفسه في ذلك الآخر المتمثل على الشاشة يعرض منظوره.
كيف تعمل الأفلام؟
يمكن وصف الأفلام بأنها ترتيب محدد لعناصر عديدة في الطبيعي منثورة في العالم، مهمة صناع الأفلام هي الاختيار والجمع والبناء والترتيب، تقف الكاميرا بزاوية معينة، تلتقط مجموعة من الصور لعناصر تقف أمامها بترتيب محدد بشكل مسبق، ويتصرف الممثلين وهم يعلمون مسبقًا بكون هذه التصرفات يتم تصويرها، في كتاب اللغة السينمائية يشبه مارسيل مارتن السينما بتوزيع موسيقي للعالم، الإمساك بملايين الإيقاعات الموزعة عشوائيًا في الطبيعة وترتيبها في هارموني، نموذج يقول شيء ما، شخصيات لها صفات محددة، حتى وان كانت متناقضة فهذا التناقض له مبرر ما، إن لم يظهر على الشاشة فهو في رأس الصناع وعلى المشاهد أن يلتقطه، أن يتمثل الشخصيات بحثًا عن هذا المبرر، وهناك مجموعة من الأحداث تتدفق عبر الزمن، ويحتوي المكان في الأخير على كل شيء، الديكور المختار أو المصمم من قبل ليحتوي النموذج، هذه الصورة من العالم لها منطق داخلي، يجمع بين أجزائها في بنية يحددها الصناع مسبقًا.
لنعد للواقع، يسير المرء في شارع المدينة وينتقل بصره بين الداخل والخارج، تلتقط عينيه أشياء وصور جزئية، كيف لهذه الصور أن تحتوى هذه الأشياء والعلاقات بالتحديد؟ على أي أساس يتم الاختيار للأشياء التي يتم تكبيرها وتحليلها وفهم العلاقات بينها؟ لا أملك إجابة على هذا السؤال، ولكن في النهاية هذه العملية تحدث داخل الإنسان، يتفاعل الإنسان مع العالم وحيدًا، في حضور أناه تفرد سيطرتها على العالم، تصبغه بصبغتها وتجعله بشكل ما ملك لها، ملك لقصتها، في تلك القصة الأنا هي البطل، الجلاد أو الضحية، الفاعل أو المفعول به، لا يهم سوى أن هذه روايتها، والعالم بأكمله، بكل اتساعه وغموضه، هو الآخر الهامشي، دوره الوحيد أن يعكس هذه الأنا فيجعلها تدرك نفسها.
ولكن في عالم الفيلم الأمر يختلف، في 1946 صنع المخرج روبرت مونتجومري تجربة نادرة في السينما، في فيلمه سيدة في البحيرة، حيث صور كل أحداث الفيلم من خلال منظور البطل فلا نراه على الإطلاق ولكن نرى ما يراه دائمًا، ما حدث أن فشل الفيلم مع الجمهور، ويصف ألبرت لافاي مشكلة الفيلم بقوله "الخطأ في هذا الفيلم هو أن المخرج خلط بين تمثل المتفرج لنفسه في شيء وهمي وتمثله لذاته في الشخصية الرئيسية"، لا توجد السينما ليتمثل الإنسان ذاته بل ليتمثل ذاته في الآخر ويتماهى معه.
لا تلتقط الكاميرا الواقع، لا يمكن للفيلم أن يتخلى عن الإخراج، عن هذا الإيجاز الذي يلزم عن الاختيار والقص والترتيب، عن ترتيب العناصر بداخل الكادر، لا يمكن للكاميرا أن تلتقط الواقع الخام وتضعه في المتحف، فلابد في البداية -على الأقل- أن يعرف المخرج ما هو هذا الواقع الذي لابد وأن نحتفظ به في المتحف، طبيعة السينما كوسيط تحتم ذلك، ما من شيء طبيعي أمام الكاميرا، ما يراه المشاهد على الشاشة لا يماثل الواقع الذي يدركه بعينه، وتمتد له أناه، ولا هو حتى الواقع كما يراه المخرج، إنما هو مجاز لهذا المواقع، لتلك الصورة التي تقبع في رأس المخرج، حتى وإن أراد المخرج أن ينقل الواقع كما هو، لا يصل للمتفرج في النهاية سوى هذا المجاز.
يقسم مارسيل مارتن الإيجاز في السينما لثلاث فئات، الأول هو الإيجاز الذي يكفيه كون السينما فنًا، وهي كامنة في عنصري الاختيار والتنظيم، والإيجاز الذي تتطلبه دواعي البناء الروائي، كلقطة القتل الشهيرة في فيلم سايكو لهيتشكوك بدون إظهار الطعنات، والإيجاز الذي تبتعثه أسباب ذات طابع إجتماعي كاللجوء لطرق مناورة للتعبير عن حدوث مشهد جنسي في المجتمعات المحافظة، ما يهم هو أن هذا الإيجاز يقع في قلب الأفلام، يجعلها موازية للواقع ومنفصلة عنه، يهرب الإنسان من واقعه ومن ذاته خلالها، يغرق في رمزيتها وتكثيفها وينسى فعل التأكيد الممل والمؤلم للأنا داخله، لتلك الوحدة المتمكنة منه.
ويأتي التتويج الأخير لعمل الأفلام، لمساعيها في فصل الإنسان عن الواقع، في اللقطات المقربة للوجوه، توجد هذه اللقطات في قلب صناعة الأفلام، تفخر بها السينما كأكثر ما يميزها عن الفنون الأخرى، يعيد المخرجون صناعتها بلا كلل، وبالرغم من تقليديتها الشكلية، ففي النهاية لا شيء جديد في وجه به أنف وفم وعينان، ولكنها مع ذلك تمثل مصدر فتنة لا مثيل له، للمتفرج وللصانع على السواء، هنا يحدث صدام، غموضٌ ما يملأ المشاهد بطاقة لا حول له بها، بديهية الشكل تقع في صميم هذه التجربة، بداهة عصية على الفهم، تفتح باب لعالم خارج سجن الأنا، بابين على التحديد، هاتان العينان، لا ينظرون للخارج بل يعكسون ما يدور على الجبهة الأخرى، كتلة اللحم المشتعلة، النيورونات في لحظات حميمية تتصل فيها بالأنا، الواقعة خارج المادة، والتي أحضرها ديكارت للوجود، كڨيرس يحول نظر الإنسان للداخل، يحوله لجزيرة تسبح في فجوة فارغة تمثل فاصل بينه وبين العالم الخارجي، في تلك اللحظة، لحظة اللقطة المقربة، يختبر المشاهد -من باب لص- هذه الفجوة، التي تفصل الأنا عن العالم، ولكنها هذه المرة فجوة أنا أخرى، فيتولد في قلبه دهشة، نفي لحظي للوحدة، للمجال المزيف لوجود الأشياء خارجه، لحظة يتصل فيها بالعالم ولكن بدون الأنا، بالغريزة المجردة فقط، يهرب من سجن الأنا وينضم لبقية الأشياء في الخارج، لحظة اتصال يعقبها حزن، تعطي الأفلام لمحة عن عالم بدون الأنا، بدون الوحدة كخلفية لوجود الأشياء، لمحة يتعقبها حزن وحسرة على هذا الفراق، على تلك اللحظة المعرفية، ذلك التجلي لما هو إلهي ربما.
المصادر:
العقل: مدخل موجز، جون ر. سيرل؛ ترجمة ميشيل حنا متياس، العدد: 343 من سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2007.
اللغة السينمائية، مارسيل مارتن، ترجمة سعد مكاوي، أقلام عربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017.
* المقال خاص بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه