لم تواتني الشجاعة في فتح كلام أو سؤالها عن أي شيء، خطرت لي فكرة إبراز الكتاب الذي في يدي لعلها تلاحظه، لكنني شعرت بأنها أعرص حركةٍ ممكنة، وأنا لا أختار أعرص الاختيارات، إلا لو اتزنقت.
الجدار الفارغ
قصة لمحمود حمدي
غيرت مكاني في الباص مرة بالفعل، وجدت المكان الأول مشمسًا بشكل مبالغ فيه، والآن في المكان الثاني أشعر وكأن ظهري مصلوب، المساحة بين الكرسي وبين الجدار الذي أمامي صغيرة للغاية، وجسدي كله لا مساحة له.
عاينت المكان من حولي، لا يوجد أحد سوى فتاة تشبه فتاةً أكرهها، تضع ساقًا فوق الأخرى وتلعب في هاتفها، والسائق الذي بلَّط شعره بچِلٍ ما. كنا نجلس في أول كرسيين في الباص، هي على اليمين وأنا على اليسار. من ورائنا فراغٌ مرعب، تلك المساحات التي خُلقت لتُشغل تصير مساحة للرعب حينما تصاب بالفراغ، هناك انتظار لما يمكن أن يظهر، فراغ يُمْلئ بكل ما يُنتظر.
توقفت عن النظر إلى الوراء، أطلت النظر ناحية الفتاة التي تشبه فتاة أكرهها حتى نظرت إليّ وكأنها تقول "فيه إيه هنتصور؟" أشحت بنظري، قررت أن أنهض، سأغير مكاني لا بد من ذلك، لا أشعر بالراحة هنا، فكرت في أن أنزل عوضًا عن تغيير مكاني للمرة الثالثة، وعليه العوض في الخمسة وعشرين جنيهًا، يبدو لي أنني أولي مظهري على ثروتي. ما الذي عند السائق الذي بَلَّط شعره والفتاة التي تشبه فتاة أكرهها لأخشى أحكامهما على تصرفاتي، والله ما أعرف.
بينما كنت قد قررت أن أنهض، انحنى ظهري في المساحة الضيقة بين الكرسي والجدار الذي أمامي، حانت مني التفاتة من يهم بالنزول، تزامن ذلك مع وقوف الباص، خيل لي للحظة أنني مرزق وأنني سأهبط في سلام دون حتى أن أبلغ السائق.
لكنني لم أفعل.
صعدت فتاة. فقررت البقاء.
2
كانت ترتدي بنطلونًا جينزًا، وبلوفرًا بلون بني وبه خطوط خضراء قاتمة، شفتها السفلى مثقوبة ببيرسينج بلونٍ قانٍ، ترتدي حجابًا سكريّ اللون، صعدت وجلست بالكرسي ورائي، كنت محبطًا من مكان جلوسها، فهكذا لن أستطيع رؤيتها. ولا أعلم لمَ شعرت بأنني سأرغب في رؤيتها أكثر من مرةِ ظهورها العرضي.
أخرجت كتابي من الحقيبة بعد أن دفنته فيها استعدادًا للنزول، والآن يبدو لي أنني سأبقى قليلًا.
عاودتني خطط تغيير المكان، نظرت إلى الخلف مرة أخرى ولكن في استقامة تتفادى الفتاة التي جلست خلفي تمامًا. ما زال الرواق خاليًا، بل ويزداد اتساعًا، تتجسد فيه أشباحي إن أطلت النظر، تمنيت لو أنها جلست إلى الخلف أكثر لتملأ هذا الفراغ المؤلم.
لاحظت أن في يديها كتابًا بينما ارتدَّ بصري إلى الأمام. لاحظت أيضًا بشرتها البرونزية، أنا لا سمح الله لا أشيئ بنات الناس، ولكن، إن فعلت، ستكون تلك الفتاة أقرب لكيكة العسل والله.
بغض النظر عن الفكرة المفاجئة التي خطرت لي بالتهامها، لفت نظري الكتاب الذي رأيته. كان غلافه القرمزي يذكرني بشاعر ما، برتقال قاحل، صمم، وآنسات بشعرٍ خرنوبي.
لم تواتني الشجاعة في فتح كلام أو سؤالها عن أي شيء، خطرت لي فكرة إبراز الكتاب الذي في يدي لعلها تلاحظه، لكنني شعرت بأنها أعرص حركةٍ ممكنة، وأنا لا أختار أعرص الاختيارات، إلا لو اتزنقت.
جلست أفكر في معنى كلمة خرنوبي، باقة الإنترنت فرغت، ولم يكن معي على موبايلي سوى مقطوعة لشوبرت على التكرار، أنقذها التكرار من أن تمسح من هاتفي.
كان مشواري مفاجئًا، لم أستعد له جيدًا، لي ذكريات سيئة مع هذا الباص، لنفس السبب، نزول مفاجئ دون استعداد، تتيه فيه فورته علامات أماكن الأشياء وتذوب في الذاكرة فلا تعلم هل سرقت أم ضاعت.
أسندت رأسي على الكرسي وأغمضت عيني، لا شيء، لا شيء على الإطلاق. أغمض عيني أكثر، أعصرهما في محجريهما، لعلي أرحل عبرهما كما اعتدت.
3
بدأت الفتاة التي تشبه الفتاة التي أكرهها بالتأفف، فتحت عيني، لا أعلم هل مر الوقت أم لا، نظرت ناحيتها فوجدتها مجاورة لي، انتقلت من كرسيها في الناحية الأخرى لجانبي، نظرت إلى الوراء فرأيت الباص يمتلئ بالعواجيز، لا أعلم متى أو كيف، أو حتى لماذا، فهذا الباص ينطلق من أمام الجامعة، ولا أركبه إلا وهو ممتلئ بالشباب والشابات من طلبة الكليات. والآن كهول بجلودٍ مكرمشة، يسيل لعابهم على الأرض، أسنان منخورة وضحكات قبيحة، تحت الكراسي وجدت ذراعًا عارية، كانت نظيفة وجميلة، حاولت النظر إلى الكرسي الذي خلفي فرأيت جلوسه أناس آخرين، اختفت كيكة العسل، قاطعت أفكاري الفتاة التي أكرهها وقالت "مشيت من زمان" ثم تأففت من جديد.
نظرت أمامي فوجدت ركبتاي قد ارتفعتا ليصلا إلى صدري، أنكمش، والجدار الذي أجلس بينه وبين الكرسي قد تقدم أكثر، أو الكرسي هو الذي انزاح إلى الأمام، تتضاءل المساحة، لا أشعر بالهواء يسري إلى صدري. كانت الفتاة التي أكره تنظر نحوي بعينٍ بغيضة وهي تتأفف، وصوت اعتراضها يعلو في أذني في كل ثانية، قلت لها "مالك إنتي بتأفإفي ليه؟" لم ترد، نظرت إلى الأمام بعد أن رفعت حاجبيها نحو سؤالي.
من النافذة، حجبت الغيوم الشمس التي غيرت مكاني بسببها، شعرت بالندم، الكرسي الأول كان مريحًا عدا تلك الأشعة التي كانت تبخر السوائل في عيني، منذ العملية وأنا أتجنب الشمس حتى لا أعود إلى النظارات الطبية، ولكنني لو صبرت لعشر دقائق لكنت اجتزت هذه المحنة واستمتعت بالبراح الذي كان بحوزتي.
أخشى أن أغمض عيني من جديد، هناك انتهاك ما يحدث في كل لحظة، وغفلتي أو يقظتي تجاهه لن تفيد في مقاومته، لكنني أشعر بأنه عندما يحدث على غفلة يكون مضاعفًا، تلك العتمة التي كنت أملكها، أغرق فيها وقتما شئت، غابت، لم تعد متاحة، كنت أهرب إليها والآن، عتمتي كلها واقع، أشباح أصبحت معدنية الملمس، مادية، تصطك بأسناني، أركض وراءها لأمسك بها وأسلمها من فوري لغيري، أصبح واقعي هو الرعب الذي يطارد مخيلتي. التزامات، مسؤوليات، كبرٌ لا أوان له في هذا الظرف. ألوان سوداء وحمراء مشتعلة، والأزرق الذي كنت أسبح فيه صار مضرجًا بألوان مغتصبة.
أنظر إلى الفتاة التي بجانبي، ما زالت تنفخ وتزفر، خرجت نيران خفيفة من تأففها، كان جلدها يخرج البخار من مسامه، أخبرتها مرة أخرى "مالك فيه حاجة مضايقاكي؟" لم تنظر إليَّ حتى، وقالت وهي تتأمل الجدار الذي أصبح ملامسًا لكلا وجهينا "كان المفروض أمشي وما مشيتش".
"طب ما تمشي" أخبرتها بسذاجة، نظرت إليَّ في استغراب ثم، نظرت إلى موضع قدميها، وجهت نظري تجاه نظرتها، كانت بلا قدمين اتسعت عيناي ببطء من يحاول أن يشرب سائلًا مغليًا. كيف حدث هذا ومتى!
وللمرة الأولى شعرت تجاهها وتجاه الشخص الذي كانت تشبهه بالشفقة، لا أعرف كيف حدث ما حدث، مكان قدميها فارغ تمامًا كأن لم يكن، سألتها عما حصل، فلم تجاوب، وبالتأكيد ليس بإمكانها أن تغرب عن وجهي.
4
أغمضت عيني، وفتحتها، كانت السماء تمطر بغزارة، شعرت بثقل على كتفي، الفتاة أغفت رأسها على كتفي، توقفت عن التأفف، كان كتابي بين يديها، إصبعها بين صفحتين، شعرت وكأنها خمدت قليلًا، ما زالت تزفر بحرارة، لكنها أقل.
بحثت عن هاتفي لأمضي الوقت، كانت السماء تسيل أنهارًا، كأنما انفجرت منها أعينٌ من الماء، لا تتوقف، الجو في الخارج كله مغلف باللون الرمادي، جدار أسمنتي مصمت لا شقوق فيه، حاولت أن أنادي على السائق الذي بَلَّط شعره، لكنني لم أستطع أن أكوِّن جملة، حاولت النداء مجددًا لكن ما يخرج من حلقي ليس بكلام، ليست لغة حتى. كان الجدار أمامي قد امتد من حولنا، بحثت عن هاتفي فلم أجده، جاهدت لأنظر إلى الخلف فلم أستطع، كانت الفتاة النائمة تثقل كاهلي وتحجب ما خلفها، ندمت على سؤالي لها عما حصل، يا ليتني لم أعرف.
ضاقت ولم تستحكم حلقتها، فقط استمرت بالضيق، كان الجدار قد غطى كل شيء، جدار أسمنتي، لم يترك لي سوى شقٍ بسيط أرى منه هوائل ما يحدث بالخارج، كانت السماء قد تحولت إلى وحش هائج، تنفجر من الأنهار وتسقط منه غزلان مشطورة تهطل دماءً وأشلاءً من لحومها، كانت الحيطان ترتطم بالأرض وتختفي، بعيدًا عن الباص، كان الباص بمنأىّ كل هذا، ولم يصب بأي شيء. ولكنه خطر محدق، كانت كل الأشياء تحث على المقاومة، وأنا هنا، لا أستطيع التحرك خطوة واحدة. أين الحلول الجماعية وأنا لا أرى أي أحد أمامي. حاولت الحديث مجددًا لأنادي على سائق هذا الباص الملعون فلم أجد الكلمات مجددًا. أخرجت لساني لألعن ميتينه فلم أجد سوى نصفه، كتلة عضلية مشطورة بدقة، ولا أمل فيها. أرخيت رأسي على رأس الفتاة التي كانت تشبه فتاةً أكرهها، دفنت رأسي فوق رأسها لئلا أرى أي شيء.
5
كنت أسير في رواق الباص، خرائب ممتدة إلى ما لا نهاية، آخره لا يرى، سرت في عكس اتجاه السائق، كان الجدار الرمادي نفسه قد امتد لكل النواحي، لاحظت به شقوقًا بلونٍ أحمر ينز منها سائل لزج. كأني أسير في قلب كوبري أسمنتي متهالك، فتحت فمي لأتكلم فوجدت لساني، استطعت أن أقول "ألووو فيه حد هنا؟" لم يكن هناك صدى حتى، محبوس في قالب مصمت، لم يعد هناك فائدة من اللغة، بحثت عن هاتفي في جيبي فوجدته، التغطية منعدمة، شغلت مقطوعة شوبرت التي كانت محفوظة مسبقًا، التفت لأسير إلى الأمام أو ما أظنه الأمام فلم يعد هناك فرق، ما ورائي يشبه ما هو خلفي، قربت الهاتف من أذني لأسمع شوبرت، ستاندشين، تشيللو برونو فيليب، إن لم تخني الذاكرة، أحاول أن أتخيلها بتوزيع ماندو العالمي. أدندن "مفيش في حياتي فرحة" على نوتات شوبرت، برزت من عيني دموع لم أعرف مصدرها، كنت أنعي شيئًا ما، وقفت أبكي، تنهمر من عيني الدماء، لا شيء أميزه من حولي، وفي داخلي ثقب مظلم ينادي بالهزيمة.
6
أصبح الباص غواصة، ترك الجدار لي كوةً دائرية أراقب منها البحر الذي صرنا فيه. الفتاة التي ثبتت رأسها على كتفي لم تستيقظ ولو لمرة واحدة، يزداد جسدها ثقلًا على كتفي. بهتت حتى صارت باللونين الأبيض والأسود، ما زلت أنتظر شيئًا ما ليخلصني. أصبح بإمكاني أن أرى انعكاس وجهي في الماء، استطالت لحيتي وتلونت باللون الرمادي، حفرت في وجهي الخنادق، وعيناي كانتا تتوهجان في كل دقيقةٍ مرة، بلون أحمر كالجمر، ثم تبهت، تومض ثم تبهت. حاولت إغماض عيني فاحترقت جفوني من الجمرتين في محجريهما، حاولت مجددًا فلم أستطع، علي أن أبقيهما مفتوحتين دائمًا، مفاضلًا بين ألمين.
سمعت صوتًا لسائل يتسرب من خلفي، لا أستطيع النظر إلى الوراء، لكنه يزداد تدفقًا، حتى تمنيت أن أتسلح بخياشيم قبيل الكارثة لحد ما نشوف آخرتها.
* القصة خاصة بـ Boring Books
** يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بقصته دون إذن منه
One Reply to “محمود حمدي: الجدار الفارغ (قصة قصيرة)”
مبدع و جميل كالعاده